تراث غير محافظ: التابوهات في الأغاني الكويتية

رقص كويتي فلكلوري شعبي على وقع «المراويس» - الصورة: كونا  - التصميم: منشور

فريق منشور
نشر في 2021/05/28

«أسكر بعود.. وأسكر وأعود.. وأسكر بتفاح شامي.. معلّق بروس النهود»، هكذا يغني البحارة في ساعة راحتهم على إيقاع الحدادي، دون حرج من ذكر السكر والنهود المشبهة بالتفاح الشامي الذي يُصنع منه الخمر، انعكاسًا لتراث أدبي عربي طويل، من الجاهلية بشهادة المعلقات، إلى العصور المختلفة كما في الموسوعات الأدبية العربية مثل كتاب «الأغاني» للأصفهاني و«خزانة الأدب» للبغدادي و«منتهى الطلب» و«نهاية الأرب» للنويري وغيرها، وإلى يوم غناء هذه التنزيلة (أغنية بحرية) دون حرج من ذكر إشارات جنسية أو ذات علاقة بالمجال الدلالي للخمر.

هذه الكلمات عينها لا يمكن أن تعاد صياغتها في كلمات أغنية حديثة، أهي الصحوة كما تسمى؟ أم هي الثنائية التي تحكم المجتمع بين الظاهر والباطن، المقبول سرًا والمرفوض علنًا، المرفوض حاضرًا والمقبول تراثًا؟ ومثل ذلك بعض الإشارات الدينية التي باتت في منظومة المحرم. ولربما تسرب من هذه النصوص ما دل على جريمة أو محرم في سياقه الاجتماعي أعظم من الإشارات الجنسية بين الجنسين دون انتباه.

فلا إجابة على ذلك هنا، إنما في هذا المقال نستعرض أمثلة على ما فاضت به كلمات الأغنيات التراثية والغناء القديم من الفنون السامري والخماري والنجدي وغيرها، وأغاني البحر كالحدادي بأنواعه والصوت، والغناء القديم أعني به ما غُني قبل 1980، ليكون هذا الإطار التاريخي، أما الجغرافي فحدود دولة الكويت.

«ومعزل الردفين ومضمري.. ونهود غض مثل بيض الحمام»

الصورة: الراي

مثل هذه الأبيات ذات اللغة الفاضحة بمعايير اليوم تَغنى بها المغنون في الكويت في الأفراح وليالي السمر، بل وسُجلت في الإذاعة وعلى اسطوانات، وهذا تفسير وصولها إلينا، ثم نقلت على وسائل التسجيل الحديثة، وحفظتها لنا ذاكرة المغنين ودواوين شعرائها، وبعض الدراسات كـ«الإيقاعات الكويتية في الأغنية الشعبية» لغنام الديكان، وخزائن النصوص مثل كتاب «السامري والهجيني» لعبد الله الحمدان، ولكنها في مرحلة تالية أصابها مقص الرقيب حذفًا أو تغييرًا، كما يظهر في التسجيلات الحديثة لهذه الأغنيات وبعض مجاميع النصوص كأعمال خالد سالم محمد الأنصاري.

بجولة سريعة على فنون الغناء في الكويت نجد أن المجالات الدلالية الداخلة في مفهوم المحرم/التابو اليوم تندرج في بوتقات نجملها في الآتي.

الجنس

لا يكاد يخلو نص من نصوص الغناء القديم من إشارات جنسية واصفة من المحبوبة، نهدها أو ردفها، أو ممارسة جنسية يشترك فيها الطرفان تعبر عن ذوق المخيال الجمعي. «[فـ] النهود المستجلة باعتدال.. من ثمرهن مالهجهن الفصيل»، و«النهود اللي كما بيض الحمام». ويتكرر هذا التشبيه في قوله «عليك يا لابس ضفيرات خلي.. بيض الحمايم نهود».

لم يدع الشعر المغنى قبل تحريمه والتفاف المغنين اليوم، بل ومن صنف في كلمات الأغاني، النهدَ دون تحديد اللون والصفة، فقد حددوا الحجم كما في هذا الفن النجدي بصيغة التصغير قائلًا: «وله نهيد بالحشا لا خوخ رمان.. تفاح شامي»، أو تشبيهًا كما في فن فريسني في قوله «النهد فنجان ما ينشاف.. والخد يا زين براقه». وربما صرح النص بالحجم قائلًا: «خص لي في سلامي بونهيد صغير». وعادة ما يختم وصف النهود بالأثر المترتب عليه كقولهم: «وفي مفرق النهدين موتي وغربالي»، أو «منوتي يا بو حمد رص النهود». وإن قال قائل تلك فنون في السمر ولا تكون في العلانية، فيرد عليه بكلمات من عرضة فيها «يا بنت ياللي نهدها مزموم وقرون شقر كنها الريحان».

ولا ندع النهدين إلا إلى الأرداف، وهي التي ذكرت في التراث وصفًا يبالغ في حجمها، فهي في قصيدة كعب بن زهير «بانت سعاد» في قوله «عجزاء مدبرة». وعلى هذا التقليد تسير كلمات نصوص الغناء قبل الحذف والتحوير، كما في الفن العدساني المشهور «شدوا الضعاين يا فهد»، وفيه «شبر بريمه يتعب المحمول ردفين.. أسود ثليله كاسي الأمتان يزهاه». ولا يعدو الوصف الصيغة التراثية من نبو الأرداف وعظم العجيزة كقوله «نابي الردفين مردوع الشفاه»، أو بتشبيه فريد في قوله «نابي الردفين كنه.. غصن موز في النعيم»، ومنى الشاعر الذي ينقله المغني بفنونه للمستمعين رجالًا ونساء سرقة نظرة من وراء حجاب لمن هو «لابس ثوب الرفراف والردف يهبلني»، أو أنه يكني عن عظم العجيزة بأن معشوقه «يتل الردايف تلة الحصن للقاري».

وربما تسللت بعض هذه الألفاظ والتشابيه في الأداءات الحديثة لهذه الفنون، لكن ما لا ينسل من سد الرقابة المحدث العالي تعابير تشرح أفعالًا من قبيل الممارسات الجنسية، وإن ذكرت في التراث الغنائي، كما في التنزيلة البحرية «عطني خديدك أمصه»، أو في الهجيني «أنا كيف أبنسى حبتي له مع النحر». وهنا تتسيد القبلات الصورة الجنسية مثل «والشفايا المراهيف العسال مزهن ومشاهده يبري العليل»، و«الي حرمني مزة من شفاياه.. جعله عليل وما يحصل طبيبه يا بو فهد» في السامرية الشهيرة «يا بو فهد مني غدا الشوق»، وإن حُذف البيت بعد أن غناها كاتبها. أو نجد ذلك في بيت من فن الصوت فيه «فقبلته قبلتين في كل كف.. وأربع قبل في الخدود متوالية».

وقد يتعدى النص المغنى إلى ممارسات أخرى، كلها أصابه الرقيب بحذف أو تغيير إلا ما تسرب في جلسات خاصة أو هربه المؤدي تهريبًا، كقوله «وبالليل أنا وياه بوزار نيباري»، وفي السامري «وطول الليل وصدري بيمينه»، ليهرب بعض المؤدين من «وصدري بيمينه» إلى «وسّدني يمينه». ولكن أين ذلك من قوله «برع بمجدوله وقط الثوب.. لمني على صدره ولميته». وقد يكون أشهر نص تسرب في الأداءات العلنية من فن صوت يرد فيه «وافك صدرك انا باشم صدرك شم».

التسرب وتغبّش الدلالة

الصورة: الراي

ربما لا يدرك الكثير بأن نصوصًا غنائية كثيرة قد تسربت دون إدراك حقيقة دلالاتها، إما لغياب اللفظ الصريح فيها، وإن كان السياق العام للنص يفصح بما لا يدع شكًا أنها تدخل في منظومة المحرم، كالمثلية في الأغنية المشهورة «سالم يا سلمان»، وأدعوك أن تعيد النظر في كلماتها:

«جيته بالليوان.. والحوش مليان.. كله صبيان.. آه يا سلمان. جيته ينوحي.. فوق السطوحي.. عقلي وروحي.. آه يا سلمان. جيته يتوضى.. وأبريجه فضة.. ردف يعضه.. آه يا سلمان. جيته في داره.. ينقش حبارى.. فرخ الزبارة.. آه يا سلمان».

حين يحرم دخول جلال الدين الرومي الكويت بعد ثمانية قرون من وفاته، لا يتصور في هذا السياق تقبل نصوص يتبارك فيها المؤدي بالأولياء.

ومما تسرب دالًا على الجريمة نصان، أولهما يحكي عن أحدهم وقد عشق عبدًا من مومباسا، ولعل سادته علموا بذلك فعاقبوه كما في قولهم «أسمع ونين عبيدي فوق الغرفة.. يمّه عشقني مولد وشق ثوبه.. يارك الله يا بومباسي»، وتروى «اش هالونين».

أما الحكاية الأخرى فموغلة في قدم تاريخ الكويت، عن جريمة قتل في تل بهيتة، والضحية طحنون عبد آل خليفة، ولعل ذلك قبل خروجهم من الكويت. والكلمات تغنى تعريبًا لنص سواحلي في الليوة بقولهم: «يا ساكنين بهيتة عطوا الخبر طحنون.. طحنون عبد الخليفة تحت الثرى مدفون». ولم يذكر التاريخ ولا الروايات الشفوية هذه الحكاية التي تسربت في النصوص. وذِكر العبيد تبدل في أشهر نصوص الزفاف «يا معيريس أنا زفيتك والعبد شايل المبخر وراك»، لتتحول العبد إلى الولد.

لنا ولكم ديننا

تغير المزاج الاجتماعي تجاه المحرمات لم يمس النصوص الواضحة ويتناسى تلك غير الجنسية أو ما يمكن غض النظر عنها إذا ما تخيلت في سياق غير سياقها الأصلي، ولكن اليوم حين يحرم دخول جلال الدين الرومي الكويت بعد ثمانية قرون من وفاته، لا يتصور في هذا السياق تقبل نصوص يتبارك فيها المؤدي بالأولياء كفنون القادري ومنها «شي لله يا العيدروسي.. شي لله محيي النفوسِ.. كل المشايخ أولياء.. والشيخ عبد القادرِ.. عبد القادر يا مطلبك.. في كل أنس منهم رجاء». ناهيك بالمجازات التي تتلبس المعجم الديني لها صيغة، كقولهم في فن «من تولع في هوى نجل العيون.. ما يفكر في حلال أو حرام»، وفي صوت «يا كعبة الحسن أنا بكون لك عبدِ.. باطوف بالبيت أقبل منه أركانا».

خاتمة: ثنائية المرفوض والمقبول

التغير سمة الأمم، وما زال الأدب مصدرًا للفنون يحمل ملامح قد يعتبرها بعض المتلقين جريئة ويتقبلها آخرون معاصرون ولاحقون. اللاحقون يغلبون في ذلك عادة، وقد يؤولها المريدون لتخرج عن ظاهرها المستنكر، إلا أننا في هذا الاستعراض تبينت لنا سلطة حكمت على نصوص ظلت تتداول عقودًا وبعضها قرونًا، حكمت على بعضها بالتغيير وبعض آخر بالتغييب، وانسلت منها نصوص أنقذها تغبّش الدلالة، ثنائية اصطدم بها النص جعلت التراث محل مراجعات واستنطاق يناسب الحاضر بتناقضاته، ثنائية تحكم المجتمع بين الظاهر والباطن، السر والعلن، المرفوض حاضرًا والمقبول تراثًا.

مواضيع مشابهة