في عام 1957 أنجز المخرج السويدي «إنغمار برغمان» اثنين من أهم أعماله، «الختم السابع» و«الفراولة البرية»، وهما دون شك من أهم أعمال السينما على الإطلاق.
كان هذان الفيلمان انطلاقته الكبرى نحو السينما العالمية، وصار منذ نهاية الخمسينيات أهم مخرج أوروبي بالإضافة إلى الإيطالي «فيدريكو فليني». وكما تقول الموسوعة البريطانية عن انطلاقة برغمان أواسط ونهاية الخمسينيات: «بعد فيلم ابتسامات ليلة صيف عام 1955، أصابت عالم الأفلام في كل العالم حمى برغمان. ثم حين أخرج تحفتيه الختم السابع والفراولة البرية، تلقف العالم كل أعماله السابقة، وأصبح برغمان أحد أهم شخصيات السينما».
يعد فيلم «الفراولة البرية» من أكثر أفلام برغمان شاعرية وميلودرامية وحنينًا إلى الماضي، وهو مثل أفلام أخرى له، مستوحى من حياته وتجربته الشخصية، رغم أنه حين كتب وأخرج الفيلم لم يكن قد جاوز الأربعين.
الباعث الذي جعل برغمان يؤلف قصة هذا الفيلم هو حادثة وقعت له، إذ كان ذات مرة مسافرًا بالسيارة، وفي الطريق شعر برغبة جارفة لزيارة بيت جدته القديم الفارغ. وبالفعل انعطف واتجه إليه. يروي برغمان تلك اللحظات بنفسه في مذكراته فيقول: «ماذا لو فتحت الباب ورأيت طباختنا القديمة كما كانت تحضر الإفطار؟ ماذا لو دخلت فجأة ورأيت طفولتي أمامي؟».
برغمان متعلق كل التعلق بطفولته، حتى أنه سجل برنامجًا وثائقيًا قبل وفاته بثلاث سنوات، وهو في السادسة والثمانين، تحدث فيه واستذكر بكل تفصيل ودقة حوادث طفولته والأشخاص والأماكن.
كان عنوان الفيلم «الفراولة البرية» إشارة إلى الماضي والذكريات، إذ يفقد بطل الفيلم حبيبته إلى الأبد في حديقة فراولة برية.
بطل وحيد.. خائف من الموت
يحكي الفيلم قصة بسيطة لكنها مليئة بالأفكار والشخصيات. البطل طبيب عجوز اسمه إسحق بورغ، على بعد يوم من استلام جائزة اليوبيل الذهبي التقديرية، وهي جائزة تعطى حقيقةً في السويد لكل طبيب أتم خمسين عامًا في مهنته. هذه الجائزة هي سبب الرحلة التي سيخوضها إسحق بورغ من إستوكهولم حيث يقيم، إلى مدينة لوند في جنوب السويد حيث درس في جامعتها. وهنا طبعا رمزية العودة إلى الماضي وفي نفس الوقت الذهاب إلى النهاية.
خلال هذه الرحلة، التي يقرر بورغ أن يخوضها بالسيارة بدلًا من الطائرة، يصادف شخصيات وأماكن وأحلامًا فيها خليط من حياته الحالية والسابقة. تظهر لنا ملامح الشخصية من أول مشهد، شخص جالس على مكتبه يكتب مذكراته بجوار كلبه، وحيد يبدو عليه اليأس، ويقول: «لقد قطعت تقريبًا كل علاقاتي بالناس». يعيش في منزله رفقة خادمة. وهو للمفارقة ما سيحصل لبرغمان في آخر عمره، إذ عاش سنواته الأخيرة وحده في جزيرة معزولة برفقة خادم. بل إن صفات شخصية إسحق بورغ هي صفات برغمان وقت كتابته للفيلم، فهو يقول في مذكراته إنه جعل ذلك الشخص مثله: «مرهق ومغرور، قد قطع علاقاته بكل شيء حوله».
يؤدي دور بورغ الممثل والمخرج السويدي المعروف «فيكتور خوستروم»، وهو أهم وآخر دور تمثيلي له قبل أن يتوفى بعد صدور الفيلم بسنتين، وحين شارك في الفيلم كان في نفس عمر الشخصية تمامًا (في الثامنة والسبعين).
يعتبر فكتور خوستروم كمخرج من أعمدة السينما السويدية الصامتة، إذ قدم عشرات الأفلام أهمها فيلم «عربة الشبح» عام 1921، ثم ذهب إلى هوليوود، لكن مسيرته الإخراجية انتهت بقدوم السينما الناطقة، فعاد إلى السويد وتفرغ للتمثيل.
تأثير أفلام خوستروم على برغمان معروف وبيِّن، وقد أخرج برغمان مسرحية وفيلمًا عن خوستروم وهو يخرج فيلمه المعروف «عربة الشبح».
يوم واحد.. يمثل البداية والنهاية
تجري أحداث الفيلم في يوم واحد، يوم استلام الدكتور بورغ للجائزة التقديرية. يبدأ ذلك اليوم بالرجل العجوز يفيق من النوم بعد كابوس عن الموت والنهاية. تقرر زوجة ابنه ماريان مرافقته في رحلته الطويلة بالسيارة. وهذه الشخصية النسائية أساسية ومحورية، مع وجود شخصيات أنثوية مهمة أخرى في الفيلم. فالمرأة إن لم تكن بطلة في أفلام برغمان، وهو الأغلب، فهي شخصية أساسية فيها. تؤدي شخصية ماريان الممثلة «إنغريد تولين» في أول أفلامها مع برغمان، وهي التي ستشارك في مجموعة من أهم أفلامه اللاحقة.
في أثناء الرحلة ينضم إلى المسافرين شابان وفتاة اسمها سارة. الاسم المتشابه مع حبيبة إسحق بورغ في الماضي، التي حالت الظروف دون ارتباطه بها. تلعب دور كليهما الممثلة «بيبي أندرسون». نلاحظ هنا أن سارة الوقت الحاضر مثل سارة الماضية، يتنافس عليها اثنان. ووجود هؤلاء الشبان بحيويتهم وأفكارهم الجامحة هو نقيض حال العجوز إسحق، الذي وصل إلى حال الركود والحنين.
يصادف المسافرون زوجين على الطريق. قد تبدو قصتهما لأول وهلة فصلًا منقطعًا عن أحداث الفيلم. يدخلان مسرح الأحداث فجأة حين يكادا يصطدمان بسيارة إسحق، ثم تنقلب سيارتهما على جانب الطريق، في إشارة إلى سوء قيادة الزوجين لحياتيهما. حين يرافقان إسحق في سيارته، نتعرف إلى مدى سوء ومأساوية علاقتهما من خلال حوارهما. لكن الزوج يقول رغم ذلك عن زوجته: «إننا بحاجة إلى بعضنا، ولولا ذلك لقتل أحدنا الآخر».
قصة مأساوية أخرى لزوجين آخرين ترافق رحلة الفيلم. قصة زواج ابن الدكتور إسحق، إيفالد، وماريان التي هي رفيق الدكتور في الرحلة. إيفالد لا يريد من زوجته الحامل الإنجاب، لأنه يرى أن من العبث جلب طفل إلى هذا العالم. إنه في غاية اليأس، ويرى أن هذه الحياة لا تستحق أن تعاش.
ينظر برغمان بتشاؤم إلى الحياة الزوجية، وإلى علاقة الرجل بالمرأة بشكل عام. والعلاقة بينهما عنصر أساسي في أفلامه. ويرى ناقد سينمائي أن كل أفلام برغمان مهما اختلفت مواضيعها فإن «قوامها العلاقة بين الزوجين أو الرفيقين، وما يعتريها من تعقيدات».
كل هذه الشخصيات والقصص الداخلية ذات علاقة مباشرة بحياة بطل الفيلم، لتجلب معها ذكريات من ماضي الدكتور إسحق.
أحلام الماضي والمستقبل
يزخر الفيلم بمشاهد الأحلام من أوله إلى آخره، فهي جزء أصيل من بنية الفيلم. باعث تلك الأحلام هو هواجس تؤرق إسحق بورغ وتلاحقه. والأحلام، كما يقول سيغموند فرويد، تُظهر أعمق ما في العقل اللاواعي من رغبات وأمنيات. أقوى أحلام بورغ وأكثرها تأثيرًا الحلمان الأول والأخير.
في الحلم الأول، وهو كابوس مزعج، يمشي الرجل العجوز في شوارع خالية ذات أضواء شديدة ويقابل الجثث، وهو يدور حول فكرة الفراغ والموت المنتظر. وأعتقد أن هذا الحلم أثر في مشهد النهاية السريالي في فيلم «2001» لستانلي كيوبريك، الذي أكد في مقابلة مع إحدى المجلات أوائل الستينيات أن «الفراولة البرية» من أفلامه المفضلة.
في الحلم لقطة قريبة على وجه الممثل خوستروم، يتحدث عنها برغمان فيقول إن وجهه أشرق، لكأن الضوء قد انبثق منه.
خلال الرحلة بالسيارة تراود إسحق أحلام يقظة. يدخل في بعضها ليرى من خلف الكواليس كيف جرت أحداث ماضيه. بل إنه يرى أشياء حدثت دون أن يشهدها في الماضي. ويشاهد أحداثًا صادمة ظلت تلاحقه، مثل خطيئة زوجته. وفي حلم طويل، يتعرض لاختبار أو محاكمة فيفشل ويُتهم بالأنانية والقسوة وعدم التسامح، ويُحكم عليه بالوحدة.
في الحلم الأخير، وهو رؤيا جميلة، يتطلع العجوز بشوق إلى الضفة الأخرى من البحيرة، وينظر بحنين إلى والديه، لربما يعني العالم القادم والجنة. في هذا الحلم لقطة قريبة على وجه الممثل خوستروم، يتحدث عنها برغمان فيقول: «أشرق وجه خوستروم، لكأن الضوء قد انبثق منه. كأنه في عالم آخر. بدت ملامح وجهه رقيقة ولمع بريق في عينيه». وكما يقول المخرج وودي آلن، أكثر المخرجين حماسة واقتباسًا من برغمان: «لا أحد يتقن اللقطات القريبة مثل برغمان».
علاقة السينما بالأحلام علاقة أساسية. فالسينما، كما يقول المخرج فيدريكو فيليني، تستخدم لغة الأحلام. وقد لخص بطل الفيلم علاقته بالأحلام والكوابيس بجملة واحدة معبرة: «كأني أريد أن أقول لنفسي حقيقةً لا أريد سماعها وأنا صاحٍ، وهي أني ميت رغم أنني على قيد الحياة».
في النهاية يصل الشيخ إلى التصالح مع ماضيه ومع مشاكل الحياة وحقيقة الموت.
النقد والتأثير
لم يسلم الفيلم، بالطبع، من النقد والنقاد وقتذاك. فهذا الناقد السينمائي الأمريكي البارز «بزلي كراوذر»، الذي كان متحمسًا لفيلم «الختم السابع»، يكتب لنيويورك تايمز عام 1959: «هذا الفيلم محير جدًا، حتى إننا لا ندري هل السيد برغمان نفسه يدري ما يريد بالضبط». ومن النقاد من عاب على برغمان آنذاك اقتباساته المباشرة من الأدب والمسرح السويدي وأفلام فيكتور خوستروم الصامتة.
من الملاحظ أيضًا أن أفلام برغمان الأخرى، مثل «برسونا» والثلاثية الدينية «عبر زجاج معتم» و«ضياء الشتاء» و«الصمت» والأفلام الملونة المتأخرة خصوصًا «فاني وألكسندر»، صارت أكثر شعبية من فيلم «الفراولة البرية». لكن شهرة فيلم ما لا تعني أنه أكثر أهمية من غيره، وفي نفس الوقت، كون فيلم ما أقل تداولًا لا يعني أنه أقل قيمة من غيره. رغم ذلك، فإن لهذا الفيلم تأثير كبير في كثير من الأفلام والمخرجين.
الجوائز لا تعني الكثير، لكن «الفراولة البرية» فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان برلين المعتبر عام 1958.
وودي آلن مثلًا أخرج عام 1988 فيلمًا دراميًا مستوحى من هذا الفيلم اسمه «امرأة أخرى». وفي السبعينيات سُئل المخرج الروسي المعتبر «أندريه تاركوفسكي» عن أهم عشرة أفلام، فكان أحدها فيلمنا هذا. ويلاحظ النقاد تأثير الفيلم على أعمال مخرجين بارزين مثل «ديفيد لينش» والإسباني «بيدرو ألمودوفار» (حتى في فيلمه الأخير «الألم والمجد»).
الجوائز لا تعني الكثير. لكن للتاريخ، فاز هذا الفيلم بجائزة أفضل فيلم في مهرجان برلين المعتبر عام 1958. وقد كتب «جان لوك غودار»، الذي كان وقتها مراسلًا لمجلة «كراريس السينما»، برقية إلى مجلته قال فيها: «الفراولة البرية يحصل على الدب الذهبي. سيناريو رائع يثبت أن إنغمار [برغمان] هو الأعظم».