مسدسات يتصاعد منها دخان البارود. خيول تركض في هلع. رائحة الغبار والدم. طعنات في الظهر. مبارزات سيريالية الطابع. أغنيات تهكمية فوق جثث الأعداء. سرقة بنك في الصحراء. حكم إعدام يفشل في اللحظات الأخيرة. «هنود حمر» غاضبون. ورق اللعب والخمر. مزيج غريب من سينما «الويسترن» يقدمه الأخوان كوين في فيلمهما الجديد «The Ballad of Buster Scruggs». متتالية سينمائية من ست قصص قصيرة تجري أحداثها في القرن التاسع عشر بعد الحرب الأهلية الأمريكية.
كان من المقرر لهذا الفيلم أن يكون مسلسلًا تليفزيونيًّا. بدأ الأخوان كوين (إيثان وجويل) كتابة القصص منذ عام 1993، ووضعاها في الأدراج إلى أن أصبحت ما هي عليه الآن: فيلمًا بديعًا في الصورة، ذكيًّا في الكوميديا، سلسًا في السرد.
يُعرف عن الأخوين الولع الشديد بثقافة أفلام الويسترن، فهما يتحدثان طيلة الوقت عن هذا النوع من الأفلام الذي تتجسد فيه المغامرة في صورة حرب متكافئة الفرص بين الخير والشر، يفوز فيها الأكثر مهارة في استخدام السلاح، وسبق لهما إخراج فيلم ينتمي إلى عالم الويسترن عام 2010، هو «True Grit».
The Ballad of Buster Scruggs: محاولة جديدة مختلفة
عند محاولة إخراج فيلم ويسترن في عام 2018، خصوصًا بعد انحسار موجة هذا النوع في هوليوود التسعينيات، وجب على إيثان وجويل كوين تقديم شيء استثنائي.
استعان الأخوان بالمصور السينمائي الفرنسي «برونو ديلبونيل»، الذي صوَّر فيلم «Amélie» المرشح لخمس جوائز أوسكار، وذلك في ثاني تعاون لهم بعد فيلم «Inside Llewyn Davis»، ليخرج هذا العمل غير اعتيادي، حتى على ثقافة سينما الويسترن، في أول مرة يستخدم فيها الأخوان تقنية التصوير الديجيتال.
يحب الأخوان كوين ألعاب الكتابة السينمائية: يبدءان بأمور تبدو بسيطة، ثم يجمعان الخيوط كلها في النهاية.
ينطلق الأخوان من مفاهيم سينما الويسترن الأساسية ومعطياتها، ثم يسحبان كل هذا إلى عالمهما الخاص: الفانتازيا والعشوائية، ليُسهما في إضافة فيلم جديد إلى فئة تسمى «الويسترن الحديث»، تجمع بين سحر الصورة، وأسلوب التصوير الذي يخطف العين، وتدفق الديالوغ (الحوار بين شخصين أو أكثر) والمونولوغ (الحوار الداخلي الذي تهمس به شخصية لنفسها)، وأداء الممثلين، بحيث لا تستطيع أن تلتقط أنفاسك إلا في الفاصل بين كل قصة وقصة.
تُروى القصص الست من خلال كتاب تقلبه أيدي مجهول، وفي مقدمة كل قصة صورة تحمل اقتباسًا من القصة المكتوبة.
الورقة الرابحة في الفيلم شخصية «باستر سكراغز» التي يؤديها «تيم بلايك نيلسون»: رجل خطير يعرفه الغرب الأمريكي كله، على رأسه مكافأة، تهكمي، رشيق، بارع في استخدام السلاح، أغانيه تتسم بالعذوبة، وفوق ذلك كله، يحمل اسم الفيلم.
في قصة سكراغز، نجد البطل مضطرًّا لاستكمال لعبة بوكر بأوراق لا تخصه. يلقي نظرة عليها، فنجدها رقم 1، رقم 1، رقم 8، رقم 8، جاك.
في لعبة البوكر يسمى هذا التسلسل «أوراق الرجل الميت»، أي إنها لا توفر المكسب لحاملها كما يبدو من اسمها.
يبني الأخوان القصة على هذه التفصيلة البسيطة التي تعني كثيرًا في الأحداث. فالأوراق الضعيفة تكتسب قيمة أكبر حين نضعها ضمن تفاصيل الفيلم.
هذه ألعاب الأخوين كوين في الكتابة السينمائية: البدء بأمور تبدو بسيطة، ثم تجميع الخيوط كلها في النهاية.
رغم مهارة سكراغز، يمنعه غروره من الاستماع لنصيحة قديمة قدمتها شخصية ويسترن أخرى هي «إيلي والاتش» من فيلم «The Good, the Bad and the Ugly»: «عندما تريد أن تطلق النار، أطلق النار، لا تتحدث».
ويسترن الأخوين كوين: لا تتحدث.. أطلق النار
كان اختيار الأخوين لـ«جايمس فرانكو» في دور سارق بنك موفقًا، في قصة هي الأكثر فكاهة في الفيلم. موظف بنك عجوز يرتدي عدة أوانٍ درعًا واقيًا خلال القتال، والعجيب أن الأمر ينجح. تفصيلة لا تظهر في السينما إلا من مثل الأخوين.
في واحد من عروض الكوميديان الأمريكي «جورج كارلين»، يتساءل: «عندما كنت أشاهد أفلام الويسترن في صغري، ويُقتَل أحدهم، كان يخطر على عقلي سؤال واحد: أين يذهب حصانه؟». في هذه القصة من الفيلم، يحكي الأخوان كوين رؤيتهما الشخصية لهذه الفكرة، فيكون أحد المحاور الأساسية سؤال: أين يذهب الحصان؟
جاء اختيار «ليام نيسون» في دور «إمبريساريو» متفقًا تمامًا مع الشخصية التي يؤديها في الفيلم، فهو يملك ملامح مقبضة، متجهمة طيلة الوقت، ويلعب في الفيلم دور صاحب عربة تقدم عرضًا يؤديه رجل مبتور الأطراف.
من كل شخصيات الفيلم، يظهر هذا الرجل في أفضل أداء درامي، وهو يردد أجزاء من قصيدة «أوزيماندياس» للشاعر «بيرسي شيلي»: «اسمي أوزيماندياس، ملك الملوك، انظر إلى منجزاتي أيها الجبار، وابتئس».
يقتبس «إمبريساريو» أيضًا من الإنجيل حكاية قابيل وهابيل، ومن خطبة للرئيس الأمريكي «إبراهام لينكولن»، بأسلوب مسرحي أخاذ، كأنه يمثل عرضًا مسرحيًّا داخل فيلم.
في قصة أخرى، يمشي «توم وايتس» مع حماره يبحثان عن الذهب.
يقدم وايتس في هذا الفيلم شكلًّا فنيًّا جديدًا يختلف تمامًا عما عهدناه في أفلامه السابقة مع المخرج «غيم غارموش»، مثل كل ممثل عمل مع الأخوين كوين.
في القصة الخامسة، يستلهم الأخوان الأحداث من قصة للكاتب الأمريكي «ستيوارت إدوارد وايت»، ويضيفان إليها لذعة من سوء الحظ. القصة الأطول في الفيلم، والأكثر كلاسيكية من ناحية إخلاصها لنوع الويسترن.
تضعك كل قصة في موقف يجعلك تتضامن مع الشخصية، تريد أن تحذرها من الفخ، تنبهها إلى الحل.
في القصة السادسة، نجد أبطال قصتنا في عربة يجرها حصان، تنطلق سريعًا. سواء سمعك سائق العربة أو لم يسمعك، فإنه لن يتوقف إلا في محطته النهائية. تلك هي الأوامر.
يدور الحوار في العربة بين ستة أشخاص، اثنان منهم صائدي جوائز (شخص يبحث عن الخارجين عن القانون مقابل المال). يتولى الأول مهمة الحكي للتشتيت، والثاني القتل. لقد نجحا في اصطياد هدف يرغبان في الحصول على مكافأة قتله. تحكي القصة رحلتهما حتى وصولهما إلى مكان تسليم الجثة واستلام المكافأة.
خلال الحديث، يضع الأخوان بداية قصة «The Midnight Caller» من فيلمهما «True Grit»، لكن القصة لم تبدأ، فقط أشارا إليها.
تضعك كل قصة في موقف يجعلك تتضامن مع الشخصية، وتود أن تحذرها من الفخ، أو تنبهها إلى الحل، لكن هذا ليس ما يريده الأخوان. حتى الحل الذي تفكر فيه، لن يلجآ إليه. هل كنت لتفكر أن موظف البنك العجوز سيخرج بدرع من الأواني؟ بالطبع لا، ولا السارق نفسه.
يضع الأخوان أبطالهما في مآزق ومواقف محرجة، يورطانهم في اتخاذ أفضل قرار في أسرع وقت. ربما يتخذون القرار الصحيح بالفعل، ما يوقعهم في ورطة من نوع آخر أكثر وطأة من الورطة التي كانت في انتظارهم عند اختيار القرار الخطأ.
إنه عالم الأخوين كوين: لا يمكنك التنبؤ بما سيحدث، ولا التنبؤ بما سيُقدمان في فيلمهما التالي.
تقنيات الأخوين كوين المميزة
أبدع المصور السينمائي «برونو ديلبونيل» في تسليط الضوء على ما يجب ألا تُفوِّته. في كل قصة تجد الإضاءة الدافئة تجتذب بصرك، لن تشعر بالإزعاج، المَشاهد تمر بهدوء، حتى أكثرها حركة. تجد نفسك متماشيًا مع الإيقاع البصري للفيلم، مثلما فعلها في فيلم «Inside Llewyn Davis»، لأن التصوير عامل مؤثر في تعاطفك مع البطل.
تتحد سيولة تصوير ديبلونيل مع كتابة الكوينز وإخراجهما لإبراز السمات المميزة للأحداث.
عُرض فيلم الأخوين كوين للمرة الأولى في النسخة الخامسة والسبعين من مهرجان الفيلم العالمي في فينيسيا، وحصل على جائزة «أفضل سيناريو»، ثم أصبح متاحًا للعرض على شبكة «نتفليكس» دون أن يُعرض في دور السينما العالمية.