في نهار السادس من أغسطس عام 1945، ألقت طائرة أمريكية قنبلة «الولد الصغير» النووية على مدينة هيروشيما اليابانية. استغرقت القنبلة دقيقة تقريبًا للوصول إلى الأرض، وأودت على الفور بحياة ما بين 70 إلى 80 ألف من سكان المدينة.
يُمثّل دمار هيروشيما حدثًا جارفًا لقدرة الإنسان على استيعاب الشر أو الموت الذي لم يكن له من قبل مثل هذا الحضور الطاغي (بشري الصنع)، بعيدًا عن الأساطير والحكايات الدينية، إذ كان في هذه الحالة من صنع الآلهة أو في التاريخ المُسجل، وقد كان من صنع الطبيعة، وليس الإنسان الذي تمكن خلال القرن العشرين من ابتكار آلة تحمل قدرة غير مسبوقة على الإطلاق للقتل.
صحيح أن الحرب العالمية الأولى شكلت أول صدمة كبيرة لإنسان الحداثة الذي كان يتساءل حتى ذلك الحين عن الطريقة الأفضل لإقامة «جنة على الأرض»، لكن خلال الحرب العالمية الثانية حولت معسكرات الإبادة النازية، وقنابل الإبادة الذرية تلك، الرغبة أكثر تجاه أسئلة من نوع: كيف نمنع أنفسنا من ارتكاب الشر وإعادة إنتاج الجحيم الأرضي؟ لقد أصبحت الأسلحة أشد فتكًا.
فإلى جانب الغاز السام والصواريخ الباليستية ظهر سلاح فريد من نوع خاص يحمل 60 كيلوغرامًا من مادة تقتل حتى بعد مرور عقود على إطلاقها في الجو.
«الغرائز التي عصف بها الدمار الهائل
مُمزقة إلى أذرع وأقدام عائمة
إلى الأشعة المتدفقة في النهر
حيث الوميض النابض بصورة الحياة.
ابتسامات الزوجات لأطفالهن
الإفطار بجوار غرفة الولادة الشفافة
صور تجمعت الآن
في العين التي اقتلعها الزجاج
في صديد الطين والدم
في استراحة من الدخان والسحب
وفي الشمس الجالسة فوق قمة الجبل»
من قصيدة «العمى» لـ«سانكيشي توغي»، أحد أبرز المجددين في الشعر الياباني خلال النصف الأول من القرن العشرين.
درس توغي التجارة، وعمل في شركة هيروشيما للغاز، وكان مصابًا بالربو وتوسع الشُّعب الهوائية منذ صغره.
في نهار السادس من أغسطس عام 1945، كان توغي في منزله يهم بالمغادرة إلى وسط المدينة، حين انفجرت القنبلة النووية الأولى هناك، حيث أراد الذهاب على بعد ثلاثة كيلومترات من المنزل، وحيث اتسع الدمار لدائرة قطرها 1.6 كيلومتر، أُصيب سانكيشي، البالغ من العمر حينها 28 عامًا، بشظايا نتيجة تطاير الزجاج، وعانى لشهور من آثار الإشعاع.
الناس على بعد كيلومترين من مركز الانفجار لم يكونوا محظوظين بما يكفي، أما الأكثر قُربًا، فقد دُفنوا أحياء، ومَن نجا منهم هرب من الدمار مُحترقًا، ومات بعد أسابيع أو أشهر، إما من آثار الحريق، وإما بالإشعاع.
التهمت القنبلة المدينة خلال لحظات، ركض مئات الناس في الشوارع عرايا يعانون من الحروق. التصقت تلك المشاهد بذاكرة توغي، وحوَّلها بعد ستة أعوام إلى ديوان شعر بعنوان «قصائد القنبلة الذرية». وصف توغي الآثار النفسية التي خلفتها الكارثة عليه في بداية قصيدة بعنوان «الموت»، إذ يقول:
«أصوات عويل في أذني
ترتفع دون صوت
تندفع نحوي مُحطِّمة الفراغ»
كان توغي (كما ذكر في خاتمة ديوانه) يشعر بالخجل من انتظاره ست سنوات لكتابة قصائد عن سقوط القنبلة، وقد ذكر كذلك إحساسه بالعجز عن نقل جوهر الحدث والتعبير بشكل كافٍ عن أن كل فرد رحل في هيروشيما لا يمثل مجرد ذكرى، وبأنه سعى لحفظ مكانة هؤلاء في التاريخ، ولدى كل إنسان وشعب وأمة، والإنسانية جمعاء.
تكلم توغي عبر قصائده، باسم أحياء هيروشيما المُعذبين بالفقدان، مُستهلًّا ديوانه بقصيدة يقول فيها: «ردوا لنا الآباء والأمهات، العجائز والأطفال، ردوا لنا البشر». البشر الذين رحلوا خلال دقائق، وحتى بعد مرور سنوات، لم تكن المعابد تتسع لعائلاتهم لإحياء ذكراهم.
في عام 1952، يذكر توغي أنه كان لا يزال من الضروري إحياء الذكرى السابعة للضحايا، على عدة أيام بدلًا من يوم واحد، لاستيعاب الأعداد. بلغ تعداد المدينة عند قصفها نحو 350 ألف نسمة، وبالمقارنة مع أعداد الضحايا الذين تخطوا على مدار السنوات 140 ألف، فقد عانت كل أسرة تقريبًا مرارة فقدان أحد أفرادها أو أقاربها.
أيها الصغار، قاوموا الكبار في العالم كله
انضم سانكيشي توغي إلى الحزب الشيوعي الياباني منذ العام 1949، وقاد حركات معارضة عدة لمنع انتشار السلاح النووي والدعوة إلى السلام. مع بدايات الحرب الكورية عارض تلميح الرئيس «هاري ترومان» (الذي أعطى الأوامر بقصف هيروشيما وناغازاكي) لإمكانية استخدام السلاح النووي مجددًا. ألقيت قصائد ديوانه «قصائد القنبلة الذرية» في مهرجان الشباب الدولي الثالث للسلام عام 1951، وقد عُقِد المهرجان ضد التهديدات النووية المحتمَلة في أثناء الحرب الكورية.
في خاتمة الديوان، يُضيف أن رغبته في السلام هي ما يدفع قصائده التي يكتبها في وقت تُنتزع من الإنسان بالقوة حرياته الأساسية، وقد أثار ذلك الجرح العميق في قصيدته «الولد الصغير» قائلًا:
«أيها الصغير، عزيزي الصغير
لماذا في العالم، حيث تعيش
ترتجف الشمس عارية خلف السحاب
وفي طريق الغبار المحترق الأصم
تمطر نارًا، وتحلِّق شظايا الزجاج المتلألئة؟»
رحل سانكيشي توغي بعد إصدار «قصائد القنبلة الذرية» بعامين فقط قضاهما في مشفى هيروشيما الوطني وعمره 36 عامًا، لكن «شاعر القنبلة»، كما يُلقب أحيانًا، كان قد ودع صغار مدينته وداعًا لائقًا، فقد دعاهم للعناق والمقاومة في قصيدة «نُصب تذكاري» قائلًا:
«أيها الصغار
لا تصمتوا
تكلموا
قاوموا الكبار في العالم كله
أرباب الحرب
اصرخوا فيهم
بأصوات ناصعة
وعيون تلمع
افتحوا أذرعكم
حرروها لتعانقوا الجميع
امنحوا الجميع عناقًا
يعيد دموع الطيبة للقلوب
وغنوا لهم: نحن أطفال هيروشيما»
الأشعار الواردة في الموضوع من ترجمة الكاتب عن الإنجليزية، عدا المُقتبَس من قصيدة «نُصب تذكاري»، فهي ترجمة لمجهول.