لم تكن حلقات مسلسل «سما عالية» سردًا لقصة عائلة كويتية تنتمي للطبقة المتوسطة العليا، عبر عقود زمنية امتدت منذ الستينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة، على الرغم من أنها قصتهم بالفعل، بل كانت تأريخًا لعقود عاشها المجتمع الكويتي. فقصة شيخة التي أدت دورها شيماء سليمان مصممة على مراحل تشبه الشفرة التي تتفكك ببطء، ويُسرد من خلالها قصة تحولات هذا المجتمع.
تظهر الكويت في أولى مشاهد هذا المسلسل عبر مقطع وثائقي، تبدأ الحكاية منه، في يوم 25 يونيو 1969، إذ أن المسلسل يمزج مع مشاهده الفنية مقاطع تسجيلية تُظهر المدينة والحياة فيها. نشاهد مع مرور الزمن لحظات مفصلية في التاريخ الكويتي، مثل احتلال مركز الصامتة عام 1973، والمجتمع الذي يضع المرأة في أدوار تقليدية لا تتضمن الحصول على التعليم أو العمل، ونضال المثقف الثوري في الدور الذي لعبه حمد العماني بشخصية راشد، المغترب للدراسة في مصر، والذي يقدم أطروحته لنيل درجة الماجستير حول «أسباب فشل الوحدة العربية بين مصر وسوريا».
يدور هذا المسلسل عن الماضي في أجواء ممتزجة بالحنين، تجربة مشاهدته هي التفاتة شافية للوراء، باعتباره مرآة للحاضر.
قوبل المسلسل بانتباه موجه نحو الموضوعات المهمة التي يناقشها، والتي دفعت الشركة المنتجة إلى حذف عدد من المشاهد بعد تصويرها، وذلك «لأسباب سياسية تخص مؤسسة دبي للإعلام، بعد توقيع دولة الإمارات معاهدة السلام»، كما تقول شيخة بن عامر إحدى كتاب السيناريو لـ«منشور». أسهم هذا الحذف، بحسب صالح النبهان الكاتب المشارك أيضًا، في «تغييب الحقائق التاريخية للصراع العربي مع الكيان الصهيوني، فضلًا عن أنه أخل بالسياق الدرامي لبعض الأحداث». وأصدر الكاتبان بيانًا أعلنا فيه براءتهما من أي قصدية تمت بسبب الحذف الانتقائي الذي نفذته المؤسسة المنتجة.
الكويت جزء من العالم
يظهر الآخر في هذا المسلسل جزءًا من نسيج المجتمع الكويتي وملتحمًا معه، لا عبر سفر راشد وشيخة للدراسة في مصر وعقدهم للصداقات هناك فحسب، بل في مدى تأثر هذا المجتمع بما يحصل في العالم، وانعكاسات الأحداث في المنطقة على الكويت. فالمشاهد توثق لحظة تسمُّر الكويتيين أمام شاشات التلفزيون لحظة رحيل جمال عبد الناصر 1970، والحرب الأهلية اللبنانية، وتوقيع أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد، والحرب العراقية الإيرانية، لكن ذروة هذا التلاحم تظهر عبر شخصية سميحة (أدت دورها مي عبد الله)، المدرسة المصرية القادمة للكويت، والتي سرعان ما تصبح فردًا من العائلة الكويتية.
يُظهر المسلسل تمثيلات للحضور العربي داخل المجتمع الكويتي في الوظائف الاجتماعية المختلفة. ويشير الدكتور شفيق الغبرا في كتابه «النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت» إلى أن عدد أفراد الجالية الفلسطينية حتى عام 1990 بلغ نحو 380 ألفًا، من أصل 1.7 مليون نسمة هو مجموع السكان الكويتيين وغير الكويتيين، وهي ثالث أكبر جالية في الشتات الفلسطيني.
يعي كُتاب «سما عالية» حساسية هذا الموضوع، وأهمية تقديمه بصورة لا تسهم في زيادة الاحتقان الشعبي.
وفي دراسة أجراها الدكتور عماد عبد المسيح شحاتة حول الآثار الاقتصادية للهجرة الخارجية للعمالة المصرية، يوضح أن هجرة العمالة المصرية لسوق العمل الخليجي تركزت بصفة رئيسية في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك خلال الثورة النفطية التي شهدتها المنطقة منذ السبعينيات. لا يدفع المسلسل حضور هذا المكون المهم في المجتمع كهامش يعيش على الحضور المركزي للمواطن وقصصه، لأننا سنتعرف إلى هموم هذه الجالية، وتطلعاتها، وما تواجهه من تحديات داخل الكويت، وفي بلدها القادمة منه.
يظهر التغيير على هذه العلاقة عبر تشكل نوع من الارتياب من الآخر بعد الغزو العراقي للكويت 1990، وتأتي هذه السردية لتطل علينا في هذا الوقت الذي يعلو فيه صوت الإقصاء بحق الوافدين، والمصريين خصوصًا. ينجح صناع العمل في تقديم هذا الإرباك عبر مشهد وحيد، يظهر فيه الابن العائد للتو من بعثته الدراسية في أمريكا بعد تحرير الكويت للعمل في شركة والده، والذي يقدمه إلى ساعده الأيمن في المؤسسة، وهو موظف لبناني حضر منذ بدايات تأسيس الشركة وتوسعها. في تلك اللحظة يبدو الامتعاض واضحًا على الابن، وهذه من التلميحات القليلة التي نرصدها في المسلسل.
وفي هذا الصدد نشير إلى دراسة لدكتور علم الاجتماع في جامعة الكويت خالد الشلال حول تأثير العدوان العراقي في العلاقات الاجتماعية بين المواطنين الكويتيين والوافدين العرب في المجتمع الكويتي، والتي نشرت عام 2005، وتتناول مدى جدية تحقق هذا الشكل من الارتياب، بعد أن تمهد نظريًا للاستقرار الاجتماعي الذي يتحدد وفقًا لطبيعة العلاقات الاجتماعية بين المواطنين والأجانب داخل المجتمع.
عندما حدث الاجتياح العراقي للكويت عام 1990، غادر معظم الوافدين، وكان بعض الفلسطينيين والأردنيين مؤيدًا للنظام العراقي، واشترك بعضهم مباشرة مع القوات العراقية في الأعمال العسكرية أو الاستخبارات. وعندما عادت الحكومة الشرعية، ألغت إقامات جميع الوافدين، ووضعت إجراءات تنظيمية جديدة للعمالة الوافدة.
أجرى الشلال دراسته هذه على عينة عشوائية من 500 فرد من الوافدين العرب الذين عاشوا في الكويت قبل الثاني من أغسطس عام 1990 لمدة خمس سنوات على الأقل. وتضم العينة أفرادًا من الجاليات العربية ذات الثقل العددي الملحوظ في المجتمع الكويتي، يعملون في جهات حكومية وخاصة. ومن نتائج الدراسة أن مقياس الألفة مقابل العدائية لم يكن له سوى تأثير محدود على العلاقة بين المواطنين والوافدين، لكنها ليست النتيجة نفسها عندما يتعلق الأمر بمقياس القبول مقابل الرفض، إذ أن مجال القبول تأثر سلبًا بالعدوان العراقي.
يعي كُتاب «سما عالية» حساسية هذا الموضوع، وأهمية تقديمه بصورة لا تسهم في زيادة الاحتقان الشعبي، بينما تُظهر في الوقت نفسه النبذ الذي تعرضت له الشخصيتان المصريتان في المسلسل، سميحة وزوجها، عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد في المدرسة وحتى عبر ملاحقتهم في البيت. إلا أن صفًا من الكويتيين سيهون هذه الظروف عليهما، وسرعان ما تعود العلاقة لطبيعتها بعد مرور الوقت. وهذا مؤشر آخر مهم حول تذبذب العلاقة بين المجتمع الكويتي والوافدين في تاريخ الكويت ومواجهته، إذ يقدم المسلسل مشهدًا بليغًا يعي إحساس صُناعه بمسؤولية الموقف، ويظهر فيه العامل العراقي لدى عائلة المريش، والمقرب جدًا من الأب، في ليلة عزائه وهو يناقش مسؤولًا من جيش الاحتلال العراقي في حق العائلة في إقامة العزاء.
هل هذا يعني أن هنالك عوامل خاصة تسببت في هذا الصدع الذي نعيشه اليوم في العلاقة بين الكويتيين والوافدين، والتي ظهرت على مستوى البرلمان الشعبي والمؤسسات الحكومية والتفاعل الشعبي الإيجابي تجاه هذا الخطاب؟
يقول مبارك الحمداني الباحث في علم الاجتماع لـ«منشور»: «لتقديم إجابة جذرية حول بروز موجات من العنصرية في المجتمعات الخليجية، علينا أن نسائل عوامل التأثير في البنية الثقافية لمجتمعات الخليج. في الواقع، كان عامل الرفاه وسياساته واتجاه غالبية الطبقات الاجتماعية في الخليج نحو تحقيق الوفرة المادية هو العامل الأكثر تأثيرًا في البناء الثقافي لمجتمعات الخليج. لم يلعب التعليم والإعلام ومؤسسات التثقيف العام دورًا محوريًا في تغيير أنماط التفكير والتصورات ومنطلقات النظر إلى القضايا العامة والقضايا المجتمعية. ومع المهددات الراهنة التي تعيشها مجتمعات الخليج عمومًا في وضع سياسات الرفاه وتضاؤل نموذج الدولة الراعية، ينصرف الأفراد إلى الأطر الجذرية في التفكير والتعامل مع الآخر».
ويضيف: «هذا الحديث يمكن مقاربته بنظرية التكوين العرقي، التي ترى أنه لا يمكن فصل بروز العنصرية عن إطار التحولات التاريخية الاقتصادية والسياسية، وأنها بناء اجتماعي محض. لقد أنتج تضاؤل نموذج دولة الرفاه الاجتماعي في ظل المهددات الاقتصادية التي تعترضها في الخليج ما يعرف بحالة التحيز الضمني، التي يعتقد فيها الأفراد المواطنون أنهم أحق (سياسيًا واجتماعيًا وتاريخيًا) بالانتفاع بالحقوق والموارد ومحققات الرفاه العام والخدمات، دون أن يزاحمهم عليها الآخر أو ينافسهم في الوصول إليها».
البوشية، بالمدرسة : نضال النساء
نشر الكاتب عبد العزيز الجرداوي عام 1986 دراسة حول اتجاهات المرأة العاملة الكويتية والخليجية، وأفرد فيها فصلًا عن تعليم النساء في الكويت. تشير الدراسة إلى أن نسبة الأمية بين النساء وصلت عام 1980 إلى 49.5%، بينما هي عند الرجال 22.7%. لا يتجاهل «سما عالية» هذا الواقع، بل يؤسس من خلاله رحلة المرأة الكويتية قبل أن يصبح التعليم حقًا بديهيًا مع «شيخة» الجيل الأول، مرورًا بجيل «عالية» الابنة التي اختلفت همومها وتحدياتها، ليصبح النضال ضد الوصاية على النساء في مناحي الحياة المختلفة قضية تتبناها وتسعى للدفاع عنها.
ينتبه المسلسل لقصص النساء غير العاملات، والقمع المستمر الذي أدى لواقع تنهب فيه حرية المرأة وتُسلم هي بحتمية وطبيعية هذه الحالة التي تجد نفسها فيها. المرأة التي ترى أن دورها يقتصر على الإنجاب وخدمة الزوج، والتي تصبح مستعدة مع تحولات المجتمع الاقتصادية لأن تصبح فردًا مستهلكًا ليس إلا، أو ناقمًا على النساء اللواتي حظين بواقع آخر. يعرض لنا المسلسل النبذ والعنف الذي تتعرض له هذه المرأة، والواقع الذي يتعين فيه على الزوج أن يعيش نجاحاته من خلال تضحيات الزوجة، كاشفًا عن التوتر الكامن لدى النساء إزاء الإقصاء الذكوري. وإن لم يخلُ المسلسل من إسقاطات تنميطية في حق النساء، عبر إظهارها في صورة الشخص الصبور، القادر على التضحية، «العاجل» كما يقال في مشاهد منه.
ومن القضايا التي يثيرها «سما عالية» قضية البوشية، ولعل قصة عودة شيخة من مصر وقرارها التخلي عن بوشيتها يذكرنا بالإعلامية فاطمة حسين التي ارتبط اسمها بحادث حرق البوشية في الخمسينيات وعودتها من مصر وتخليها عنها. وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها الدراما الكويتية موضوع حرق البوشية. ومع تقدم الوقت لن تكون شيخة وحيدة في قرارها هذا، ففي أحد المشاهد الجريئة في المسلسل يُلقى بالعباية في عرض البحر وتعود صاحبتها إلى البيت دونها.
التوثيق والفن
لا يستطيع العمل الفني الاعتماد على التوثيق التاريخي وحده، فهنالك عوامل أخرى لا تقل أهمية في صناعة العمل. وما نلاحظه منذ الحلقات الأولى من «سما عالية» هو الاعتماد على الحوارات المكشوفة التي تتخذ من الوعظ لغة لها، وليس الإيماءات والتلميحات. يبدأ هذا مع الشريط الذي يظهر بمرور الحلقات حول السنة التي تقع فيها هذه الأحداث، مرورًا بالمحاضرات الشفهية التي ترتجلها شخصيات العمل، وخصوصًا راشد المثقف، حول التعددية والديمقراطية وغيرها.
تعاني الدراما الخليجية من الرقابة، لا رقابة المؤسسات وحدها، بل رقابة المجتمع أيضًا.
يقول النبهان أحد مؤلفي المسلسل: «راهنا على عدة أمور من أهمها إيماننا بذكاء المتلقي الذي بات منفتحًا على أفكار وثقافات عديدة، وبالتالي يجب أن تقدم له وجبة تلائم وتشكل ذائقته الجديدة وأفقه المعرفي المتسع». لكن مع متابعة المسلسل، نشعر أنه يشكك في قدرة المتلقي على التقاطع مع القيم الكبيرة التي يناقشها، مما يضطر الشخصيات إلى الإفصاح عما تفكر فيه، إما في مونولوجات طويلة، أو في حوارات تعليمية. لكن لا شك أن إثارة هذه الموضوعات في الإنتاج الدرامي الخليجي يعد ثوريًا، مثله مثل الالتفات إلى قضايا النساء والمقيمين.
أصبحت صناعة الدراما في الخليج العربي الآن ترتبط بأسماء النجوم على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من القصة، وذلك لضمان تداول مقاطع من المسلسل أو رواجه بين جماهير هؤلاء النجوم، كما يقع جزء من المسؤولية على الفنان، فهل الفنان الخليجي مثقف؟ هل يستطيع أن يحكم على جودة القصة التي يقدمها وأهمية الالتزام بالحد الأدنى من معايير بناء الدراما؟ هل يهمه أن تكون الشخصيات مركبة والقصة ذات معنى ومكتوبة لتقدم عبر التلفزيون؟ هل يهمه استثمار الصورة أكثر من أي شيء آخر في الإبلاغ؟ هذا موضوع جدير بالبحث.
كما أن الدراما الخليجية تعاني من الرقابة، لا رقابة المؤسسات وحدها، بل رقابة المجتمع أيضًا، وهذا هو رأي صناع الدراما.
من المشكلات الفنية التي وقع فيها المسلسل الاعتماد على «الغرافيكس» في تصوير المشاهد خارج الكويت، مثل الأحداث التي دارت في لندن. ويبرر المخرج محمد دحام الشمري ذلك عبر برنامج «سراي» بأن الإجراءات المتعلقة بكورونا حالَت دون القدرة على السفر وتصوير هذه المشاهد، في حين لم يكن من الممكن الاستغناء عنها.
أعتقد أن المشاهد التي خضعت لهذا المونتاج كان يمكن التخلي عنها، إما عبر تلميحات أو حوارات في أماكن داخلية. فالفن هو ملتقى الإيماءات التي توحي بالحقيقة التي نود أن نقدمها، وإلا ما شاهدنا أفلامًا عظيمة صُورت في مكان واحد، مثل أفلام الغرفة الواحدة.
يقدم المسلسل قصصًا رائعة، الحب والحزن والبهجة، تتألف في دراما مؤثرة، تحتوي على الكثير من المشاهد المقلقة التي تتطلع إليها مع مرور الحلقات، أبرزها علاقة الحب التي جمعت سميرة المحامية الكويتية ومحفوظ المحامي اليمني، الذي كان يعمل كـ«صِبي» لدى جيران عائلة سميرة. هذه القصة بالذات أعطت المسلسل دفقة عاطفية هائلة لا تنسى.