كان هذا هو العام 1969 حين فوجئ العالم بأن الفنان السريالي الأشهر سلفادور دالي يقدم مادة إعلانية عن نوع من الشوكولاتة.
فوجئ الناس بما اعتبروه «حضيضًا» يهبط إليه الفنان الكبير، مستعيدين ما قاله «أندريه بريتون» عنه من أنه «عاشق الدولار»، غير أن الوسط الفني لم يكن على ذلك القدر من المفاجأة وهو يعلم جيدًا أن دالي رجل مشهدي، يحب أن يكون ظهوره مادة جذابة للإعلام، من شاربه المفتول لأعلى إلى حيواناته الغريبة التي يسير بها في الشارع إلى استعراضاته الفنية المسرحية، انتهاءً بصيحته الشهيرة «أنا لست سرياليًّا، أنا السريالية».
عرف دالي من لحظة انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سيهيمن عليه مجتمع الاستهلاك، وبالتالي فإن مشهديته هي التي تُسيِّر بوصلته وذائقته، ولا تتأتى المشهدية إلا عبر خطة تسويق ذكية تعرف كيف تخطف العين.
صناعة الصورة، خلق الوهم كما يسميه «فيورباخ» في كتابه «جوهر المسيحية»: «في العصر الراهن، الذي يفضِّل الرمز على الشيء الذي يشير إليه، النسخة عن الأصل، التمثيل عن الواقع، المظهر عن الجوهر، الوهم وحده هو المقدس، أما الحقيقة فهي تدنيس للمقدس. سيستمر تعزيز القداسة بشكل يتناسب مع تراجع الحقيقة وتقدم الوهم، بحيث أن أعلى درجات الوهم تنتهي إلى أعلى درجات القداسة».
ما انتبه إليه دالي واستفاد منه إلى الحد الأقصى، وعى إليه مفكرون كثيرون، وعرفوا أن التسويق وفي القلب منه الإعلان ليس مجرد مادة بصرية أو سمعية تستحوذ على وقت من ساعات البث للترويج لسلعة، بقدر ما هو انعكاس عبر دائرة المصالح وعلاقات الإنتاج عن الخريطة الاجتماعية، أو لعله التمثُّل الأكثر أصالة في التعبير عن تبديات المجتمع.
ليست مجرد إعلانات
الإعلانات المصممة للطبقات العليا والمتوسطة تركز على الدعابة أما الموجهة إلى الطبقة الدنيا فتركز على طول فترة الاستخدام.
لا غرابة في أن تعتبر الطبقة الاجتماعية ذات أهمية كبيرة لرجال التسويق، طالما أظهر المستهلكون المستهدفون داخل الطبقة الواحدة بعض التشابه النسبي في أنماط الشراء والاستهلاك والتسوق، فيمكن القول إن الطبقة الاجتماعية لها تأثير فعال على استراتيجيات التسويق.
يحاول رجال التسويق تحديد خصائص المستهلكين المستهدفين في كل طبقة اجتماعية، ممَّا يؤكد أن اختلاف الطبقات الاجتماعية يعكس نسبيًّا قيمًا وأنماطًا سلوكية واستهلاكية مختلفة.
أيضا، الخصائص الديموغرافية والنفسية لأفراد طبقة اجتماعية معينة تفرز مؤشرات قوية لما هو مرغوب أو مقبول في الإعلان المرئي أو المقروء، وذلك أن اللغة والإشارات المستخدمة يجب أن توجه بطريقة بحيث تُفهم أو تُدرك عن طريق أفراد الطبقة الاجتماعية المستهدفة.
على سبيل المثال، الإعلانات المصممة لترويج ملابس الأطفال للطبقات العليا والمتوسطة قد تستخدم كلمات أو عبارات تركز على الدعابة، أما الكلمات المستخدمة في الإعلانات الموجهة إلى أسواق الطبقة الدنيا فيمكن أن تركز على النظافة وطول فترة الاستخدام.
أخيرًا، لكل أفراد طبقة اجتماعية معينة مواعيد وأنماط تسويقية مختلفة عن الأخرى. فيميل المستهلكون من أعضاء الطبقة العليا إلى التسوق من المحلات ذات السمعة العالمية والوجود في أماكن راقية، بينما يرتاد أفراد الطبقة الوسطى المحلات المزدحمة، مقارنةً بأفراد الطبقة الدنيا الذين يذهبون إلى محالٍ تمنح خصومات أو تضع تنزيلات دورية.
من كل ما سبق، يمكن فهم السوق الإعلانية على أنها إعادة تعيين لتوزيع الثروات والمستهدفين من الوقت المستقطع من ساعات البث التلفزيونية، وكيف يمكن فهم المجتمع عبر إعلاناته.
اقرأ أيضًا: هل تحول شهر رمضان إلى موسم «الكريسماس العربي»؟
الإعلانات في مصر: كومباوند وجمعية خيرية
حتى الآن، لا توجد دراسة معتبرة تحاول تصنيف المواد الإعلانية المعروضة على القنوات المصرية الأعلى مشاهدة. لكن بالمتابعة الدؤوبة، نرى أن هنالك نوعين من الإعلانات حازا النصيب الأعلى من الوقت المبذول للمادة الإعلانية، هما إعلانات التجمعات السكنية «الكومباوند» وتبرعات الجمعيات الخيرية بينما تقصلت مساحة ظهور الشركات العالمية الكبرى وشركات الاتصالات والإعلانات التجارية التقليدية في السنوات الخمس الأخيرة.
مصدر من إحدى القنوات المصرية قال لـ«منشور» إن إعلانات الكومباوندات والجمعيات الخيرية استحوذت على 70% من مساحة البث المخصصة في القناة، شارحًا أن هذا لا يقتصر على قناته وحدها، بل إن تلك الإعلانات تهيمن على السوق منذ سنوات، وتتنافس القنوات على الاستئثار بالنصيب الأكبر منها، خصوصًا مع التفات الشركات الكبرى مثل بيبسي وفودافون إلى الإعلان على مواقع التواصل الاجتماعي.
المصدر، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، يؤكد أن هذه الإعلانات بدأت في الظهور منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكان التزامن بين النوعين لافتًا بالنسبة إلى العاملين في المجال: أماكن سكن الأغنياء، والتبرع للفقراء.
إعلانات المجتمع ذي البعد الواحد
في كتابه الأهم «الإنسان ذو البعد الواحد»، يحلل الفيلسوف الألماني «هربرت ماركوزه» ما يبذله الإعلان في سبيل تنميط المجتمع: «إنها حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري، وإذا كان المجتمع يحرص على تلبية هذه الحاجات المصطنعة، فليس ذلك لأنها شرط استمراره ونمو إنتاجيته وحسب، بل أيضًا لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان ذي البعد الواحد».
«وما الإنسان ذو البعد الواحد إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية، والحقيقة بالخيال والواقع بالصورة، والروح بالجسد، وإذا كان هذا الإنسان يتوهم أنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية حاجاته، فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنه مُنِحت له حرية اختيار سادته».
تحليل ماركوزه يذهب إلى ما هو أبعد من فهم الخريطة الاجتماعية عبر المادة الإعلانية، إلى محاولاتها للهيمنة على أفكاره. وبتمثُّل التحليل فإن الطبقات الأغنى في مصر في حاجة دائمة إلى أماكن معزولة، شرط «الأمان» في مجتمع مضطرب سياسيًّا واجتماعيًّا منذ سنوات. العزل والأمان هما السلعة الأساسية التي تقدمها هذه الإعلانات للطبقة الأعلى، مع الامتياز الثابت في معظمها: «على بعد دقائق من قلب المدينة»، أي أنها تقدم امتيازًا إضافيًّا هو القدرة على الابتعاد عن المدينة مع إمكانية الوصول إليها سريعًا.
أما الطبقات الدنيا والمتوسطة الدنيا، فالوهم الإعلاني الخيري يفترض، بشكل غير مباشر، خصوصًا مع غزارة هذه الإعلانات وتعدد الجمعيات الخيرية، أن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع في كفالة هؤلاء المحتاجين، بعد أن رفعت الدولة يدها عن مهام وجودها الأساسية: تحقيق السلم الاجتماعي عبر تفعيل المؤسسات. فإذا كانت الكيانات الطبية ووزارات التضامن الاجتماعي لا تؤدي بدورها، فالبديل الوحيد هو المشاركة المجتمعية.
هذا هو الدور الذي تلعبه الإعلانات في «تنميط الإنسان»، فهي علم تحويل الأشياء إلى أدوات مروَّضة لاستغلالها في أغراض اجتماعية وحضارية، إذ لم يكتفِ المجتمع بتزييف الحاجات المادية في نظر ماركوزه، بل زيَّف الحاجات الفكرية، والحاجة إلى التكافل الاجتماعي عبر التبرع نموذجًا. يجعل هذا الطبقة الأدنى مسؤولية الطبقات العليا والمتوسطة العليا، إنه «حق المجتمع» الذي يُدفع عبر رسالة هاتف محمول أو تبرع رمزي.
الخطورة هنا ترفع الحرج عن الدولة من ناحية، والالتزامات القانونية عن هذه الطبقات تجاه الدولة وقوانينها من ناحية أخرى، وليس أدلَّ على ذلك من تبرعات رجال الأعمال بالملايين للمؤسسات الخيرية في مقابل القمع الجبري للعاملين في شركاتهم ومؤسساتهم دون حقوق عمل واضحة. المسألة إذًا أبعد من مجرد إعلان خيري.
يقول ماركوزه إن «الجهاز الإنتاجي والسلع والخدمات التي ينتجها تفرض النظام الاجتماعي، فوسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات المسكن والملبس والإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ والإعلام، هذا كله تترتب عليه مواقف وعادات مفروضة وردود أفعال فكرية وانفعالية تربط المستهلك بالمنتج، ومن ثم تربطهم بالمجموع. إن المنتجات تكيِّف الناس مذهبيًّا وتُشرِّطهم، وتصنع وعيًا زائفًا عديم الإحساس بما فيه من زيف».
قد يعجبك أيضًا: لماذا تغيرت استراتيجية العلامات التجارية لجذبنا؟
الوهم الإعلاني وترويج الامتياز الطبقي
من المفارقات اللاذعة في إعلانات التجمعات السكنية المرفهة، وكيف أن الوهم الإعلاني يقدم امتيازات وهمية، أن ما تطرحه من «مميزات» في هذه الأماكن المنعزلة: مواقف سيارات، حدائق، أماكن للأطفال، مجمع تسوُّق، هي مواصفات «الحد الأدنى» للتجمعات السكنية العمرانية، بل تُعتبر جناية عمرانية خارج مصر إذا لم تتوفر هذه الشروط في أماكن السكن، وتُوقَّع على منفذيها غرامات مادية وقانونية.
يحدث هذا في تجمعات سكن الطبقات المتوسطة، كما يبين أستاذ العمارة في الجامعة الأمريكية عزت طاز، وبالتالي فإن «الوهم الإعلاني» يشمل أيضًا الطبقات العليا التي يروَّج لها ما تعتقد أنه امتياز طبقي، وهو حق طبيعي.