«الصورة حلوة أوي» و«دي مش لقطة، دي لوحة فنية». نموذجان لعبارات صارت تتردد كثيرًا على منصات التواصل الاجتماعي، للتعليق على بعض اللقطات أو الحالة البصرية التي تقدمها أعمال فنية مختلفة، سواء مسلسلات أو أفلام.
منذ أعوام قليلة مضت، ومع الطفرة التي حدثت في المسلسلات والسينما على عدة مستويات، بدأ المشاهدون يهتمون بفكرة الصورة والألوان، وبدورهم بدأ صناع الأعمال الفنية يهتمون بتطوير هذه العناصر بشكل ملحوظ.
من الجيد أن تلتقط عين المُشاهد الجودة الفنية، وتبحث عنها. لكن عندما يتحول الأمر إلى الانبهار بعنصر واحد فقط، فربما علينا أن نعيد النظر في قيمة هذا العنصر داخل العمل، سينمائيًّا كان أو تلفزيونيًّا. فحتى لو كانت «الصورة حلوة»، من الجائز جدًّا أن تكون محصلة العمل كله دون المستوى.
ماذا نعني بالصورة؟
كلمة الصورة فضفاضة جدًّا. فأي لقطة نشاهدها على الشاشة تحتوي على لمسات مصممي الديكور والملابس، ومدير التصوير، وبالطبع رؤية المخرج. وما نراه في أي كادر، هو خلاصة رؤية هؤلاء معًا للشكل الذي يجب أن تخرج به هذه اللقطة، ومكانها داخل الفيلم، فهي ليست مصنوعة فقط للدعاية، أو لتكون منفصلة كلقطة جميلة بعيدًا عن السياق.
عادة ما نخلط بين عملي المخرج ومدير التصوير. الاعتقاد الشائع أن زوايا التصوير يختارها مدير التصوير، بينما من يختارها هو المخرج، ولمدير التصوير مهمة تنفيذ الإضاءة المطلوبة في كل مشهد، تلك الإضاءة التي لا يتوقف دورها فقط على وضوح الرؤية، بل يمتد إلى خلق تأثير. والمثال الأشهر لذلك هو الشخصيات المرعبة التي تكون عادةً بعيدة عن دائرة الضوء، أو تستخدم الظلال لإضفاء مزيد من الرهبة.
المهم هو أن تحمل هذه العناصر رؤية ما خاصة بالعمل، وليست مجرد إضافة تجميلية. وهنا وجه الخلاف في التحول إلى الاهتمام بفنون الصورة الذي ظهر في الأعمال الدرامية المصرية مؤخرًا، إذ يكتفون بأن تكون اللقطة غنية بالإضاءة أو الألوان لتلفت الأنظار، دون أن يكون لهذا أي تأثير داخل العمل، كما سنذكر لاحقًا بالتفصيل.
الصورة: متى بدأت الأسطورة؟
يمكن أن نربط بين الاهتمام بالصورة الجيدة والإقبال المتزايد على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته، ما جعل كثيرًا من المتابعين يبحثون فقط عن لقطة أو جملة حوار تبدو جميلة، للإسراع بوضعها على صفحاتهم، إضافة إلى اتخاذ صفحات الدعاية الخاصة بالأعمال الفنية نفس السلوك. سهَّل من الأمر بالطبع وجود معظم الأفلام والمسلسلات على الإنترنت، ما يتيح العودة بسهولة للمَشاهِد والتقاط «سكرينشوت» للقطة المطلوبة.
لكن إن كان هذا هو رد الفعل الجمهور، فمتى بدأت الأعمال الدرامية في لفت أنظار الجمهور لتقنيات الصورة وتطورها؟
يمكن محاولة تلخيص هذا التحول في الأسباب التالية:
1- من السينما إلى التلفزيون
هناك هجرتان رئيسيتان في الفترة الأخيرة لمخرجي السينما في مصر إلى التلفزيون: الأولى بعد ما عُرِف بموجة المضحكين الجدد، بداية من 1997، بعد «إسماعيلية رايح جاي»، ما جعل كثيرًا من المخرجين الكبار، سنًّا وقيمةً، يتجهون إلى الشاشة الصغيرة، بعد أن ظهر جيل جديد من المخرجين بأفكار مختلفة عن التي اعتادوا تقديمها، من هؤلاء خيري بشارة ونادر جلال.
الهجرة الثانية جاءت بعد ثورة يناير، إذ تراجع حجم الإنتاج السينمائي بسبب ضعف الإقبال الجماهيري، فلم يكن هناك متنفس إلا التلفزيون. وهكذا ابتعد عدد من المخرجين عن السينما، مثل محمد ياسين وكاملة أبو ذكري.
أدى هذا إلى نقل كثير من المفردات السينمائية إلى التلفزيون، مثل الاهتمام بالتكوينات وتقنيات الإضاءة المختلفة بدلالاتها التي لم تكن تُستخدَم عادةً في الدراما لاختلاف طبيعة المَشاهد والوسيط نفسه مهما بدا متشابهًا.
2- الجَمال المقتبَس
منذ بدأ عرض المسلسلات التركية المدبلجة، وهناك حالة من الإقبال غير العادي عليها. هكذا صارت منافسًا قويًّا للمسلسلات المصرية، وأصبح هناك قاعدة جماهيرية كبيرة تتابعها، ليس فقط لمضمونها الذي يكون متشابهًا في أحيان كثيرة، بل لمتابعة الأماكن الطبيعية والألوان الدافئة التي تستخدمها هذه المسلسلات عادة. ربما يتابعونها رغبةً في التغيير، وربما لمشاهدة نفس الموضوعات التقليدية بشكل أكثر جمالًا على مستوى عناصر الصورة فقط.
النتيجة بالطبع أن بدأ كثير من الأعمال المصرية والعربية في استخدام هذه البهرجة البصرية، حتى وإن كانت غير مفيدة أو غير منطقية.
3- ملاحقة تطور الجمهور
مثلما ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشار ظاهرة «الصورة الجميلة»، كانت ثورة التكنولوجيا من الأساس أحد أسباب هذا التطور. فالجمهور الذي كان يكتفي بالمسلسلات والأفلام المتاحة في التلفزيون، أو على شاشة السينما، بات منتفحًا على العالم كله، يشاهد كل ما يُعرَض في الخارج بعد صدوره بأسابيع أو حتى أيام.
أمام جمهور يتابع مسلسل بإمكانيات «Game of Thrones» (لعبة العروش)، لم يعد ممكنًا أيضًا أن يظل ما يُقدَّم إليه على صورة مسلسل «الفرسان». وعندما لاحظ المشاهدون هذا التطور بدؤوا بالطبع يتابعونه، وبالتالي صارت الأعمال الأقل اهتمامًا بهذه التفاصيل أقل في نسب المشاهدة. وهكذا دخلت شركات الإنتاج مرحلة جديدة، وهي مرحلة الإنتاج الضخم من أجل الحصول على نسب مشاهدة أعلى.
وما المشكلة في ذلك؟
«ألفريد هيتشكوك» نموذج خالد لكيفية استخدام الألوان، فرغم أن معظم أفلامه تنتمي إلى نوع التشويق، أعطى لكل عمل طابعًا بصريًّا خاصًّا به.
لكن إن كانت الأعمال الفنية تنتقل إلى مرحلة مختلفة، ويُبدي صناعها اهتمامًا بتفاصيل الصورة، فلماذا لا نبتهج بهذه الإضافة؟ ولماذا نكتب هذا الموضوع من الأساس؟
إذا رجعنا إلى الأفلام في بداية عصر السينما الملونة، سنلاحظ بالتأكيد استخدام كثير من الألوان الزاهية، المَشاهد الملونة في «The Wizard of Oz» أو «رد قلبي» دليل على هذا الاستخدام. يمكن تفهُّم الأمر بالطبع، فالسينما بعد أن كانت باللونين الأبيض والأسود فقط، صارت تَنطِق بالألوان، وأصبحت دعاية الفيلم تصاحبها عبارة «بالألوان الطبيعية». فلماذا لا نجمع أكبر قدر ممكن من الألوان للمُشاهد؟
بمرور الوقت أصبح الأمر أكثر انضباطًا وتوظيفًا لخدمة الدراما. «ألفريد هيتشكوك» نموذج خالد لكيفية استخدام الألوان، فرغم أن معظم أفلامه تنتمي إلى نوع التشويق، فإنه كان يعطي لكل عمل طابعًا بصريًّا مختلفًا وخاصًّا به. في فيلم «Rear Window» مثلًا استخدم ألوانًا دافئة، عكس الألوان الحارة المستخدمة في «Vertigo». بينما عاد إلى الأبيض والأسود في «Psycho»، ليس فقط لقلة التكلفة، بل لأنه كان الأنسب لتخفيف التأثير الدموي في مشهد القتل الشهير، تخفيفه فقط. لكن المشهد ظل يترك أثره الصادم دائمًا.
توقف الانتقال في الأعمال المصرية لدى كثير من المخرجين (وليس جميعهم بالطبع)، عند مرحلة «كثير من الألوان، وكثير من التفاصيل» التي تبدو جمالية، لكنها لا تحمل أي تأثير درامي، وأحيانًا لا تنتمي إلى البيئة التي يقدمها العمل، فتبدو مُقحَمة بوضوح.
قد يهمك أيضًا: الجمال المزعج والمأساة الفنية: كيف تؤثر فينا الصورة؟
الصورة أم المضمون؟
محمد سامي من أكثر المخرجين اهتمامًا بفكرة الإبهار البصري. لكنه في المقابل لا يوظف هذا الإبهار بأي شكل درامي، بل الأكثر من هذا أنه يقدم نماذج بصرية يصعب أن تكون موجودة في الواقع. فقط هناك كثير من الألوان على الشاشة بشكل لافت.
يمكن أن نرجع إلى مسلسل «حكاية حياة»، من إخراجه. فالاهتمام بجمال الديكور يفوق أي عنصر آخر داخل المسلسل، حتى إننا نشاهد مصحة نفسية تفوق تجهيزاتها فنادق الخمس نجوم، بشكل من الصعب جدًّا تصور وجوده في مصر، إضافة إلى ديكورات الفيلا التي تعيش فيها عائلة حياة. النتيجة كانت أن الحديث عن هذه الديكورات ربما فاق الحديث عن المسلسل نفسه.
يستمر سامي في اتباع سياسة الألوان في فيلم «أهواك»، فنجد ديكورات الجامعة التي يدرس فيها أحمد مالك وعيادة تامر حسني مليئة بالألوان التي تخطف العين. ربما أضفت الألوان بعض الحيوية على الفيلم الرومانسي، لكنها كانت أبعد ما تكون عن الواقع.
بالطبع لا يجب أن يلتزم الفيلم بنقل الواقع كما هو، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يؤسس عالمه أو إطاره منذ البداية بشكل واضح، وهكذا يمكننا تقبُّل ما سيقدمه لاحقًا.
كان هناك اهتمام كبير بتقديم تفاصيل أربعينيات القرن العشرين في «ليالي أوجيني». لكن أحداث المسلسل كانت بطيئة جدًّا، فقتلت هذه التفاصيل.
عندما قدَّم «ويس آندرسون» الفندق الغريب الممتلئ بالشخصيات الكارتونية، في «The Grand Budapest Hotel»، أسس منذ البداية لهذا العالم المختلف، فصار يمكننا تقبل حتى السجن الكوميدي الذي قدمه، بينما إذا عدنا إلى فيلم «أهواك» سنجده يدور في العالم التقليدي، وبالتالي من الصعب أن نتقبل الأثاث والديكورات المُبهرة الموجودة في كل غرفة لدى كل شخصية.
قد يهمك أيضًا: ويس آندرسون: فن تلوين المغامرة
لا يتوقف الأمر عند الديكورات فقط، بل يمتد إلى التصوير أيضًا. اختلف كثيرون حول فيلم «الأصليين»، لكن كثيرين أيضًا شهدوا بأن التصوير السينمائي لأحمد المرسي من أفضل عناصر الفيلم. مرة أخرى: كانت هناك حالة من الاستمتاع بالإضاءة، خصوصًا في المَشاهد الليلية. لكن كيف أضاف هذا إلى الفيلم؟
لدينا مشهد طويل يظهر فيه ماجد الكدواني وخالد الصاوي يمشيان وسط حقل، ويستخدمان مصباحًا زيتيًّا للإنارة. المشهد «يبدو» جميلًا، لكنه لا يسفر عن شيء. فالحوار الذي دار في نهايته كان يمكن أن يحدث في أي مكان آخر، وبأي إضاءة أخرى، حتى إذا بدت هذه الإضاءة جميلة.
في رمضان 2018، شاهدنا الاهتمام الكبير بتقديم تفاصيل أربعينيات القرن العشرين في «ليالي أوجيني». لكن أحداث المسلسل كانت بطيئة جدًّا، فقتلت هذه التفاصيل. وفي السينما، جاء فيلم «ليلة هنا وسرور» بتنفيذ رائع وغير مسبوق لمَشاهد الأكشن، لكن دون سيناريو جيد، بل إن مَشاهد الأكشن ابتلعت كثيرًا من وقت الفيلم على حساب الأحداث، وكأن المقصود تقديم الإبهار البصري وحده.
الانبهار يأتي متأخرًا
الغريب أن معظم المشاهدين بدؤوا يُظهرون إعجابهم بعناصر الصورة مؤخرًا، رغم أن تاريخ السينما المصرية مليء بمخرجين أجادوا استخدام هذه العناصر بشكل جمالي رائع، دون أن تنفصل عن المضمون.
فيلم «الاختيار» ليوسف شاهين يحتوي دروسًا تاريخية في كيفية استخدام التكوينات لتعكس حالة الشخصيات المشوهة، وألوان الملابس لتربط بين حالة شخصيات أخرى. وبعيدًا عن شاهين كأشهر مخرج في تاريخ السينما المصرية، يمكن الرجوع إلى «زوجتي والكلب» للمخرج سعيد مرزوق الذي وظَّف الإضاءة بشكل جمالي لتوضيح حالة الانقسام لدى البطل الذي يشك في زوجته، وفي زميله، بسبب أخطائه هو في الماضي.
ربما يؤكد هذا أن حالة الإعجاب الحالية لحظية، وربما وليدة التدافع وراء الجمال السطحي أو الرغبة في مجاراة الآخرين، والسبق في مشاركة الصورة على السوشيال ميديا مع عبارة «الصورة حلوة أوي».