منذ فضيحة الفيديو المُسرب لدونالد ترامب، الذي يقول فيه إنه تحرش بامرأة متزوجة، ثم فوزه رغم ذلك في الانتخابات الأمريكية، لم يعد هنالك حقًّا ما يثير الدهشة، بالذات موقف الرئيس الأمريكي المتغير من حقوق النساء.
في مطلع عام 2017، وقَّع ترامب مرسومًا يوقف التمويل الفيدرالي عن المنظمات غير الحكومية التي تعمل في مجال الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، خلافًا لما وعد به في حملته الإنتخابية المثيرة للجدل، وأكد أن أي طبيب ينفذ عملية إجهاض سيكون عُرضة للمُساءلة القانونية.
«مارجريت آتوود»، مُؤلفة رواية «The Handmaid's Tale» المقتبس عنها مُسلسل بالاسم نفسه، علَّقت بأن تلك الانتهاكات الحقوقية دفعت بروايتها إلى قائمة الأعلى مبيعًا.
أشارت آتوود إلى أن ما يفعله ترامب حدث من قبل في رومانيا عندما كانت تحت حكم «نيكولاي تشاوشيسكو»، الذي أجبر كل امرأة على الخضوع لاختبار حمل شهري، وإن جاءت النتيجة بالسلب كان عليها أن تذكر السبب، ممَّا تسبب في امتلاء دور رعاية الأيتام وزيادة حالات الانتحار، فإجبار النساء على إنجاب أطفال لا يستطعن تحمُّل نفقاتهم، يُعَد نوعًا من الاستعباد.
جمهورية جلعاد الحديثة
في المسلسل، تسبب التلوث في ارتفاع معدلات العُقم وتشوه المواليد، لذا منع القانون وسائل منع الحمل وعمليات الإجهاض.
صدر الموسم الأول من مسلسل «The Handmaid's Tale» بعد قرابة ثلاثة عقود من الاقتباس السينمائي الضعيف للنص الروائي. ويتكون الموسم من 10 حلقات طُرحت على خدمة «Hulu»، المتخصصة في بث الأعمال السينمائية والتليفزيونية عبر الإنترنت.
تدور أحداث المسلسل بعد وقوع عمليات تفجيرية في البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي، نظمها «إرهابيون» بحسب ادعاء الحكومة في ذلك الوقت. تبِع ذلك انقلاب مسلح نفذته مجموعة يمينية تسمي نفسها «جماعة أبناء يعقوب» (Sons of Jacob)، فرضت حالة الطوارئ وجمدت العمل بالدستور، ثم مرَّرت قوانين جديدة مستوحاة من نص العهد القديم.
تسرد علينا خادمة اسمها «أوفريد»، تلعب دورها «إليزابيث موس»، الوقائع التي شهدتها أو سمعت عنها في جمهورية «جلعاد» الحديثة، بعد أن أُرسلت إلى منزل أحد قادة النظام الجديد من أجل تلقيحها. ففي ذلك الإطار «الديستوبي» القاتم، تسبَّب التلوث الناجم عن الصناعات الثقيلة ومخلفات المفاعلات النووية في ارتفاع معدلات العُقم وتشوه الأجنَّة، ومن بين كل أربعة أطفال يولد طفل واحد سليم. لذا منع القانون وسائل منع الحمل وعمليات الإجهاض.
اقرأ أيضًا: الإجهاض في العالم العربي: «لا أحد يرغب في الحديث عن الأطفال الميتين»
إجراءات مؤقتة لمواجهة الإرهاب
«أودُّ أن أعتقد أن هذه مجرد قصة أحكيها، فأنا بحاجة إلى أن أصدقها. ينبغي عليَّ أن أصدقها، فأولئك الذين يستطيعون أن يصدقوا أن مثل هذه القصص ليست سوى مجرد قصص، تكون لديهم فرصة أفضل». أوفريد، الحلقة الأولى من المسلسل.
تجمد الدولة رصيد «June» بطلة المسلسل في البنك وتسرِّحها من العمل، لكنها تطمئنها بأنها إجراءات مؤقتة لمواجهة الإرهاب. يصدق الجميع، لكن منذ تلك اللحظة يتغير كل شيء.
قالت الحكومة إن الابتعاد عن قوانين الرب خفض معدل الولادات، ومِن هنا صارت النساء الخِصبات مِلكية متداولة بين قادة الدولة.
يُلقى القبض على كل من خالف شكل الدولة الجديدة، مثل الراهِبات والمثليين والنساء غير المحتشمات، ويوزَّعن على مختلف قطاعات الدولة. توضع النساء الخِصبات في مركز تأهيلي لإعدادهن للوظيفة الجديدة: خادمات، يؤدين وظيفة الأمهات البديلات (Surrogate Mothers) في عصرنا الحالي.
قد يهمك أيضًا: فتاة مثلية في مجتمع عربي: أبعاد إضافية للقهر
تُصر دولة جلعاد على أنها لم تفعل شيئًا يُذكر، بل عادت فقط إلى التقاليد المحافظة التي نسيها الناس. وقالت الحكومة إنها جاءت لتحرير النساء من سجونهن، فلقد كانت النساء حبيسات المظاهر الشكلية، فنسين الهدف البيولوجي الأسمى: إنجاب الأطفال.
بسبب ذلك التشتيت والابتعاد عن قوانين الرب السماوية، انخفض معدل الولادات بهذا الشكل الفظيع. ومن هنا تصير النساء الخِصبات مِلكية متداولة بين قادة جلعاد، فيتغير اسم «June» إإلى «Offred»، أو «Of-fred»، أي مِلك القائد «فريد»، لكن هل رسالة الدولة الجديدة صادقة؟
هوس مجتمعي بحياة النساء
«وأنا أعرف السبب في أن زجاج النافذة من النوع الذي يصمد أمام الكسر أو التناثر، فهم لا يخافون الهروب، إذ لا يمكننا الذهاب لمسافات بعيدة. إنها تلك الحالات الأخرى من الهرب، تلك الحالات من الهرب التي يمكنك أن تفتح لها طريقًا في داخل نفسك إذا تمكنت من الحصول على شفرة حادة».
حُرِمت النساء من أشياء كثيرة في تلك الدولة، فغير مسموح لهن بالقراءة أو الكتابة، أو التحرك بحرية، أو استخدام مساحيق التجميل، أو ارتداء ما يخالف الملابس الرسمية، فقد كانت الموضة، حسب الدولة الجديدة، من التفاهات التي انشغلت بها نساء العصر السابق، لذا حددت أزياء مُعينة غير مسموح بالخروج عليها.
اقرأ أيضًا: أبرز الأفلام التي تناولت حياة وقضايا المرأة العربية
عادة شهرية
تحاول زوجة القائد أن تخفي مشاعرها المتناقضة، فهي تريد طفلًا، لكنها تشارك بصورة مستمرة في اغتصاب امرأة مثلها.
«فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من أختها، وقالت ليعقوب: هَبْ لي بنين، وإلا فأنا أموت». سِفر التكوين، الإصحاح رقم 30، الآية الأولى.
يفسر «أبناء يعقوب» باقي الحكاية بأن «راحيل» عرضت خادمتها على يعقوب وطلبت منه أن يعاشرها لتلد لهما أطفالًا، ومن هنا يأتي طقس الاحتفال الذي سنَّته الدولة الجديدة. ففي كل شهر، حين تكون «أوفريد» خِصبة، تستلقي بين ركبتي زوجة القائد ليضع بذوره بداخلها.
بسبب هذه الفاجعة المتكررة كل شهر، نجد «أوفريد» متخشبة الوجه خلال هذا الطقس، تراقب الطيور المرسومة على السقف، وتفكر في ابنتها التي أُخذت منها، وزوجها الذي قُتل. لا تجرؤ على إحداث أي حركة تعطل هذا الطقس، وإلا سيرسلها القائد لتنظيف المستوطنات المهجورة الملوثة بالكيماويات والمخلفات المشعَّة، حتى يتساقط اللحم عن وجهها.
ليس بمقدورها حتى أن تُبدي أي مشاعر، فالجميع في هذا الاحتفال غير مسموح لهم بالخروج عن الحياء. تقبض زوجة القائد على يديي «أوفريد» وتجاهد كي لا يلوث الدمع وجهها، والقائد يؤدي مهمته الميكانيكية ناظرًا لبعيد، مثبتًا يديه حول خصره. فمن غير المسموح له أن يلمس الخادمة.
قد يعجبك أيضًا: المؤنث: رهين رواية ضلع آدم
من المفارقات العديدة في المسلسل أن يُمنع استخدام لفظ «عقيم» لوصف الرجال، وإذا فشلت خادمة في أن تحمَل من قائدها تكون هي المخطئة، لكن الجميع يعلمون أن هذا غير صحيح، حتى زوجة القائد، التي تحاول أن تخفي مشاعرها المتناقضة، فهي تريد طفلًا يملأ حياتها بالسعادة، وفي نفس الوقت تشعر بالاشمئزاز من نفسها، فهي تشارك بصورة مستمرة في اغتصاب امرأة مثلها.
هنا تقترب الأحداث من عالمنا العربي، فآخر إحصائية نشرتها نشرتها منظمة الأمم المتحدة تؤكد أن 37% من نساء العرب تعرضن للتعنيف الجسدي/الجنسي في حياتهن.
اقرأ أيضًا: الحركة النسوية والرجال: لماذا تستمر حرب عمرها 200 عام دون داعٍ؟
عالم شديد الكآبة.. والواقعية
يناقش المسلسل كثيرًا من الأشياء، مثل حقوق الإنسان، وتلوث الطبيعة، وتسلُّط الحكومة واستخدامها وسائل الإعلام. لكنه يختلف عن الرواية في شيء أساسي، إذ تكون «أوفريد» في الرواية شاهدة على الأحداث، ساكنة، غير مُتفاعلة، على عكس النسخة التليفزيونية التي تجعلها أكثر رغبةً في الحياة، وتحاول الفرار من حياتها الفظيعة.
قد يهمك أيضًا: لماذا نعتبر تمرد المرأة مرضًا نفسيًّا؟
اختار صُنَّاع المسلسل سرد الأحداث مُعظم الوقت عن طريق الـ«Voice-Over»، أو المونولوج الداخلي الذي يحدث داخل رأس «أوفريد» لتصريف مشاعرها المكبوتة. فنكتشف أنها ليست غبية، بل تعلم الكثير من الأشياء. تعلم لِمَ طلب القائد منها أن تزوره ليلًا، وتعلم أنها ليست أول خادمة تأتي لمنزل القائد. في غرفتها، تفكر في كل شيء وهي معزولة عن العالم. تقترف كل ما هو محرم: تتهجى الكلمات، تنطق ألفاظًا بذيئة، تتحدى أوامر زوجة القائد وتسعى لإغاظتها.
لإيصال كل ذلك إلى المتفرج، تبقى عدسة الكاميرا شديدة القُرب منها، بطريقة وحشية تجعلنا نقترب من مشاعرها الداخلية. والحقيقة أن وجه «إليزابيث موس» المعبِّر الصادق يجعلك تنسحب إلى عالم المسلسل شديد الكآبة، وتصبح في خِضمِّه.
تلك التقنية التصويرية الفريدة تمنح المسلسل فرصة هائلة عندما يعود في موسمه الثاني عام 2018، بعد نجاح الموسم الأول وترشحه لـ13 جائزة إيمي.
ورغم تولي دونالد ترامب رئاسة أمريكا وعدم توقف تصريحاته الغريبة على تويتر، فإن ذلك سيعطينا بعدًا آخر، يجعلنا نشاهد مسلسل «The Handmaid's Tale» ونتنبأ بما قد يفعله حكام عالمنا المجانين.