مع الوقت، تتغير صورة الشاعر ومهمته ورؤيته الفكرية. فمن بعد أن احتل الشعراء مكانة تقارب الأنبياء والفلاسفة في العصور القديمة، تخلوا، مع الوقت، عن هذه المكانة، محوِّلين اهتمامهم إلى التفاصيل الصغيرة التي اكتشفوا أنها لا تقل في التأثير عن القضايا الكبرى. بل وصل بالشعراء الأمر أن رأوا في القضايا الكبرى مجرد تلاعب لغوي يضلل الرؤية ويوهم الإنسان بقدرته على استيعاب العالم، ومن ثم تغييره.
من هؤلاء الشعراء الذين تغيرت رؤاهم، فجاءت قصائدهم أكثر اختلافًا وأشد التصاقًا بالحياة، الشاعرة البولندية «فيسوافا شيمبورسكا».
ولدت شيمبورسكا في يوليو 1923، وعاشت في كراكوف بداية من 1930، إذ درست اللغة البولندية وآدابها، ثم علم الاجتماع. ظلت تكتب الشعر منذ دراستها في الجامعة، وكان من المقرر أن يصدر ديوانها الأول عام 1949، لكن الرقابة رأت أنه لا يتفق مع المناخ الاشتراكي على الرغم من أنها كانت منحازة وقتها إلى الاشتراكية، ليصدر أول ديوان يحمل اسمها بعنوان «لهذا نحيا» 1952.
فرادة شيمبورسكا الشعرية جعلتها تحصل على جائزتي «غوتة» 1991، و«هيردر» 1995، فالدكتوراه الفخرية من جامعة بوزنان مايو 1995، فجائزة «نادي القلم البولندي» في مجال الشعر سبتمبر 1996، ثم أخذ اسمها يتردد منذ العام 1989 في قائمة المرشحين لجائزة نوبل في الأدب إلى أن حصلت عليها سنة 1996.
أصدرت الشاعرة تسعة دواوين، هي على التوالي: «لهذا نحيا» 1952، و«أسئلة نسألها» 1954، و«نداء إلى ييتا» 1957، و«الملح» 1962، و«مئة سلوى» 1967، و«كل الأحوال» 1972، و«الرقم الكبير» 1976، و«أناس على الجسر» 1986، و«النهاية والبداية» 1993.
يقول هاتف الجنابي، في مقدمة ترجمته بعضًا من قصائد شيمبورسكا إلى العربية بعنوان «النهاية والبداية»: «هي شاعرة التفاصيل والتناقضات بامتياز. شاعرة ما أسماه النقد العربي القديم بالجزالة الشعرية والسهل الممتنع».
قصيدة شيمبورسكا، رغم بساطتها، تجعل القارئ يرى الأشياء كما لو لم يرها من قبل.
شيمبورسكا من الشعراء القلائل الذين لا يلجؤون إلى الكتابة إلا من باب الحاجة إلى التعبير، وليس القدرة على التعبير. بإمكانها كتابة قصيدة كل يوم إن هي أرادت، لكن قلة إنتاجها، وطول الفترة الزمنية بين كل قصيدة وأخرى، يؤكدان أنها ترى الشعر نادرًا في العالم ندرة الحق والخير والجمال، ما يستدعي حالة خاصة لاقتناصه وتسجيله على الورق، وأن الحاجة الإنسانية إلى الشعر هي فقط التي تجعل بعضنا قادرًا على كتابته.
الدليل على ذلك أن تاريخنا البشري مليء بالشعراء الكبار أصحاب الإنتاج القليل، إضافة إلى من توقفوا عن الكتابة فور أن تأكد لهم أن الشعر هجرهم، أو بمعنى أدق: هم الذين هجروه بعدما سلكوا في الحياة مسالك أبعد ما تكون عن الشعر (رامبو نموذجًا).
يرى الناقد البولندي «يزي فيا تكوفسكي» أنه «رغم قلة عدد قصائد الشاعرة، فإنها واحدة من أهم الظواهر في الشعر البولندي المعاصر. بساطة وتوصيل غير عاديين. شعر عميق فكريًّا، دقيق بصورة غير عادية، مصحوب بابتكار في صياغاته، الكلمة فيه وسيلة وليست غاية، كل قصيدة تعتمد على شعرية متفردة. ببساطة: إنها شعر خاص تمامًا».
قصيدة شيمبورسكا، رغم بساطتها، تجعل القارئ يرى الأشياء كما لو لم يرها من قبل، فـ«السماء: نافذة بلا إفريز، لا إطار، لا زجاج، فتحة ولا شيء سواها، سوى أنها دائمًا مشرَعة». و«الغيمة... مطوَّحة كقبر في السماء» و«الشيء الذي يسقط في الهاوية، يسقط من السماء إلى السماء».
شيمبورسكا: العابر مهم أيضًا، وربما أكثر أهمية
اهتمام الشاعرة بالتفاصيل الصغيرة ليس انكفاء على الذات بتفاصيلها الهشة، قدر ما هو وعي ما بعد حداثي بالعالم.
«ليست هناك أسئلة أكثر إلحاحًا من الأسئلة الساذجة». هذا ما تؤكده شيمبورسكا، موضحة عدم افتتانها بالقضايا الكبرى قدر اهتمامها باللحظات البسيطة والتفاصيل التي قد تمر دون أن تلفت انتباه أحد.
فالحدث التافه الذي يتمثل في جلوس الشاعرة تحت شجرة، على ضفة النهر، في صباح مشمس، لا يقل أهمية من وجهة نظرها عن المعارك والأحلاف وقتل الطغاة، ذلك لأن شيمورسكا ترى أنه حتى «اللحظة العابرة لها ماضٍ خصيب، جُمعتُها قبل سبتها، أيارها قبل حزيرانها، لها آفاق حقيقية، مثلما في منظار القادة».
انتباه شيمبورسكا إلى التفاصيل جعلها تفقد اليقين وتنزع إلى الشك في كل شيء، الشك الذي هو سمة ملازمة للإبداع. تقول في الكلمة التي ألقتها قبيل استلام جائزة نوبل: «الشاعر اليوم شكوكي ومرتاب، ربما إزاء نفسه قبل كل شيء».
أنْ تبدع يعني ألا تؤمن، وأن ترى بعين ثالثة، وألا ترضيك الأحكام المطلقة التي ترى فيها تعمية على الحياة أكثر منها كشفًا لها. من هنا تؤكد الشاعرة: «يخونني اليقين بأن ما هو مهم.. أهم من غير المهم».
اهتمام الشاعرة بالتفاصيل الصغيرة ليس انكفاء على الذات بتفاصيلها الهشة قدر ما هو وعي ما بعد حداثي بالعالم. فهذه التفاصيل هي التي تحرك كل ما هو قضية كبرى، ولكي تدرك الكل ينبغي أن تكون واعيًا بأجزائه. لأن عدم انتباهنا إلى رفرفة جناح الفراشة في الصين يحرمنا من معرفة أسباب الأعاصير والزلازل التي قد تُحدثها تلك الرفرفة في أبعد مكان عنها.
لذلك، حتى الموت، الذي هو من أكبر القضايا وأهم الأسئلة التي يحاول الإنسان من قديمٍ أن يعثر على إجابة عنه، لا تتناوله شيمبورسكا محاطًا بهالته الوجودية الغامضة، وإنما تلتقط تفاصيل تجعل القارئ يرى الموت شخصية هشة لا تجيد الحياة، فالموت «لا يعرف المزاح، النجومَ، الجسورَ، الحياكةَ، التعدينَ، بناء السفن وتحميص الكعك».
ليس هذا فقط، فالأنكى أن الموت «لا يعرف حتى ما يرتبط مباشرة بمهنته: لا يعرف أن يحفر قبرًا»، ما يجعلنا نكمل ما لم تكتبه الشاعرة مانحة القارئ فرصة أن يقول: من باب أَولى أن نخاف الحياة بدلًا من أن نخاف الموت.
هل يستطيع الشعراء تعريف الشعر؟
حين تحاول شيمبورسكا، كغيرها من الشعراء، أن تقدم تعريفًا للشعر، فإنها تَسقط في فخ «تعريف المعروف». ليكتشف كل من يحاول ذلك أن أصعب مهمة هي أن تقدم تعريفًا لما هو معروف، وأن الخلاص يكمن في أن تعيشه لا أن تعرفه أو تُعرِّفه.
تقول شيمبورسكا: «الشعر؟ لكن ما هذا الشعر؟ قد أجيب عن السؤال بأكثر من جواب قلِق. أما أنا، فلا أعرف، لا أعرف، وأتمسك بذلك، كذراع للخلاص».
التشابه بين الشعر والحياة والحب والإيمان يمتد إلى الوعي بأن نعيشهم أفضل مما نعرِّفهم أو نعرفهم.
الوعي الذي توصلت إليه الشاعرة حول استحالة تعريف المعروف، يلتقي مع ما توصل إليه «بورخيس» في كتابه «صنعة الشعر»، ومفاده أننا «نعرف ما هو الشعر. نعرف ذلك جيدًا إلى حد أننا لا نستطيع تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة واللون الأحمر والأصفر، أو معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب».
هذه القناعة التي جمعت بورخيس وشيمبورسكا (استحالة تعريف المعروف) كشفت عنها قبل ذلك بقرون كلمات القديس أغسطينوس، حين قال: «إذا لم يسألني أحد عن الموضوع، فإنني عند ذلك أعرفه، أما إذا سألني عنه أحدهم، فإنني حينئذ لا أعرفه».
لو طلبنا من عدد متنوع من الشعراء أن يقدموا تعريفًا للشعر، لاكتشفنا أن كل شاعر إنما يعطي تعريفه الذاتي للشعر، وهذا التعريف يختلف بالضرورة من شاعر إلى آخر. المفاجأة أننا نكتشف أيضًا أن كل شاعر يقدم أكثر من تعريف بحسب مرحلته الشعرية ووعيه بالشعر، ذلك الوعي الذي يختلف من مرحلة إلى أخرى، لتختلف بدورها التعريفات.
من هنا يصبح الحل الوحيد أن نكتب الشعر ونقرأه من دون أن نلجأ إلى تعريفه بالكلمات، لأن ذلك ضرب من الاستحالة، ما يؤكد أن التشابه بين الشعر والحياة والحب والإيمان، امتد إلى الوعي بأن نعيشهم أفضل مما نعرِّفهم أو نعرفهم.
مع ذلك، لم تركن شيمبورسكا إلى الاقتناع باستحالة أي شيء، وشأنها شأن جميع الشعراء نراها تحاور المستحيل، وتحاول تعريف الحياة أيضًا، لكن التعريف هنا يكون شعريَّ الرؤية وليس منطقيًّا، فترى الشاعرة أن «الحياة في لحظة الانتظار، عرض بلا بروفة، جسد بلا مقياس، رأس بلا فكرة»، ليكون من المنطقي (فنيًّا) بعدها أن تقول شيمبورسكا: «لا أعرف الدور الذي أمثله. أعرف فقط أنه دوري، غير قابل للمبادلة. حول أي شيء هي المسرحية، ينبغي أن أحزر ذلك على خشبة المسرح».
ألا تعرِض هذه الرؤية لكل من حاول تعريف الحياة؟ ألم ير كلُّ متأمِل أن الحياة تشبه المسرحية، وأننا، نحن البشر، لا نعرف حقيقة أدوارنا إلا على خشبة المسرح/معترك الحياة؟
هذه هي الحياة. فما الموت من وجهة نظر الشاعرة؟ إنه «لا يقدر على حفر حفرة، ولا صنع نعش، وليس في وسعه تنظيف المكان بعد إتمام الحدث. صار مشغولًا بفعل القتل، ينسى القيام بذلك على نحو متقن، يقترفه بلا نظام ولا مهارة، كأن الموت يتعلم في كلٍّ منا درسه الأول».
مهمة الشاعر
الشاعر لا يعمل على تجميل العالم كما يظن بعضهم، وليس مطالَبًا بأن يقول الحقيقة، لأنه أكثر الناس جهلًا بها. وحتى إذا توهَّم أنه تمكَّن من معرفة الحقيقة، فإنه يغدو أكثر الناس شكًّا في ما يعرف. إذ يعمل الشعر على التشكيك في كل ما نستقبله باعتباره بدهيات، ليصبح المؤتلف مختلفًا، والمرئي يفسح لغير المرئي مكانًا في المشهد. فمثلًا نجد شيمبورسكا تتحدث عن «الحب من النظرة الأولى» بمنطق مختلف عن المعهود:
«الاثنان واثقان، أنهما قد ربطتهما مشاعر مفاجئة، جميلة مثل هذه الثقة، لكنَّ الأجمل منها عدم الثقة.. يعتقدان، أنه ما داما لم يتعارفا من قبل، فلا شيء بتاتًا بينهما قد حدث. لكن ماذا تقول الشوارع، السلالم، الممرات التي يمكن أنهما قد تلاقيا فيها؟».
ثم تمضي بنا الشاعرة برفقة احتمالات لقاءات جمعت بين هذين العاشقين من دون أن يدريا ذلك على وجه التحقيق: فربما التقيا ذات مرة في بابٍ دوَّار وجهًا لوجه، لكنهما لا يتذكران، ومن الممكن أن تكون وريقة ما قد طارت من كتفها إلى كتفه مصادفة، لكنهما أيضًا لن يتذكرا ذلك. لتصل بنا شيمبورسكا إلى نتيجة شعرية (ولا أقول منطقية) بأن «كل بداية، هي تتمة لا غير، وكتاب الأحداث، دائمًا مفتوح على النصف».
الشاعر لا يعمل على تزيين وجه الحياة في أعين الناس، بل على العكس، نجده عند الضرورة يكشف وجهها القبيح للقارئ.
إلى ذلك، لم تنس الشاعرة الآخرين الذين لم ينعموا بالحب، إذ نجدها تتساءل معهم (أو بدلًا منهم) عن جدوى الحب، وإذا ما كان هناك حب سعيد من الأساس: «الحب السعيد؟ هل هذا ضروري؟ اللياقة والعقل يقتضيان السكوت عنه، شأنه شأن الفضيحة في حياة الأوساط العليا، يولد الصغار الرائعون دون عونه، لا يمكنه أبدًا أن يعمر الأرض بالناس».
إن شيمبورسكا تُربِّت على كتف الفقراء من الحب، توضح لهم أنهم لم يفقدوا عزيزًا كما يتصورون، وأن شعورهم بالفقدان فقط هو السبب في معاناتهم. لذلك، تجد أن الحل الأمثل بالنسبة إلى هؤلاء الفقراء ألا يفقدوا أعمارهم متعلقين بما لم يحصلوا عليه، وليس أمامهم إلا إنكار وجوده من الأساس: «على الناس، ممن لم يعرفوا الحب السعيد، أن يقولوا بعدم وجود حب سعيد. بهذا الإيمان يكون من السهل عليهم أن يعيشوا ويموتوا».
الشاعر لا يعمل على تزيين وجه الحياة في أعين الناس، بل على العكس، نجده عند الضرورة يكشف وجهها القبيح للقارئ، حتى يكون مستعدًّا لمواجهة الأسوأ. إضافة إلى ذلك تعمد شيمبورسكا إلى نبذ التعلق، ذاك الذي يلغي شخصية المتعلق حال تنسحق في المتعلَّق به.
ربما ينبغي علينا أن نفعل مثل شيمبورسكا، وأن نشكر كل الذين لا يحبوننا ولا نحبهم، لأنهم أنقذونها من أن نتعلق بهم ونهتم بحالهم، بدلًا من أن نهتم بأنفسنا لننجو من الحياة: «أنا ممتنة كثيرًا لمن لا أحبهم، أشعر بارتياحٍ لأنهم قريبون من شخص آخر، بفرحٍ لأنني لست ذئبَ حملانهم، أشعر بسلامٍ معهم، بحريةٍ معهم، وهذا ما لا يمنحه الحب».
كذلك ليس مطلوبًا من الشاعر أن يأخذ بيد قارئه إلى حياة أفضل. فلو كان يعرف أين توجد هذه الحياة، لكان أول الذاهبين إليها. وإنما الشاعر يحدق في الحياة ليرى فيها ما يستحق أن نعيش من أجله، دون تجاهل أن هذه الحياة مليئة بما هو ضد الحياة أصلًا، تقول شيمبورسكا: «هذا العالم المريع لا يخلو من مفاتن، لا يخلو من صباحات تستحق أن نستيقظ من أجلها».
لنردد مع الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا ما ذكره نيتشه في قصيدة بعنوان «أغنية للشرب» وأكده محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».