لا يمكن لمُشاهد يحظى بقدر، ولو ضئيل، من الاهتمام بالسينما، أن يُغفل دور الممثل الأمريكي «كريستيان بيل» في فيلم «The Machinist»، بعيدًا عن أنه، ومن أجل أداء دور «ريزنيك تريفور»، فقد ما يزيد على 28 كيلوجرامًا تقريبًا، ويرى كثيرون أن هذا أحد أهم أدوار مسيرته.
مع ذلك، يبقى بمقدور المُشاهد نفسه أن يُغفل بضع نقاط في الفيلم، لعل أبرزها السيناريو الذي تكفّل به المؤلف الأمريكي «سكوت كوسار»، مع المخرج «براد أندرسون».
في أحد مشاهد الفيلم، عندما يفتح تريفور الخزانة الموجودة داخل حمام شقته، تظهر رواية الأديب التشيكي «فرانز كافكا» المسماة «القصر»، بقدر ضئيل من الوضوح الذي يتجه، في المقام الأول، إلى بعض الأدوات الصحية.
صحيح أن تريفور يظهر في أحد المشاهد الأولى ممسكًا برواية دوستويفسكي «الأبله»، علاوة على تأثر السيناريو ببعض أعمال الأديب الروسي الأخرى، غير أن تأثرًا آخر غير معلَن بكافكا يظهر جليًّا على مدار الفيلم.
The Machinist: كابوس الهوية
تدور أحداث الفيلم حول سؤال مباشر يتعرض له البطل بصورة متكررة في أكثر من مشهد: «من أنت؟»، أو بالأحرى: «من تكون؟»، غير أن السؤال الخفي الذي يطرحه ويعالجه الفيلم في آنٍ هو: «كيف يمكن للمرء أن يفيق من كابوس، بينما يتضح أنه في الواقع لم يكن نائمًا؟»، هذا الكابوس الذي يطارد تريفور على مدار عام كامل دون أن يذوق طعم النوم، وهو ما يضعنا بدوره أمام سؤال آخر: «هل نَسَج أرق تريفور خيوط كابوسه؟ أم أن كابوسه هو ما جلب إليه أرقه؟».
ريزنيك تريفور عامل في مصنع، حياته تسير بوتيرة جيدة، لكنه ذات يوم، بينما يجوب الشوارع بسيارته، يكسر إشارة المرور دون قصد، ويصدم الطفل «نيكولاس» صدمة موت. يتوقف تريفور بضع لحظات، لكنه سرعان ما يقرر الفرار. بعد ذلك يخفي سيارته ويبلغ الشرطة بتحطمها، ليضاعف من تنكُّره لجُرمه. من هنا، تحديدًا، يبدأ أرقه، ويستمر مدة عام، يتمكن بنهايته من إدراك هويته، ويقوده إليها شعور بالذنب يتجسد، بمعنى الكلمة، في شخص «آيفان» (جون شاريان)، الذي يواظب على مطاردته حتى ينجح أخيرًا في اقتياده إلى الاعتراف بجرمه.
كافكا في السيناريو
قدّم فرانز كافكا، بهذه الثيمة، روايتي «القصر» و«المحاكمة»، وكذلك «المسخ». في هذه الأعمال، يطارد شخوص كافكا شعور بالذنب حيال الذات، أو بالأحرى من أجل إدراك الذات وتسويغ الحياة. في «المحاكمة» مثلًا، يفيق البطل «جوزيف كيه» على مداهمة، يعلم على إثرها أن محكمة تقرر اعتقاله دون تحديد طبيعة التهمة، ويستهل كافكا روايته إذ يكتب: «لا بد أن أحدًا قد افترى على جوزيف كيه، إذ اعتُقل ذات صباح دون أن يكون من شأنه قد فعل شرًّا».
بنهاية الرواية، يكون جوزيف كيه قد وصل أخيرًا إلى إدراك هويته، عندما ترسل إليه المحكمة حارسين لاقتياده إلى الخلاص: يذبحانه «كأنه كلب»، ويمهِّد لهذا الخلاص استسلام جوزيف كيه للمحاكمة شيئًا فشيئًا، وتفتُّح عينيه على انعدام الجدوى من كل محاولاته، وأن الجميع إنما يستغلونه ويتآمرون عليه. ويترك لنا كافكا أكثر من دليل على أن المحاكمة بأسرها إنما كانت من تدبير جوزيف كيه نفسه، وأنه أراد بذلك بلوغ هويته، وأن كل ما يتعلق بمحاكمته إنما يدور في لاوعيه بشكل خالص.
يحس تريفور، طوال أحداث فيلم «The Machinist»، أن الجميع يفترون عليه، ويقول صراحةً إنهم يدبرون له نوعًا من «المكيدة» للإيقاع به، وتتضح بارانويا الشك لديه عندما يتوهم أن «ميلر»، زميله في العمل الذي تسبب دون قصد في ضياع ذراعه اليسرى، إنما يكيد له للانتقام منه. تتضح أيضًا عندما يتهم زملاءه في المصنع بإدارة آلته فيما كان يحشر يديه بين تروسها، وكذلك عندما تواجهه النادلة في المطار بحقيقة عدم وجود «ماريا» (آيتانا سانشيز جيون)، صديقته المزعومة، التي فقدت طفلها «نيكولاس» بفضله.
مثل جوزيف كيه في «المحاكمة» تمامًا، ينتقل تريفور إلى إدراك هويته عبر عديد من المحطات. في البداية يستقبل رسالة ذنبه إليه، الملصقة بباب الثلاجة، بغير اكتراث، وفوق ذلك ينتزعها بقوة ويلقيها في سلة المهملات. بعد ذلك يعود إليها ليكمل مضمونها، وتكون صديقته المزعومة، أم نيكولاس الثكلى، ضحية توهُّمه. مرة ثانية يعود إليها ليصححها، وهكذا يكون «تاكر»، المشرف عليه في المصنع، ضحيته هذه المرة. وبنهاية الفيلم، يكون قد وصل إلى حل أحجيته، عندما يدرك أخيرًا أنه، هو نفسه، القاتل.
علامات المصير عبر الصورة
يضج الفيلم بعديد من الإشارات إلى حادثة السيارة، يضمِّنها المخرج براد أندرسون في صورة ومضات تلتمع في ذاكرة تريفور كلما مَرّ بموقع الحادث.
تظهر أيضًا بوضوح عندما يدخل تريفور مع الطفل نيكولاس لعبة «الطريق 666»، وعندما يعرِّج إلى منزل صديقته ماريا المزعومة، يتبين أنه لم يكن سوى داخل شقته هو. وبينما يجلس وحيدًا هكذا، تطارده ذكرياته المؤلمة، كما يسميها آيفان، بغير هوادة، ونستدل على ذلك بمشغِّل الموسيقى ووعاء الماء الشفاف والدمية الخشبية، وكلها أغراض تظهر عندما يهجر تريفور شقته ويسلم نفسه إلى الشرطة.
كافكا، دائمًا كافكا
يتضح تأثر الفيلم الكبير بكافكا إلى حد بعيد عبر شخصية آيفان، الذي يمكن تعريفه بأنه شعور الذنب الذي لا يفتأ يطارد تريفور في كل مكان وزمان.
يُكثر كافكا من استخدام مثل هذه الرموز، ففي «الحُكم» يرمز إلى الجانب الآخر المعتم من شخصية البطل «جيورج بندمان» من خلال الصديق المغترب في روسيا، وهو الراغب عن الحياة بكليتها. وفي «القصر» يرمز إلى الموت والحياة، مثلًا، بواسطة الثلج البارد والماء الدافئ.
وهكذا يجعلنا أندرسون نستدل على ضخامة شعور تريفور بالذنب عبر ضخامة بنيان آيفان، ومظهر يده المشوهة، وضحكاته غير العابئة على الدوام. علاوة على ذلك، نلاحظ من تريفور حرصًا على تنظيف يديه وغسلهما باستمرار، ما يومض رغبته في إزالة الوسخ اللصيق به.
من أجل أداء دور تريفور، سار كريستيان بيل بصرامة على نظام غذائي قاسٍ، لم يدَعْ من طعامه سوى عبوة «تونة» وتفاحة واحدة لكل يوم. مثل هذا النظام لم يقدر عليه بيل إلا بمعاونة التدخين، الذي لجأ إليه خصيصًا لذبح شهيته. هكذا نزل وزنه 28 كيلوجرامًا ليلائم، جسديًّا، سيرة عامل يعاني مدة عام من الأرق. هذا الشحوب يتفق كثيرًا أيضًا وشحوب كافكا نفسه، وكذلك شخوصه الذين إما أن يكونوا ذوي إعاقة أو واهنين على نحو ما. ويداهم هذا الأرق وذلك الشحوب تريفور في عقده الثلاثين، وهي السن نفسها التي يخصصها كافكا لأبطاله المعذبين.
في إحدى رسائله إلى ميلينا معشوقته، يكتب كافكا عن أرقه: «عندما يتجاوزني النوم، ويمر بالليل دون أن يحفَل بي، فإنني أعرف عندئذ وجهته، وأرضاها، وفوق هذا، فمن الغباء أن يثور عليه المرء، فالنوم أكثر المخلوقات براءة، والرجل الذي يهجره النوم أكثر الرجال ذنوبًا».
وفي رسالة أخرى يكتب: «مع هذا، لم تنل مني التعاسة من جراء ذلك، لأنني شيئًا فشيئًا علمتُ بصورة قاطعة أنني سوف أنام، بعد أن انقضت ثلاث سنوات أو أربع هجرني فيها النوم، سوف أنام لأول مرة، بعد أن يتوقف هذا النزيف».
هكذا تمامًا يرقد تريفور في محبسه، قبل أن يتخذ المسؤولون ضده أيًّا من إجراءاتهم الروتينية، ويتأتى ذلك فور توقُّف نزيف ذاته.
العجوز صاحبة الفندق التي لا تفتأ تتطفّل على تريفور في الفيلم، ما هي إلا السيدة العجوز صاحبة الفندق التي لا تتورع عن التدخل في شؤون جوزيف كيه في الرواية.
علاقة تريفور و«ستيفي» (جينيفر جيسون لي) يوجد لها صدًى في أدب كافكا، فحين تنتهي العلاقة بفشل يتسبب فيه تريفور نفسه، عندما يعتقد أنها تلاعبت به مع الجميع، وبالأحرى مع زوجها السابق، الذي يخيّل إليه أنه «آيفان»، حينئذ يمكننا تذكُّر علاقة جوزيف كيه في «المحاكمة» بزوجة الحاجب، عندما يصدّ جميع محاولاتها للتقرُّب منه بأن يصرِّح لها: «إنك تنتمين إلى المجتمع الذي ينبغي عليّ أن أكافحه».
هكذا تكون ستيفي أيضًا، بحسب ظنون تريفور، عضوًا في «الهيئة» (بلفظ جوزيف كيه الآخر بطل «القصر»)، وتكرِّس كل جهودها لإدخال تريفور وإبقائه في متاهة، بما يضمن سحق وجوده نهائيًّا، وهي الهيئة التي يكافحها هو بكل ما يملك.
يمكن استخراج كثير من أوجه الشبه بين الفيلم وأدب كافكا، ويومياته ورسائله أيضًا، فالسيدة «شريك» العجوز (آنا ماسي)، صاحبة الفندق التي لا تفتأ تتطفّل على تريفور، ما هي إلا السيدة العجوز صاحبة الفندق أيضًا التي لا تتورع عن التدخل في شؤون جوزيف كيه. مفترقات الطرق المستخدمة بكثرة في الفيلم، يُكثر كافكا استخدامها لإلقاء الضوء على شتات أفكار شخوصه غير الراسية على الدوام.
ملابس تريفور، المنتقاة بعناية، تُلقي هي الأخرى الضوء على أزمة وجوده، فعندما يلجأ إلى ستيفي في شقتها بعد مطاردة الشرطة، تُحضر المرأة له بعض الثياب، وإذ يقول لها ساخرًا إن المقاسات إنما «تناسبه تمامًا»، ترد هي بأنها لم تجد أبدًا ما يناسبه. هكذا يغرق جسده في لباس فضفاض، تمامًا كما يغرق رأسه في محيط من الاغتراب.
في مشهد النهاية من فيلم «The Machinist»، يظهر تريفور في لباس أسود، يقوده إلى محبسه حارسان، أحدهما يرتدي بدوره بدلة سوداء. يقترب هذا المشهد كثيرًا من نهاية رواية «المحاكمة» لكافكا، إذ يتشح جوزيف كيه والحارسان أيضًا بالسواد تمهيدًا لتنفيذ عقوبة الإعدام، ويُذعن البطل إلى السكين المار برقبته دون مقاومة، و«كأنما الخجل يبقى بعده».