تَقيَّة يحيى سَند، إحدى المغنيات الشعبيات القديمات في صنعاء، منطقة وادي ظهر. شاركت هذه السيدة في إحياء العديد من الأفراح والمناسبات النسائية بالطبل لأكثر من 35 عامًا. ورثت هذه المهنة، وأحبتها، عن أمها وجدتها.
تقول تقية لـ«منشور»: «زمان كانت جدتي تغني، ومن بعدها أمي. كانت لكل قرية مغنية أو ما يسمى مزينة، وممنوع إحضار واحدة من خارج القرية، حتى الفنانين والنشادين. كانت لكل قرية عائلة مزاينة، وهذه العائلة هي من تتكفل بإحياء وتنظيم جميع الأعراس والمناسبات في القرية».
قيود اجتماعية و تمييز طبقي
المزاينة فئة اجتماعية كان لها وضع خاص في سلم النظام الاجتماعي اليمني التقليدي، إذ يَنظر لهم المجتمع بدونية، ومن المفترض أن هذا أُلغي رسميًا في النظام الجمهوري منذ 1962، بإقرار المساواة على أساس المواطنة. فبعد ثورة 1962، صدر مرسوم جمهوري بمنع تداول كلمة السيد، ومنع التمايز الطبقي والتعالي السلالي، لكن النظرة الدونية استمرت على مستوى الممارسة في الأرياف والمدن أحيانًا.
حافظ كثير من أفراد عائلات المزاينة على المهن الموروثة كمصدر للعيش، بينما اتجه بعضهم إلى المدن لتأسيس مسار حياة متحرر من الوضع الاجتماعي لعائلاتهم، فالتحقوا بالمدارس والجامعات، وحصلوا على وظائف في المؤسسات المدنية والعسكرية.
«منعني إخوتي من العزف على العود، قالوا إنه للرجال فقط».
تستعيد تقية تفاصيل وذكريات من مشوارها الطويل في ممارسة هذا اللون الفلكلوري من الغناء: «في الماضي، لم يكن هنالك MP3 ولا DJ ولا حتى مكبرات صوت، كنا نحارب كثيرًا من أجل الغناء، كنت أراه فنًا وشغفًا، لكن إخوتي كانوا ينزعجون بحكم طبيعة مجتمعنا المحافظ، خصوصًا بعدما ظهرت مكبرات الصوت وآلة العود. كانوا يقولون لنا: صوت المرأة عورة، غني فقط عند النساء ودون مكبر صوت. لو سمعنا صوتك في الشارع سنقتلك. كانوا يمنعونني من العزف على العود، يقولون إنه للرجال فقط».
تضيف تقية: «كانت الأعراس جميلة وبسيطة، نستلم خمسة آلاف (9 دولارات) طوال العرس، ونحيي الحفل بالطبل والصحن والملعقة، على أصوات الزغاريد التي ترتفع مع الزفة وسط تجمع الأهل والجيران والأصدقاء، وعلى رائحة العود والبخور وأغصان الشذاب التي توضع في مزهريات أمام العروسة خلال الزفة، فيبعث هذا في النفس مشاعر الفرح».
شهر كامل من الفرح
في الماضي، كان العرس الصنعاني تقليدًا مميزًا يتضمن برنامجًا طويلًا من الفقرات والمراسيم الاجتماعية الفرائحية، تمتد شهرًا كاملًا يبدأ بـ«الذبال»، وهو اليوم الذي تذهب فيه العروس إلى الحمام، وترافقها الصديقات والجارات، وتلبس فيه الملابس التراثية اليمنية القديمة رغبةً في إحيائها، وأحيانًا في بعض مناطق صنعاء تلبس العروس «القرقوش» اليمني، وهو غطاء رأس للفتاة اليمنية، ويعتبر من الأزياء التقليدية القديمة.
توضح تقية أنهن كن يستقبلن العروس حينما تصل من الحمام بزفة. وفي اليوم التالي، أو ما يسمى يوم «المشاجب»، كانت النسوة تزف العروس باللهجة الصنعانية منشدات:
«جيتْ أركِّز لش مشاجِبْ
جيتْ عاني معتني
والشذاب أخضر مُغيِّلْ
فوق رأسش يالقمرْ
سيِّروا مابين ثنتين
والقمارى يحجرين»
تمضي تقية في استعادة تلك اللحظات: «كنت أشعر بسعادة كبيرة عند زفاف عروس أو الاحتفال بوالدة (لقب يطلَق على المرأة في الفترة التالية لولادتها). لدينا الكثير من الزفات والكلمات الجميلة ذات المعاني القوية، التي تجعل العروس وأهلها يتأثرون بها في الزفة. ففي يوم النقش، الذي تنقش العروس بالخضاب وأحيانًا بالحناء، نزفها بهذه الكلمات:
مدِّي يدش لحناش
عادت أمش والبنات
وارجلش أرجل حمامي
يا شويق الناقشة
واحذرش قيلت وقالوا
واحذرش قيلت وقال
واحذرش طلعت جباهم (أي سطح بيتهم)
قطفي ريحانهم
ثم يبدأ حفل يوم العرس، اليوم الرسمي، وفيه نغني لوالد العروس وأخواتها وأمها وجميع أهلها:
عمرك يابه وبقاك
يحفظك طول الزمان
يحفظش يامه وخلاش
يحفظش يا نني العين
حجبي يامه عليا
واكثري لي في الحجاب
وعليش ألفين ياسين
وعليش ألفين حجاب
وعليش ألفين عزيمة
في شمالش واليمان
يحفظك ياخي عليا
ساع صنعاء لأهلها»
وفي العادة يكون الخميس هو اليوم الذي تُنقل العروس إلى زوجها في موكب الزفاف. وتشارك المزينة تقية في الوداع بكلمات حزينة تغنيها على لسان العروس:
«خاطرش يامه وسامحيني
شاسير بلاد لاراش ولا تريني
خاطرش يا ديمة أمي
عتتمني دخلتي
خاطرش يا تنورة أمي
عتتمني خبزتي
ما بعد يوم الزفاف»
بعد يوم العرس، هناك مناسبة تسمى «الثالث»، وهي حفلة في بيت العريس وعند عائلته، ومن ضمن فقراتها زفة للعروس أيضًا. وفي يوم لاحق تأتي «الشكمة»، وهي حفل في بيت أهل العروس تنظمه والدتها، إذ لا يُسمح للعروس بالخروج من منزل زوجها لممارسة الأعمال المعتادة للنساء إلا بعد الشكمة.
وفي اليوم السابع، يكون الحفل الذي يحضر فيه كل أهل العروس إلى بيت زوجها. تقول تقية: «نحن كمزينات كنا نستمر في حضور جميع هذه الحفلات وإحيائها بالزفة والأغاني إلى أن ينتهي العرس تمامًا. أما في الوقت الحالي، وبسبب أوضاع اليمن، لم تعد فعاليات العرس تمتد شهرًا كاملًا مثلما كانت في السابق، بالكاد يستطيع الناس عمل أسبوع».
فرضت الحرب كثيرًا من المعاناة على عموم اليمنيين، لكنهم رغم ذلك لم يتخلوا عن طقوسهم المتوارَثة، وبخاصة ما يتعلق بإحياء أعراسهم. لم تستطع الحرب إخفات أصوات الأفراح، وإن تراجعت بعض مظاهرها وتطور بعضها. وبالرغم من محاولات كثير من عائلات العريس والعروس فرض نوع من التقشف على النفقات بسبب أوضاع الحرب والبطالة وانقطاع الرواتب، فإن أغلب الناس لم يتنازلون عن أجواء الأعراس اليمنية. لا تستطيع أي عروس أن تشعر أنها عروس دون أن ترتدي زي العُرس التقليدي، وأن تحيط بها أصوات الأغاني المصحوبة بالرقص الشعبي والزفة والأهازيج.
لكن اختفت مآدب الأعراس العظيمة كما في السابق، وتغيرت فقرات الزفة، فمثلًا لم تعد العروس تذهب إلى حمام البخار وتُزف وتُستقبل إلى مائدة الغداء، بل تذهب حاليًا دون عزومة الغداء.
بعض اليمنيين يتعاملون مع الأعراس كمناسبات لالتقاط الأنفاس وصناعة البهجة ونسيان الهموم.
في فترة من فترات الحرب، تزايدت عمليات استهداف الطيران للمدنيين ومقرات إقامة حفلات الزفاف، وخيم الرعب والخوف على المواطنين، وعزف كثير من الشباب عن تنظيم حفلات زفافهم في مقرات الأفراح، وصاروا بدلًا منها يحيون أفراحهم في حفلات أعراس بسيطة في المنازل بحضور الأقارب الأصدقاء.
بعض المواطنين اليمنيين، ونظرًا لارتفاع تكاليف الزواج بسبب وضع البلاد المتدهور اقتصاديًا وأمنيًا وانعدام الأمن والوظائف، يلجؤون لتنظيم حفلات زواج جماعية لتخفيف التكاليف، وآخرون يؤجلون الاحتفال على أمل أن ينصلح حال البلاد وتتوقف الحرب.
هناك فئة من الناس زاد تفاعلها الاجتماعي مع الأعراس خلال الحرب، فأصبحوا يتعاملوا مع الأعراس كمناسبات لالتقاط أنفاسهم وصناعة بهجتهم ونسيان همومهم، من منطلق أن الإنسان يعيش لحظات عرسه الجميلة مرة واحدة، لهذا يصرون على إحياء العُرس مهما كانت الظروف.
بل إن بعضهم يبالغ في الإنفاق على هذه المناسبات ويستحدث طقوسًا جديدة، مثل حفل يوم الدروع (اللباس التقليدي للمرأة العدنية، وهو قماش شيفون يُخاط من الجانبين فقط بحيث يكون واسعًا جدًا، ويتميز بالزخارف والنقوش والخطوط الحريرية والتطريز)، بالإضافة إلى حفل توديع العزوبية، وحفل باللبس الحبشي، واللبس الهندي، إلخ. يخوضون مغامرة مكلفة، يخرجون منها مثقلين بالديون الكبيرة، فكل شيء أصبح سعره خياليًا مقارنةً بالأسعار قبل الحرب. مثلًا، صار إيجار صالة العرس 600 دولار أمريكي، في حين كان سعره قبل الحرب لا يتجاوز مئتي دولار.
الفن التقليدي الشعبي يكاد يختفي
بحسب السيدة تقية، فكل جيل له ذوقه الفني الذي يتغير بتطور التكنولوجيا وتغير أحوال الناس: «حاليًا، انتشرت الفرق الموسيقية بالدي جي مع مكبرات الصوت، وصار الناس يشغلون في الأعراس أغانٍ أجنبية وعربية، وتناقص حضور الأغاني الشعبية والتراثية اليمنية».
«لم نعد نحضر أعراسًا كما السابق، بالرغم من أن الدي جي مزعج ويكسر الرأس، وليس لكلمات أغانيه أي معنى خاص، بعكس أغاني الزفة الشعبية التي كانت الأكثر حضورًا وتداولًا في السابق، نظرًا لمعانيها المعبرة عن روح المجتمع، في زفة النقش والحناء وزفة خروج العروسة وزفة المشاجب والشكمة والثالث وغيرها».
أكثر ما تتمناه تقية هو الحفاظ على التراث اليمني من الأغاني الشعبية، خصوصًا تلك المرتبط أداؤها بالأصوات النسائية التي ضاع جزء كبير منها: «طُويت أصوات نسائية كثيرة، منهن الفنانة نباتة أحمد، التي تعتبر أول امرأة يمنية تعزف آلة العود بعد قيام الثورة (عام 1962)، وأسهمت في صناعة الألحان والكلمات اليمنية، وأضافت إضافة كبيرة للتراث اليمني النسائي. هناك كذلك الفنانة تقية الطويلية، وهي من أبرز الأصوات الرائدة في الغناء الشعبي اليمني، وكان لها دور كبير في إحياء الأغنية التراثية، رغم الضغوط الأسرية الكبيرة التي تعرضت لها ودفعتها إلى الاعتزال مبكرًا».
استمرت تقية في استحضار قائمة من أسماء رائدات الأغنية الشعبية اليمنية، بعضهن نعرفه لأول مرة. ومن الفنانات المعروفات ذكرت «الفنانة الشعبية الكبيرة منى علي، رحمة الله عليها، كانت تطرب القلوب بأغاني الزفة التي إلى اليوم نستمع لها بكل حنين. وهناك فنانات شعبيات أخريات منهن أمينة حزام، وصباح منصر، وفايزة عبد الله، ونجاح أحمد، ورجاء باسودان، وفتحية الصغيرة، ونجيبة عبد الله، وجميلة سعد، وغيرهن من ذوات الصوت الجميل اللاتي يعزفن أيضًا على العود، ولم يستطع بعضهن الظهور على الساحة الفنية وظللن يمارسن الفن في بيوتهن».
تجربة تقية المزينة غنية بالتفاصيل والتشويق، وحديثها يدلنا إلى تقليد فني شعبي مميز، لكنه يكاد يختفي أمام اكتساح الأشكال الفنية والفرائحية الجديدة، التي تفقد بمرور الوقت نكهتها المحلية لصالح التأثيرات الوافدة من بيئات اجتماعية وبلدان مختلفة، وتأثرها بظروف البلاد.