تضعك مباني زها حديد، بأسطحها المنحوتة وواجهاتها الزجاجية المكعبة، في عالم فضائي يبدو الجميع فيه على وشك إيقاف مركباتهم الطائرة في مواقف ثلاثية الأبعاد، وهم مرتدين بذلات مطاطية ويحملون حقائب معدنية في طريقهم إلى مواعيدهم على كوكب المريخ.
تستشعر هذا الانطباع لدى زيارة متحف الفن الحديث في مدينة «سينسيناتي» بالولايات المتحدة، أو مركز الفنون الحديثة (MAXXI) في روما، أو جسر الشيخ زايد في أبو ظبي، أو مركز «حيدر علييف» الثقافي في أذربيجان، وغيرها من الأمكنة التي تحمل «توقيع» زها حديد.
اشتهرت زها بكونها رائدة في العمارة التي تتمحور حول الرؤية الفنية أكثر من خدمة المرافق العامة.
تعكس تلك التصميمات الهوية المتفردة لشخصية زها حديد، التي تعد واحدةً من نخبة المهندسين في العالم، وتطلق عليهم الصحافة لقب «Starchitect» أي النجم المعماري، وقد اشتهرت بشكل خاص لكونها امرأة ناجحة في مجال يشكل الذكور فيه نسبة 83% من مجمل أصحاب الشركات، وبسبب تهافت أغنى حكومات العالم والشركات الاستثمارية المهمة على تصميماتها المكلِّفة، التي تترك بصمة فنية مميزة للمواقع المختارة.
ساعدتها رؤيتها الفنية المعاصرة وتخصصها في الهندسة والرياضيات في خلق بنايات تعتمد على دمج الأشكال الهندسية ببعضها، لتحقيق متعة بصرية وإيهام المُشاهد بانسيابية الكتلة الجامدة وديناميكيتها، إلا أن العديد من الانتقادات طالت زها، إما بسبب ضخامة التمويل المادي الذي تحتاجه مشروعاتها، أو بسبب ظروف البناء السيئة التي تحيط بتلك المشروعات، أو لكون منجزاتها «عديمة النفع» تقريبًا.
هذا هو ما أشار إليه الناقد المعماري «ستيفن بايلي» بقوله: «اشتهرت زها بكونها رائدة في العمارة التي تتمحور حول الرؤية الفنية أكثر من خدمة المرافق العامة».
فكيف حولت المصممة عراقية الأصل مجسمات فنية إلى واقع؟ وهل يحتاج العالم إلى مبانٍ بديعة الشكل أم تقليدية الطابع لتناسب الغرض الذي بُنيت لأجله؟
تصميمات زها حديد: كتل تتحدى الواقع
ظهر أول مبنى يحمل توقيع زها حديد إلى العلن في عام 1993 بمدينة فايل آم راين الألمانية، عندما كُلِّفت مجموعة من المصممين المعروفين من أنحاء العالم بإعادة تصميم عدة بنايات داخل مجمع «فيترا»، الذي يضم مصانع وقاعات عرض ومحطة إطفاء، فطُرح اسم زها من بين تلك الأسماء، لأنها عُرفت في ثمانينيات القرن العشرين برسوماتها غريبة الطابع، وأوكلت إليها مهمة تصميم مبنى محطة الإطفاء داخل المجمع.
ما فعلته زها كان أكثر من مجرد تجديد للمبنى، فقد تحدَّت تقليدية المباني المجاورة وحولت خرسانة الجدران إلى «منحوتة فنية» أشبه بصورة انفجار مجمدة، خلطت فيها بين مضلعات زجاجية ومثلثات ذات ثقوب ومَيَلان يعكس طابع الرسومات المتفردة التي عُرفت بها في فترة دراستها.
لكن بالرغم من أن المبنى كان جميلًا بما يكفي لتُعرض صوره في المجلات المتخصصة في العمارة والهندسة، إلا أنه لم يكن نافعًا ليؤدي الغرض الأساسي من وجوده، بسبب صعوبة حركة العاملين فيه وسط جدرانه الملتوية وزواياه الحادة، فأُوقفت محطة الإطفاء عن العمل وقررت إدارة المجمع تحويلها إلى قاعة عرض فنية.
قد يهمك أيضًا: كيف يعادي البشر الابتكار؟
تكررت ذات المشكلة مع تصميمها لمركز الفنون الحديثة في روما، أو ما عُرف بمتحف «ماكسي». اختارت وزارة الثقافة الإيطالية زها حديد لتصمم مشروع متحف يضم أكبر عدد ممكن من اللوحات والمجسمات الفنية، وبالفعل افتُتح المبنى رسميًّا عام 2012، بعدما استغرق بناؤه ما يقارب عشر سنوات.
لكن جمال بُنيان المتحف بسلالمه الملتوية واعوجاج ردهاته التي تبدو مثل أُحجية كبيرة كان فنًّا وحده، ممَّا جعل مبنى المتحف يطغى على المعروضات الفنية بداخله ويشكِّل مصدر تشتيت للزوار، بحسب ما ذكرته صحيفة الغارديان، وهو ما تكرر مع المعماري العالمي «فرانك غيهري»، الذي أدى تصميمه الفني المعقد لمشروع مركز ستاتا للتحليل الإحصائي والخدمات إلى أخطاء تنفيذية عديدة، وبسببها رفع المالك قضايا ضده.
هل نحتاج مبانٍ عملية أم جميلة؟
تُكلف المنشآت التي تعمل على تصميمها زها حديد أضعاف ميزانيات المباني العادية، وتأخذ وقتًا طويلًا في الإنجاز، وبالرغم من ذلك فهي لا تعمِّر أكثر من المباني القديمة ذات الطراز التقليدي، ويرجع ذلك إلى وجود علاقة طردية بين جمال المباني وتكلفة صيانتها لاحقًا.
يعض المهندسين يحولون المباني إلى قطع فنية باهظة الثمن بدلًا من مرافق تخدم البيئة والمجتمع.
في إيطاليا على سبيل المثال، تنفق الحكومة مبلغًا قدره سبعة ملايين دولار لصيانة متحف «ماكسي» سنويًّا، ممَّا دفع إدارة المتحف إلى جمع التبرعات والبحث عن رعاة لتأمين المصاريف المرتفعة.
بالنسبة لبلد عُرِف عنه تخصيص نصيب الأسد من ميزانيته لصالح المشروعات الثقافية، ترك هذا المشروع الحكومة الإيطالية مرهقة من وراء تدابير التقشف التي عانتها، وباتت تبحث عن أشكال جديدة من الدعم المادي لتغطية العجز في الميزانية.
بالإضافة إلى تكلفة الصيانة، فإن تعقيد تصميم المبنى يعني احتياجه إلى صيانة دورية خلال فترات متقاربة أكثر، وهو ما يتضح من حادثة انهيار قطعة من الخرسانة الخارجية لأحد أسطح مبنى آخر بُني تحت إشراف شركة زها حديد المعمارية، مكتبة فيينا، التي تكلف إنشاؤها ما يقارب 530 مليون دولار، بسبب مَيْل الجزء العلوي من المبنى إلى الأمام.
لربما كان بالإمكان تدارك هذه التكاليف بسهولة لولا تركيز المهندسين المعماريين على المظاهر الخارجية للمباني، دون الأخذ بعين الاعتبار مرونتها بالنسبة إلى مرتاديها وظروف الصيانة الصعبة، لأن ما يفعله المهندس في تلك الحالة هو تحويل المباني إلى قطع فنية باهظة الثمن، بدلًا من مرافق تخدم البيئة والمجتمع.
لا يقع اللوم في ذلك على المهندس وحده، بل يتشارك أصحاب رؤوس الأموال والحكومات عبءَ التخطيط والتنفيذ، بسبب إنفاق مبالغ طائلة على تصميمات بعيدة عن المحلية، للتباهي بها على الصعيد الدولي وخلق صورة مناقضة تمامًا للواقع.
إنه ليس خطئي
أخلت زها مسؤوليتها عن موت مئات العاملين باستاد الوكرة، وألقت باللوم على الحكومة القطرية.
بَدَت ردود فعل زها حديد في ما يتعلق بظروف الأشخاص العاملين في مشروعاتها خالية من التعاطف، ففي عام 2012، أظهر تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» أن حكومة أذربيجان نفذت عمليات إخلاء غير قانونية منذ 2008 لـ250 منزلًا في مدينة باكو، لإزاحة الطريق أمام مركز «حيدر علييف» الثقافي الذي كانت شركة زها حديد تعتزم تصميمه.
يقول أحد المشاركين في تقرير المنظمة: «ضغطت الحكومة الأذربيجانية على السكان لإخلاء منازلهم عن طريق قطع إمدادات الكهرباء والغاز والمياه، وفي بعض الأحيان احتجزت المعارضين، وعندما أطلقت سراحهم كانت منازلهم قد اختفت تمامًا، كما بدأت الحكومة في هدم المباني باستخدام الجرافات رغم وجود أناس داخلها».
بالإضافة إلى ذلك، فإن ظروف عمل ومعيشة العمال الذين أُجبروا على المشاركة في البناء كانت سيئة للغاية، إذ كشفت نقابة الاتحاد الدولي للبناء والأخشاب أن العمال كانوا يُجلبون من البوسنة والهرسك وصربيا بأجور زهيدة ويعامَلون بطريقة سيئة، ممَّا أسفر عن وفاة اثنين منهم، ولم تعلق زها على الموضوع، بل اكتفت بتسلُّم جائزة أفضل تصميم عن مركز «حيدر علييف» من متحف لندن عام 2014.
قد يعجبك أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع الآخرين؟
في العام نفسه، أُثير الجدل بشأن استاد «الوكرة» في قطر، وهو أحد أضخم مشروعات زها حديد قيد الإنشاء، ومن المقرر أن ينتهي العمل عليه عام 2018، في إطار استعدادات قطر لاستضافة نهائيات كأس العالم 2022، فقد أعلنت صحيفة الغارديان وفاة أكثر من 500 عامل هندي و382 من نيبال منذ بداية العمل على المشروع في 2012.
اقرأ أيضًا: من يدفع ثمن الانفتاح في قطر؟
حينما سُئلت زها حديد عن الموضوع خلال أحد لقاءاتها مع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، أخلت مسؤوليتها عن أوضاع العمال وألقت بكامل اللوم على الحكومة القطرية، كما ذكرت أنها كمهندسة لا تتابع هذه المشاكل لأنها لن تستطيع عمل شيء حيال الأمر.
أخلاقيات الهندسة: هل للعمارة دور إنساني؟
لو تكلمت زها حديد قبل فوات الأوان لربما كانت أنقذت مئات الأرواح في قطر من الضياع.
تحدد اللوائح المنظِّمة لما يعرف بـ«أخلاقيات الهندسة» (Code of Conduct)، أولويات مشتركة تراعي المجتمع والبيئة المحيطة والعمال والمهنة بشكل عام. ففي بريطانيا، حيث كانت زها حديد تعيش، تستند أخلاقيات الهندسة إلى 12 متطلبًا أساسيًّا، أحدها هو النظر في تأثير المنشآت على النطاق الأوسع، الذي يتضمن البيئة والسكان والمجتمع.
لكن يبدو أن القسم الأكبر من «المعماريين النجوم» تناسوا أولويات المهنة وقواعدها الأخلاقية، وفي ظل التزامهم باستحداث أنماط لمبانٍ جديدة بميزانيات خيالية، ما زال هناك أشخاص يعيشون بلا سقف أو كهرباء أو حتى خدمات صرف صحي مستدامة، والبعض الآخر ارتحلوا واستبدلوا بأوطانهم مخيمات لاجئين رغمًا عن إرادتهم.
قد يهمك أيضًا: كيف سعى الفنانون إلى تعطيل نهضة أبو ظبي الثقافية؟
ليس على المعماريين أن يحلُّوا كل مشاكل العالم بالطبع، ولكن في الوقت الذي اعتدنا فيه التضخيم الإعلامي للمهندسين الذين ارتبطت أسماؤهم بمشروعات تمولها دول أوتوقراطية قادرة على دفع الملايين من أجل تصميم البنايات وصيانتها، كان يمكن لهؤلاء الذين وصلوا إلى رتبة «النجومية» تسليط الضوء على القضايا التي تتعثر فيها مشروعاتهم على الأقل.
لو تكلمت زها حديد قبل فوات الأوان لربما كانت أنقذت مئات الأرواح في قطر من الضياع، أو على الأقل بذلت جهدًا أكبر لتأكيد ضرورة التزام مشروعاتها بأبسط حقوق الإنسان.