ظهر الفنانون الأوائل في العصر الجليدي، عندما انتقل البشر من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى سهول أوروبا الوسطى الغنية بإمدادات وفيرة من الطعام.
في البداية رسموا ما رأوه من حولهم، البشر والحيوانات وطرق الصيد، كمشهد يصوَّر في المغارات وعلى جدران الكهوف. ثم قبل 38 ألف عام، نحت خبير ماهر في جبال الألب الألمانية مخلوقًا سيرياليًا مستوحى من خياله الخصب بطول 30 سنتيمترًا، يُعرف باسم «الرجل المستأسد»، إنسان له أرجل وأذرع بشرية لكن برأس أسد.
يمكننا من هذه النقطة القول إن هذا الشخص هو فنان البشرية الأول، وإن هذا هو أول عمل فني حقيقي معروف، ما يدفعنا لسؤال جاد: ما الذي دفع هذا الإنسان البدائي نحو فعلته تلك؟
السؤال يبدو بسيطًا على تعقيده، ذلك كوننا نتعاطى مع أشكال متعددة من الفنون يوميًا عن طريق التحديق في لوحة أو الاستماع إلى أغنية أو مشاهدة فيلم، وهو أمر اعتيادي للسواد الأعظم من البشر، رغم اختلافنا قوميًا وعرقيًا وثقافيًا، فهل هناك حقًا عنصر مشترك يعطي الفن قيمته؟
الفن: السؤال الحتمي
يشكك بعض المجادلين في إمكانية معرفة العلة وراء قيمة الفن، وحجتهم في ذلك أنه لا يمكن تحديد خاصية أو مجموعة من الخصائص المشتركة في كل ما يمكن أن نسميه فنًا، ذلك أن الفن يتغير على الدوام، بل إنه في الأصل كان متداخلًا مع المناحي والفعاليات الأخرى للحياة الإنسانية منذ أن بدأنا العيش في مجتمعات، إذ كان ممتزجًا بالطقوس الدينية والاجتماعية والآلهة الأسطورية. فضلًا عن أن الفن الحديث والمعاصر قد تعددت مدارسه، بحيث يستحيل استيعاب ذلك جميعًا في تعريف واحد.
وعلى هذا، فإن وضع تعريف أو معيار للفن يعني إغلاق مفهوم الفن على ذاته، الذي هو بطبيعته مفهوم متنوع، ومن ثَم فإنه يعني وضع نهاية للإبداع الفني، الذي هو من أخص شروطه التحرر من أي شروط مسبقة، ولذلك فقد انتهى هؤلاء المجادلون في ماهية الفن إلى رفض القول بوجود خصائص مشتركة بين الفنون أو الأنماط والأساليب الفنية على اختلافها.
غير أن اختلاف أساليب الإبداع الفني على الدوام لا ينال من إمكانية تحديد قيمة الفن ذاته، باعتبار أن هناك شروطًا جوهرية تتعلق بماهيته، وهي شروط ينبغي أن تتجلى في شتى ظواهره المتغيرة، وإلا افتقدت تلك الظواهر توصيف الفن أو حُرِمت منه.
الفن بمعزل عن التصورات الأخلاقية
الفن ليس مع الأخلاق ولا هو ضدها، وهذا يعني بعبارة أخرى أنه محايد بالنسبة إليها.
إن تصورًا كهذا يعتبر هو الأكثر ذيوعًا لدى من حاولوا تفسير القيمة، سواء من المفكرين أو العوام، وإنْ روج له فلاسفة ومفكرون وأدباء عظام منذ عصر اليونان: فسقراط، على سبيل المثال، كان يرى أن الفن لا بد أن يحث على الفضيلة، أي لا بد أن ينطوي على قيمة أخلاقية، وإلا أصبح الفن ذاته لا قيمة له. أفلاطون أيضًا تحدث عن وجوب حذف مقامات موسيقية معينة، بحجة أنها فيها من الليونة ما يمكن أن يُفسد أخلاق الشباب الذين ينبغي أن يتحلوا بالشجاعة، التي إن غابت فيمكن أن تضع أثينا تحت رحمة أعدائها.
مكمن الخطأ في هذا التصور أنه ينظر إلى الفن كما لو كان أداة لتحقيق قيمة أخرى هي الأخلاق، وكأن إبداع الفن والجمال لا يمكن أن يكون غايةً في ذاته دون أن يكون وسيلة لخدمة أي قيمة أخرى، حتى إن كانت القيمة الأخلاقية. وليس معنى ذلك أن الفن مضاد الأخلاق، فالحقيقة أن الفن ليس مع الأخلاق ولا هو ضدها، وهذا يعني بعبارة أخرى أنه محايد بالنسبة إليها، فربما يتعلق موضوع العمل الفني بمسائل أخلاقية، وقد يتخذ أو لا يتخذ العمل الفني موقفًا أخلاقيًا إزاء تلك المسائل، ولكن هذا لا شأن له بالقيمة الفنية والجمالية للعمل.
قد تحثنا قصيدة ما على الفضيلة، ولكن هذا لا شأن له بقيمة القصيدة كعمل فني. فلكي تكون القصيدة عملًا فنيًا بحق يجب أن تُكتب أولًا بلغة الشعر وبشروطه، يستوي بعد ذلك أن تتحدث عن الدين والأخلاق أو عن المجون والغزل، أن تتغنى بالتصوف أو بالملذات، أو يمكن أن تكون عبثية لا تقصد شيئًا بذاته.
لدى الإنسان رغبة مستعرة دومًا نحو التعبير عن الذات، إثبات الوجود ومحاولة تبريره ومحاكاة واقعه، خصوصًا في أزمان تطور فيها الإنسان من حيث وعيه وأدواته، لذلك سيُكتب كل يوم سطر في رواية ما، سيُعزف لحن جديد لسيمفونية ما، سيخرج أحدهم بفكرة ثورية جديدة، سيضرب أحدهم بفرشاته مكونًا لوحة.
لذلك ليس من المستغرب أن تجد اقترانًا بين الفنون من جهة والديانات والتعليم لدى الإغريق كمثال من جهة أخرى.
تمتلك الفنون وعيًا بطبيعة رمزية لا تضاهَى، بحيث تصبح أهم وسائل قياس وفهم الحضارات السابقة وأشكال تفردها. كمثال، الطراز المعماري المتعارف عليه حاليًا للمؤسسات الحكومية الغربية هو تقليد للمعابد الإغريقية، كون تلك المعابد كانت أماكن للعمليات الديمقراطية واجتماعات مجلس الشيوخ في أثينا.
النسبانية والفن في زمن إنتاجه آليًا
نشأت الفنون المعاصرة كجزء من حركة المجتمع الإنساني وزيادة العنصر الآلي في مناحٍ شتى في الحياة، فالموسيقى وفنون التصوير والمعمار بالأساس تُنتَج آليًا في عالمنا المعاصر، وهذا يُقوِض عنصر التفوق الذي بُنيت عليه نبالة الفنانين الأوائل: الإبداع الذهني اليدوي، أن يكون الفرد خلاقًا بأبسط الأدوات، أن يمتلك هبة الذكاء الكافي لابتكار وتركيب الأشياء، أن يكون له حدس قوي يجعله يتخيل الحيوات الأخرى ومكامن النفس ذاتها، ومن هنا يأتي مصدر الترقي.
أصالة الشيء إنما هي محتوى كل شيء فيه، من نشأته إلى أن يصبح موروثًا، من ديمومته المادية حتى شاهديته التاريخية.
وانطلاقًا من ذلك، نجد النسبانية كحركة فنية معاصرة تتخذ موقفًا معاكسًا تمامًا للبراعة الأولى، فمن غير الجدير هنا عدم تغليب رأي أو توجه على الآخر، ليس من منطلق الحيادية، بل كنوع من تغييب الوسائل القياسية الذوقية.
بالطبع يكون الذوق مصيبًا في أحيان ومخطئًا في أحيان أخرى، ولكنليست هنالك أي وجاهة في القول إن «فنانًا معاصرًا قد أنجز عملًا فنيًا ما بواسطة الكمبيوترات متفوقًا على فناني عصر النهضة الإيطالية». وقد أذهب للظن أن ذلك ضرب من الجنون أن يعتقد أحدهم ذلك، فلا ينبغي التذرع بالذوق والميول الفردية في أمور تطلبت عملًا وحِسًا عاليًا طوال سنوات، مقابل فقط عدة أوامر إدخال على لوحات الكترونية.
هل بعض الأشياء جميلة في ذاتها؟
أبدًا لن تكون في حاجة لمعرفة كيفية قراءة النوتة الموسيقية للاستمتاع بموسيقى بيتهوفن. إنه أمر يدركه كل شخص يمتلك ذوقًا وحسًا سليمًا في رأيي، ويبدو أن الخوض في أمر كماهية ما يجعل البشر يقعون في حب أشياء يرونها جميلة أمر معقد تمامًا، كالموهبة التي يتطلبها ابتكار الجمال ذاته.
إنها أمور تتعلق بالانسجام والحاسة الذوقية والنفس الإنسانية، ومجموعة أخرى من الأشياء التي من الصعب الجزم بمعرفتها.
الخوف، الغضب، الحزن، الفرح، الحب، الحسد، الإثارة، كلها ليست سوى عدد قليل من الصفات العاطفية العالمية للطبيعة البشرية، ووجودها هو الذي يميزنا عن بعضنا بعضًا. يمكن للرسام الجيد أن يملأ القماش بألوان جميلة مختلفة من الناحية العملية، ولكن يمكن له أن يجعلك تخوض تجربة التعرف إلى مشاعره وتجربته وتخيلاته من خلال اللوحة، وعليك فقط إلقاء نظرة عليها لفهم ما يريد الفنان قوله.