أليس من المغري أن تقدَّم لك خدمة تمكنك من دفع المال للمحتوى الذي تريد مشاهدته فقط؟ ألن تحب تلك الخدمة التي لا تلتزم بمواعيد عرض معينة، أو امتلاك جهاز تسجيل فيديو وفقًا لموعد عرض برنامجك المفضل، أو جلوسك مضطرًا لساعات ومشاهدة عروض الفواصل الإعلانية؟
فيما كانت خدمة تلفزيون الكابل تحفر قبرها في هدوء طوال سنوات عبر هذه العيوب في خدماتها، كانت «نتفليكس» في المقابل تخوض رحلتها الإبداعية لتطوير شكل الترفيه وتجاوز عيوبه.
هل يعرف جيل الألفية ومن تلاهم ما كان عليه حال الترفيه قبل ظهور خدمة البث الحي التي تقدمها نتفليكس وسواها عبر الإنترنت؟
عصر التلفزيون لم ينتهِ تمامًا، فلا يزال يمكننا أن نتفقد حال خدمات تلفزيون الكابل التي لم تتغير كثيرًا عما كانت عليه، ولا يزال عليك أن تحتمل مشاهدة الكثير من الفواصل الإعلانية وتستقطع وقتًا أطول من يومك في انتظار عرض برنامجك المفضل. ورغم ذلك، فقد أصبح لهذا الجيل سبيل للوصول لمحتوى ترفيهي متاح في كل وقت وفي كل مكان تقريبًا، دون الاضطرار لمشاهدة فواصل إعلانية مطولة، وبخيارات برامج وأفلام ووثائقيات هائلة مقابل رسوم اشتراك معقولة. ولكن ماذا لو قيل لك إن هذه الخدمة مهددة بنهاية عصرها؟
«الناس يحبون محتوى التلفزيون، ولكنهم لا يحبون تجربة التلفزيون المحدودة» - موقع نتفليكس.
يتضح لنا أن نتفليكس منذ بداياتها كانت تطمح لتجاوز أزمات تجربة تلفزيون الكابل التقليدية، عن طريق محاولة بيع أقراص مدمجة للأفلام في أواخر التسعينيات، ثم تأجيرها لاحقًا، وهو ما تطور ليصبح خدمة البث الحي على الإنترنت عام 2007، وهي أول من قدم هذه الخدمة. ويمكننا أن نقول بأريحية إنها استغلت الإنترنت لتُحدث ثورة في تاريخ التلفزيون والترفيه على مستوى العالم بحلول عام 2016، وهو ما تطور في السنوات الأخيرة حين اتجهت عام 2013 لتصنع محتواها الخاص من أفلام ومسلسلات وأفلام وثائقية من كل التصنيفات الترفيهية، لتوسع خيارات المشاهد.
كابوس نتفليكس
كتب «ستيفن ماكبرايد»، في مقالة على موقع فوربس، وهي شركة النشر المعنية بالدرجة الأولى بإحصاء الثروات ومراقبة نمو المؤسسات والشركات المالية. تدور المقالة الصادمة حول ما يعده ماكبرايد نهاية عصر نتفليكس، شركة الترفيه الأشهر في عصرنا الحالي.
يستعرض ماكبرايد بدايات ظهور نتفليكس على مشهد شبكات العرض الترفيهية. ويشير إلى كيف أن ارتفاع سهمها بنسبة 8,500% في العقد الماضي بترويجها لخدمة البث الحي لم يأتِ من فراغ، فقد حققت هذا المكسب من خلال سرقة عشرات ملايين العملاء من شركات الكابلات. وعلى الأرجح، فإنه يقصد ذلك مجازًا، إذ ألغى مشتركون كثر اشتراكهم في خدمات الكابل وانتقلوا إلى نتفليكس. ويوضح أنه في عام 2018 مثلًا، لم يشاهد نصف الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و45 عامًا ثانية واحدة من محطات تلفزيون الكابل، وأوقف 35 مليون أمريكي اشتراكهم في تلك الخدمات في العقد الماضي.
رغم ذلك، لا تزال خدمة التلفزيون التقليدي صامدة، ولا يزال مشتركو نتفليكس يشاهدون التلفزيون التقليدي أيضًا. هذا لا يعني التقليل من أهمية ما أحدثته نتفليكس، إلا إن تلفزيون الكابل لا يزال ضمن اللاعبين المهمين في مجال الترفيه، فهو يمتلك المحتوى الترفيهي الرئيسي الأهم، ومع ذلك فهو لم يعد يلعب دورًا جوهريًا أو رئيسيًا كما كان قبل 20 عامًا.
ماذا عن نتفليكس إذًا؟
كانت نتفليكس الوحيدة التي تقدم خدمة البث الحي في العالم، ولم يكن هناك أي منافسين لها على الساحة. ويشير ماكبرايد إلى أن العديد من الشركات الإعلامية الأقوى والأكبر ساعدت نتفليكس على بناء مشروعها. نعم، أنجز مؤسسها «ريد هاستينغز» العديد من الخطوات بالطريقة الصحيحة، لكن حركته الأكثر عبقرية في رأي ماكبرايد كانت تأجيره العروض والأفلام التي أنتجتها الشركات الأخرى.
الكثير من الأفلام الموجودة حاليًا على نتفليكس ستُزال إلى الأبد بحلول نهاية 2019.
في أوائل عام 2010، وقعت نتفليكس صفقات مع منتجي السينما والتلفزيون الأكبر في المجال، مثل «ديزني» و«NBC»، وبمقابل رمزي اشترت حقوق بث محتوى يحظى بشعبية هائلة، مثل سلاسل «The Avengers» و«The Office» و«Friends». أي أنها بنت مشروعها فوق نجاحات الآخرين، ونجح هذا بشكل لا يصدق، إذ تمتلك نتفليكس الآن، وفقًا لماكبرايد، 149 مليون مشترك، أي أكثر من أي شركة كابل.
لكن هذا العالم يتلاشى الآن.
انتبه منافسو نتفليكس لتغير قواعد اللعبة، مما جعلهم ينهون عقودهم معها ويستعيدون السيطرة على محتواهم، ثم يطلقون خدمات البث الحي الخاصة بهم لمنافسة نتفليكس. هذا يحدث الآن حقًا. هل سمعتم عن خدمة البث الحي «+Disney»؟ ستنطلق في وقت لاحق من عام 2019، وستكون موطنًا جديدًا للأفلام الأكثر شعبية في العالم.
تشتهر ديزني بشخصية ميكي ماوس والأميرات وسواها، إلا إنها في الحقيقة تمتلك مجموعة من أضخم الأفلام وأكثرها نجاحًا على الإطلاق. على سبيل المثال، ستجد أن أكثر الأفلام مبيعًا في 2019، مثل «Captain Marvel» و«Avengers: Endgame» و«Aladdin»، تملكها ديزني. وكذلك الأفلام الأكثر مبيعًا عام 2018، مثل «Black Panther» و«Avengers: Infinity War» و«Incredibles 2»، وأفلام 2017 «Star Wars: The Last Jedi» و«Guardians of the Galaxy» و«Beauty and the Beast».
كل هذه الأفلام موجودة حاليًا على نتفليكس، لكنها ستُزال إلى الأبد بحلول نهاية 2019. ولمشاهدتها، سيتوجب عليك الاشتراك في +Disney ودفع 6.99 دولار شهريًا، أي أقل من سعر الاشتراك في نتفليكس.
القضاء على المحتوى الأفضل على الإطلاق
يشير ستيفن ماكبرايد إلى أن على المستثمرين في نتفليكس أن يشعروا بالقلق تجاه خدمة بث «AT&T» أيضًا، التي ستُطلق عام 2020، وستكلف هذه الخدمة أكثر قليلًا من نتفليكس بسعر يتراوح بين 16 و17 دولارًا.
يوضح ماكبرايد أن AT&T بدأت كشركة هاتف خليوي إلى أن قامت شركة وارنر ميديا بشرائها عام 2018 وحولتها إلى قوة إعلامية، فهي تمتلك شبكة HBO شبكة التلفزيون الأكثر نجاحًا، وتعرض المسلسلات الأكثر شهرة مثل The Sopranos و Game of Thrones و Sex and the City.
ورغم أن نتفليكس حققت نجاحًا هائلًا بكونها الأولى في تقديم خدمة البث الحي وإحداث ثورة في تاريخ التلفزيون، فإن قواعد اللعبة قد تغيرت. سيكون لدى العملاء قريبًا الكثير من خدمات البث ليختاروا من بينها، وسينجح من يمتلك المحتوى الأفضل، ونتفليكس الآن تفقد أفضل محتوياتها. فهي لم تخسر فقط أفلام ديزني، بل ستخسر مكتبتها بأكملها خلال العامين المقبلين.
تذكر صحيفة «وول ستريت جورنال» أن مسلسل «The Office» ذي الشعبية الهائلة والأكثر مشاهدة على نتفليكس (ليس في الشرق الأوسط) لا تعود ملكيته إليها، بل إلى «NBCUniversal»، التي ستطلق خدمتها للبث الحي وتستعيد المسلسل من نتفليكس بنهاية 2020.
ليس هذا فقط، بل أيضًا مسلسل «Friends» الذي يحظى هو الآخر بشعبية ضخمة وتميزت نتفليكس بعرضه، لا يعود لملكيتها بل إلى «WarnerMedia» التي تملكها AT&T، وستستعيده منها عام 2020 ولن تتمكن من عرضه مجددًا.
ليست نتفليكس غافلة عما يحدث، ويستدل على هذا بأنها تنفق الكثير من الأموال لتعزز محتوى مكتبتها.
فقدان مسلسلي «The Office» و«Friends» سيئ للغاية، لكنه لا يمثل إلا سطح الأزمة. فوفقًا لشركة «جامب شوت» التحليلية، تعود ملكية أكثر من نصف عروض نتفليكس الأكثر شهرة، والتي يبلغ عددها 50 عرضًا، لشركات تخطط لإطلاق خدمات البث الحي الخاصة بها. نتفليكس تخسر أفضل أفلامها وبرامجها التلفزيونية، كيف يمكن لهذا ألا يشلها عن الحركة؟
يشير ماكبرايد إلى أن نتفليكس بالتأكيد ليست غافلة عما يحدث، ويستدل على هذا بأنها تنفق الكثير من الأموال لتعزز محتوى مكتبتها. ففي 2018 مثلًا أنفقت 12 مليار دولار، ويتوقع أن تنفق 15 مليار دولار أخرى في 2019، وهي الآن تستثمر في محتواها أكثر من أي شبكة تلفزيون أمريكية أخرى، إلا إن تكلفة هذا باهظة جدًا.
ولسوء الحظ، فمهما أنفقت لا يمكنها أبدًا منافسة ديزني أو AT&T، ويؤكد ماكبرايد أن نتفليكس في موقف صعب للغاية.
هل يمكن لنتفليكس النجاة؟
ستيفن ماكبرايد مستثمر محترف، وهو أكبر محلل في شركة «ريسك هيدج»، شركة الأبحاث التي تدرس حالات الخلل والإرباك التي تمر بها المشاريع. ويذكر ماكبرايد أن قيمة نتفليكس في السوق تبلغ 165 مليار دولار، وهذا يجعلها الشركة الأمريكية رقم 30 ضمن الأكبر في التجارة العالمية.
وصلت الشركة لهذه المكانة عبر الهيمنة على البث المباشر، والذي أصبح أدراج الرياح الآن كما يتضح من المقالة. يقول ماكبرايد: «دعنا نفترض أن نتفليكس ستنجح وستنتج العديد من المحتويات التي سيحبها الناس، المشكلة في الحقيقة ليست في ذلك، بل في أن الشركات التي تنتج البرامج التلفزيونية والأفلام لا تصل قيمتها إلى 165 مليار دولار»، فحتى استوديوهات الأفلام الأكثر نجاحًا تقدر قيمتها بعشرات المليارات كحد أقصى. وفي عام 2018، حققت استوديوهات والت ديزني (التي تضم شركات أنتجت علامات في تاريخ السينما مثل Marvel وPixar) عائدات بلغت 10 مليارات دولار، وأرباحًا بلغت 2.98 مليار دولار فقط.
خلال 20 عامًا، استطاعت نتفليكس أن تعيد تشكيل الترفيه في العالم. وعلى مدى سنوات ظل مشاهدو التلفزيون يستمعون لجمل من قبيل «نهاية عصر التلفزيون» أو «موت التلفزيون التقليدي»، في معرض الحديث عن خدمات البث الحي، ولا يزال التلفزيون حاضرًا ويقاوم للبقاء في ساحة الترفيه، فماذا سيكون مصير نتفليكس في السنوات القادمة؟
بحسب ماكبرايد، ستنجو نتفليكس ولكنها ستتقلص، وحتى في أفضل السيناريوهات لن تزيد قيمتها عن 100 مليار دولار في السنوات القادمة. وهذا من شأنه أن يجعل سعر سهمها نحو 225 دولارًا، أي 40% أقل من سعره الحالي. مرة أخرى، هذا سيناريو حالم، لذلك علينا ألا نُفاجأ إذا انخفض سهم نتفليكس للنصف، أو لأسوأ من ذلك خلال العام أو العامين القادمين.