في الثاني والعشرين من نوفمبر 2017 انطفأت شمعة الفنان العماني سالم بن علي عن عمر ناهز 58 عامًا، بعد رحلة عطاء فني طويلة استمرت أكثر من 40 عامًا، وأهلته لأن يكون «سفير الأغنية العمانية»، وهو لقب استحقه بجدارة، ليس فقط لانتشاره عربيًا، وكونه أحد المطربين العمانيين القلائل الذين يحظون بجمهور خارج عمان، ولكن أيضًا لأنه كان أحد الملحنين البارزين في عمان، إذ لحن لنفسه النسبة الكبرى من أغانيه، كما قدم لغيره ألحانًا أخرى، وتميزت هذه الألحان بالتنوع والثراء، وتوظيفها للتراث العماني. كان سالم بن علي أيضًا أول فنان عربي يصور أغانيه بطريقة الفيديو كليب، حتى قبل أن تصبح هذه الطريقة في تصوير الأغاني موضة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
في هذه المساحة نقترب من مطرب عمان الأول لنقف على أهم المحطات الفنية في حياته، ونحاول أن نقرأ سيرته الفنية: فيم نجح، وفيم أخفق؟ ما الأسباب التي جعلت الثمانينيات هي العقد الذهبي لهذا الفنان؟ ولماذا انفضت الشراكة الناجحة بين أهم مطرب عماني وشركة الإنتاج العمانية الأولى؟ وما حكاية مرضه وأغنيته الأخيرة؟
بين البندقية والعود
ولد سالم بن علي في صلالة عام 1959، وفي الستينيات التحق وأسرته بوالده علي بن سعيد الكثيري الذي كان يعمل في دبي، ومن هناك التحق سالم بمدرسة قوة ساحل عمان في مدينة الشارقة المجاورة.
عادت الأسرة مجددًا إلى صلالة عام 1970 مع تولي السلطان قابوس الحكم. وفي 1971 التحق سالم بن علي بالخدمة العسكرية جنديًا في فرقة صلاح الدين التابعة للحكومة التي مقرها أحد جبال ظفار، في فترة كانت فيها هذه المدينة تشهد معارك شديدة بين جيش السلطان والجبهة الشعبية لتحرير عمان، التي كانت قد بدأت حربًا في ظفار لإسقاط حكم السلطان سعيد بن تيمور عام 1965، واستمرت في عهد نجله السلطان قابوس.
كان عمر هذا الجندي الشاب (هل نقول الطفل؟) لا يتجاوز آنذاك الاثني عشر ربيعًا، لذا نفهم لماذا «تعرض للعديد من المواقف التي كادت تودي بحياته»، كما يروي الباحث الموسيقي مسلم بن أحمد الكثيري الذي استقينا هذه المعلومة من كتابه المهم «من الغناء العماني المعاصر»، والذي صدر عن مسعى عام 2018، وأكد فيه أن الجندي الشاب «استمر في الخدمة العسكرية عدة سنوات، ثم التحق بدورة في سلاح الإشارة في مسقط، ومع تطور الأحداث العسكرية في جبال ظفار وتوسع سلطة الدولة، انتقل إلى فرقة عسكرية أخرى تسمى فرقة عمر بن الخطاب».
ولأن المحارِب يأخذ أحيانًا استراحة من القتال، فمن الطبيعي أن نعرف أن سالم بن علي كان يستغل أوقات فراغه تلك في الغناء والتلحين، وأن يكون في مقدمة أغانيه الأغاني الوطنية الاستنهاضية الحماسية التي تمجد بطولة زملائه الجنود في حربهم الشرسة ضد الثوار.
خليك معي يا أخي
إذا كان جورج أورويل قد هجا في روايته الشهيرة «1984» الأخ الأكبر وتسلطه وكونه دومًا كابوسًا لإخوته الصغار، فإن الوضع لدى سالم بن علي اختلف تمامًا. فقد لعب أخوه الأكبر سعيد دورًا كبيرًا في تشجيعه ورعاية موهبته، التي آمن بها منذ تبرعمها الأول وحتى صارت شجرة كبيرة ذات ثمار يانعة.
كان سعيد هذا يهوى أيضًا الغناء والتلحين، وله أغنياته الخاصة التي ما زالت إذاعة سلطنة عمان تحتفظ بها، وقد لحن لأخيه في بداياته عددًا من الأغاني الناجحة، لكن صعود الأخ الأصغر سالم شيئًا فشيئًا سلالم النجاح سيحجب الأضواء عن سعيد، الذي سيكتفي بالفرح والابتهاج لنجاحات أخيه، وليشكلا معًا النسخة العمانية من حكاية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وشقيقه المطرب الموهوب إسماعيل شبانة، الذي لم يعد يذكره أحد اليوم هو الآخر لطغيان شهرة أخيه.
كان الظهور الإعلامي الأول لسالم بن علي في الإذاعة العمانية سنة 1974، إذ سجل بمناسبة العيد الوطني الرابع (الذكرى الرابعة لتولي السلطان قابوس الحكم) أغنيتين؛ إحداهما وطنية بعنوان «خليك معي يا أخي»، وهي حماسية تتغنى بشجاعة المقاتلين في ظفار، في فترة كانت قوات السلطان تحقق فيها نجاحات كبيرة في حربها ضد «الجبهة الشعبية لتحرير عمان»، وحيث لا صوتَ فنيًا في عمان يعلو في ذلك الوقت على صوت المعركة، إذا جاز لنا أن نستعير عبارة عبد الناصر الشهيرة.
أما الأغنية الثانية فعاطفية عنوانها «فكر بذا النسيان»، يشكو فيها الصبي الذي بالكاد بلغ الحلم، إذ لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره بعد، من لوعة فراق محبوبته، وتكبده عناء التفكير فيها في الليالي المقمرة، ومحاولاته الفاشلة لنسيانها، أو كما عبرت الأغنية.
بعد ذلك بعام، أي عام 1975، كان سالم بن علي على موعد مع أولى حفلاته العامة التي يصفها مؤلف «من الغناء العماني المعاصر» بـ«المهمة»، وهي حفلة أقيمت في مدينة صلالة بمناسبة العيد الوطني الخامس، وقدم فيها أغنية من ألحان الملحن والمطرب المخضرم مسلم علي عبد الكريم حملت عنوان «أمة الخير». لكن سالم بن علي يؤكد في كل حواراته (سواء مع الكثيري في كتابه المشار إليه، أو في حواره مع قناة روتانا عام 2017)، أن بدايته الحقيقية كانت عام 1976 حين سجل للتلفزيون العماني ست أغانٍ، من بينها الأغنية التي نجحت كثيرًا وكانت جواز مروره للجمهور العماني «طابت ليالينا»، وهي من ألحانه وكلمات الشاعر سالم الحبشي.
من صلالة إلى مسقط
عام 1979، قدم سالم بن علي في صلالة حفلة فنية بمناسبة العيد الوطني التاسع، اعتبرها منعطفًا فنيًا مهمًا له، فقد قدم فيها أغنيتين من ألحانه لاقتا نجاحًا كبيرًا، الأولى عاطفية بعنوان «حياتي يا روحي»، أما الثانية فوطنية بعنوان «يا موكب الفجر»، وهذه الأخيرة يعتبرها الباحث الموسيقي مسلم الكثيري من الألحان المؤسِسة للأغنية الوطنية العمانية الحديثة، إذ وظف سالم بن علي فيها إيقاع المارش العسكري الذي لم يكن معروفًا في الغناء المحلي. ويلفت الكثيري إلى أن ذلك التوظيف كان من تأثير الموسيقيين العرب الذين كانوا يشاركون في احتفالات عمان بالعيد الوطني.
بيد أن هذه الحفلة لم تشكل ذلك المنعطف الذي تحدثنا عنه بسبب نجاح الأغنيتين فقط، وإنما لما حدث بعدها. يروي سالم بن علي لقناة روتانا أن هذا النجاح أشعل غيرة بعض الحساد، فحاولوا الإيقاع بينه وبين مدير الإذاعة العمانية في صلالة حماد الغافري، بأن أبلغوه (أي سالم بن علي) بأن الغافري غاضب على الفنان الشاب.
أدرك سالم أنه ليس من الحصافة لمطرب في بدايات الطريق ترك مسؤول إعلامي مهم غاضبًا عليه دون معرفة السبب ومحاولة إزالته، فحمل نفسه إلى مبنى الإذاعة في صلالة وطلب مقابلة المسؤول، الذي أكد له أن تلك لم تكن سوى وشاية مغرضة.
ولكي يثبت الغافري للفنان الشاب كذب تلك الوشاية أجرى اتصالًا في مسقط بالشاعر عبد الله صخر العامري، الذي كان مسؤولا كبيرًا في وزارة الإعلام العمانية حينها (علاوة على كونه شاعرًا غنائيًا ومن أهم داعمي الفن والفنانين في عمان)، وأخبره أن لديه في صلالة مطربًا شابًا موهوبًا، «فإذا جاءك إلى مسقط فاستقبله بما يستحق من عناية ورعاية واهتمام».
لم يُضِع سالم بن علي الوقت وتوجه إلى مسقط والتقى العامري، الذي رحب به واستمع إلى صوته فأعجب به. ومن فوره كتب العامري رسالة إلى ديوان البلاط السلطاني يستأذنه أن تعزف الفرقة الشرقية الخاصة (التابعة للسلطان) بعض أغاني سالم بن علي، فجاءت الموافقة، وبدأت مرحلة جديدة في حياة الفنان الشاب، إذ لم تكتفِ الفرقة بعزف أغانٍ ناجحة سابقًا لسالم بن علي، بل عزفت أيضًا، بدءًا من عام 1980، ثلاث أغنيات جديدة من تأليف عبد الله صخر العامري، ولحنها سالم بنفسه، وتعد حتى اليوم من أشهر وأنجح أغانيه، وهي «بو العيون الكحيلة» و«كم ليل قد عشناه سوا» و«عتاب الزمن»، وهذه الأغنية الأخيرة غنتها أيضًا الفنانة اللبنانية هيام يونس.
العمري الشاعر، والبوسعيدي الملحن
إذا كان للشاعر عبد الله بن صخر العامري دور في تثبيت أقدام الموهبة الواعدة على طريق الفن في مطلع الثمانينيات، فإن اسمين عمانيَين آخرَين سيلعبان – في عقد الثمانينيات نفسه - دورًا كبيرًا في تكريس نجومية سالم بن علي مطربًا أول في عمان، وسفيرًا للأغنية العمانية (كما لُقب بعد ذلك)، وهما الشاعر عوض بن بخيت العمري والملحن خالد بن حمد البوسعيدي.
نستطيع تسمية عقد الثمانينيات من القرن الماضي بالعقد الذهبي للفنان سالم بن علي.
من ضمن الـ218 أغنية لسالم بن علي التي أحصاها الباحث مسلم الكثيري في كتابه من الغناء العماني المعاصر، ثمة 32 أغنية من تأليف الشاعر عوض بن بخيت العمري، الذي كان يصغر الفنان سالم بثلاث سنوات، والذي كان ثاني أكثر شاعر كتب أغاني لسالم بن علي بعد علي عبد الله الصومالي (هذا الأخير ألف 43 أغنية، حسب إحصائية الكثيري أيضًا).
ورغم نجاح عدد غير قليل من أغنيات عوض بخيت، فإن أهميته في حياة سالم بن علي لم تقتصر على تأليف الأغاني فقط، فقد كان هذا الشاعر الذي هو أحد أقرباء السلطان قابوس (ابن خالته) ذا نفوذ واسع وعلاقات اجتماعية وثقافية وفنية متشعبة، سخرها كلها مع الدعم المادي السخي للفنان المحبوب، وظل حتى وفاته المفاجئة عام 1990 من أكبر الداعمين لسالم بن علي، سواء بالدعم المعنوي الذي ظل سالم يتذكره طوال حياته، أو الدعم المادي الذي تمثل في تمويل تسجيل أغانيه في استوديوهات القاهرة ولندن، أو بتمويل بعض كاسيتاته كما هو الحال في شريط «لا تبكي» الصادر عام 1990 في نفس سنة رحيل العمري، والذي كانت كل أغانيه من كلمات الشاعر الراحل.
قبل وفاة العمري بثماني سنوات، أي عام 1982، وبينما كان سالم بن علي يسجل معه في لندن بعض أغانيهما المشتركة، تعرف هناك بواسطة الشاعر إلى الملحن خالد بن حمد، الذي سيكون له هو الآخر بدءًا من ذلك التاريخ دور كبير في حياة الفنان.
خالد بن حمد هو مؤسس شركة سابكو للفنون سنة 1983، بمشاركة أخيه السيد بدر بن حمد البوسعيدي (وزير خارجية عمان حاليًا)، والتي نستطيع أن نقول إنها هي التي انطلقت بسالم بن علي من فنان محلي محبوب إلى فنان عربي معروف يفخر في أكثر من مقابلة صحفية بأنه أول فنان عربي يصوِر أغانيه بطريقة الفيديو كليب، التي ستصبح بعد ذلك موضة الثمانينيات والتسعينيات، كما قلنا في مقدمة هذا المقال. وما كان هذا ليحدث لولا الإمكانات المادية والفنية الهائلة لسابكو، التي أتاحت له أيضًا بالإمكانات نفسها أن يغني عام 1983 في واحدة من أهم القاعات في العالم، ألا وهي قاعة ألبرت هول.
بعبارة أخرى، نستطيع تسمية عقد الثمانينيات من القرن الماضي بالعقد الذهبي للفنان سالم بن علي ولسابكو معًا، لأن كلًا منهما عرف قدر الآخر وإمكانياته الفنية فتشبث به؛ سابكو مارست ما يشبه الاحتكار على الفنان واعتبرته مطربها الأول، في حين لم يخيب سالم بن علي رهانات الشركة الفنية عليه فانتقل بها من نجاح إلى آخر، وأنتجا خلال الأعوام الستة من 1984 حتى 1990 خمسة كاسيتات ناجحة تعتبر اليوم من أهم ما تركه سالم بن علي من إرث فني، هي على التوالي «عش سعيد» 1984، و«مسافر» 1986، و«لك يوم» 1987، و«عشرة عمر» 1989، و«كل ما في الأمر ليلة» 1990، ناهيك بالتوأمة الفنية التي حدثت بسبب سابكو بين حنجرة سالم بن علي وعود خالد بن حمد، الذي لحن له عددًا من أجمل أغانيه العاطفية والوطنية، منها مسافر، ولك يوم، وكل ما في الأمر ليلة، ويشهد الله، وعمان شمس الضحى، والقبس المنير، ويا عماني، وغنِ لي، ويا سنا الأقمار، وغيرها من الأغاني.
أول فيديو كليب عربي
كانت «عيش سعيد» الأغنية التي جعلت سالم بن علي أول مطرب عربي يصور أغانيه بطريقة الفيديو كليب، وهي من كلمات عوض بخيت العمري وتلحين سالم بن علي نفسه. أنتجتها شركة سابكو بطاقم فني جلبته من لندن، كما يروي سالم في حواره مع روتانا، وكان عرضها التلفزيوني الأول في لندن أيضًا، في قاعة ألبرت هول عام 1983، وكانت نقطة انطلاق الحفلة التي شارك فيها سالم بن علي بمناسبة عام الشبيبة العمانية بمعية الفنانين أبو بكر سالم ويعقوب نصيب وفوزي البكري.
في هذا الفيديو كليب الذي لقي نجاحًا باهرًا، كانت الموسيقى تصدح بينما يحملق سالم بن علي، بدشداشته العمانية و«مَصَره» الأحمر أحيانٍا، وبقميصه وبنطلونه الطويل أحيانًا أخرى، في فضاء مدينة صلالة مديرًا رأسه ناحية الطائر المحلق الذي يتحول فجأة بقدرة مخرج فنان إلى امرأة، ما تلبث بقليل من الخدع البصرية الفنية أن تتحول إلى فراشة تطير مرتديةً فستانًا ظفاريًا أسود وغطاء رأس أحمر.
كانت تلك المشاهد الآسرة ملتَقطة بالهليكوبتر، وهو ما لم يحدث من قبل (على حد علمنا) مع أي أغنية عربية، وربما كان هذا سببًا في رواج تلك الأغنية وشهرتِها حتى اليوم.
انفراط عقد الثنائي الفني
في مطلع التسعينيات، وبينما كان نجم العلاقة في صعود، شيء ما حدث في الكواليس أدى إلى انفراط عقد الشراكة بين سابكو وسالم بن علي.
لا أحد يعلم ما الذي حدث بالضبط بين أهم ثنائي فني عماني أدى إلى ذهاب كل منهما في طريق. هل هو الانشغال بمشاغل أخرى؟ أم خلافات مستعصية الحل بين الطرفين؟ أم تراها نبوءة الشاعر الذي قال: «إذا تم أمر بدا نقصه / ترقب زوالًا إذا قيل تم»؟ ورغم أن سالم بن علي ظل بعد ذلك يغني ويلحن، فإن حضوره الإعلامي لم يعد كالسابق. «وينك؟»، سأله المذيع محمد المرجبي خلال استضافته في برنامجه «أرقام ومعلومات» على تلفزيون سلطنة عمان سنة 1997، فكان جوابه أنه موجود وانتهى من تسجيل أغاني شريط كاسيت جديد في الكويت والقاهرة. لكن المؤكد أن الشركة المنتجة هذه المرة ليست سابكو.
والمؤكد أيضًا أن كليهما (سالم بن علي وسابكو) خسر من هذا الانفصال، فلا سالم استطاع أن يجد شركة فنية بنفس إمكانات سابكو الفنية والمادية، تتبناه وتصرف على فنه بكرم، ولا هذه الشركة استطاعت أن تجد مطربًا آخر تحقق معه نفس النجاحات التي حققتها مع الفنان الذي راهنت عليه كثيرًا. هذا الرهان يؤكده سالم بن علي في حواره مع روتانا، عندما ذكر أن سابكو أعلنت نفسها كشركة إنتاج غنائي متخصصة بسبب نجاح حفلته في قاعة ألبرت هول سنة 1983.
ثمة معطيات تشي بأن الشركة الفنية كانت تخطط للارتقاء بسالم بن علي إلى ذرى أكبر مما وصل إليه، وسالم نفسه ذكر في الحوار ذاته مع روتانا (2017) أن سابكو أحضرت له قائمة فيها كبار الملحنين في الوطن العربي، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب، وطلبت منه أن يختار منهم من يشاء لتتعاقد معه لتلحين أغنيات له، وطبعًا هذا لم يكن بالصعب عليها إذا ما علمنا أنها كانت مدعومة من السلطان قابوس شخصيًا. لكن الفنان رفض هذا العرض المغري من سابكو. إنه يرفض حتى موسيقار الأجيال!
المتتبع لمسيرة الفنان ما كان سيصدق هذا التصريح المنسوب له لولا أنه يشاهده أمامه صوتا وصورة. قبل 20 عامًا من لقاء روتانا، سأله المذيع محمد المرجبي (في برنامج أرقام ومعلومات الذي أشرنا إليه) بوضوح: «هل أنت مستغنٍ عن الملحنين الآخرين؟»، فكان جوابه: «حقيقةً لا. أنا ما أستغني عن الملحنين»، بل أعلن في الحلقة نفسها أنه بصدد التعاون مع ملحن ناشئ (حينئذ) هو مدين بن غالب الشنفري في أغنية «هجير الشوق».
المتتبع لمسيرته الغنائية أيضًا يعلم جيدًا أنه وإن كان قد صرح غير مرة بأنه يرتاح لألحانه أكثر من ألحان سواه، وهذا أمر طبيعي على أية حال، إلا أنه في المقابل لم يكن متعصبًا لألحانه لا يغني غيرها، لم يكن يحصر نفسه فيها كما كان يفعل الفنان العراقي كاظم الساهر. بل إن الفنان العماني غنى لملحنين آخرين أغاني كثيرة بعضها من أشهر أغانيه، كما هو الحال في أغنيات «مسافر» و«لك يوم»، و«كل ما في الأمر ليلة»، وهي كلها من ألحان خالد بن حمد.
ومِنَ العمانيين الذين لحنوا لسالم عدا خالد بن حمد الفنان مسلم علي عبد الكريم، وعمر جبران، وسالم بن ناصر الحبشي، ومسلم الكثيري، ومن الفنانين الخليجيين لحن له الكويتيون أحمد باقر، وأنور عبد الله، وغنام الديكان، وعبد الله الرميثان، ومن العرب اليمني أحمد فتحي.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإن محمد عبد الوهاب بالذات، الذي جعله سالم على رأس قائمة الرفض، وهو الموسيقار الذي يسعى لألحانه القاصي والداني، لم يكن في ذلك الوقت الذي تلقى فيه سالم بن علي عرض سابكو بالملحن العصي على العمانيين، فقد كان نشيد «عام الشبيبة» الذي لحنه موسيقار الأجيال بمناسبة عام الشبيبة العمانية (1983) من كلمات الشاعر عبد الله صخر العامري، يدوي في عمان كلها، وما زال يعزف في طوابير المدارس العمانية صباحًا حتى اليوم، وتحتفظ إذاعة سلطنة عمان بتسجيل نادر لعبد الوهاب وهو يغني هذا النشيد بصوته بمصاحبة العود.
كما استمر تعامل الموسيقار الكبير مع الفنانين العمانيين لاحقًا بتلحينه نشيد «عام الصناعة» الذي غناه الفنان الراحل سالم اليعقوبي. فهل كانت زلة لسان من سالم بن علي؟ أم أنه أراد تأكيد اعتزازه بألحانه ولكن خانه التعبير؟
علينا ألا ننسى أن الفنان لم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين بعد عندما عرِض عليه هذا العرض، وهي سن الحماس الشبابي والقرارات غير المدروسة، يؤكد ذلك ما ذكره مسلم الكثيري في أحد هوامش كتاب «من الغناء العماني المعاصر» أن سالم بن علي عبر له عن أسفه لعدم تقديره أهمية عروض سابكو في ذلك الوقت، ومنها «خطط تعليمية موسيقية وغير موسيقية» للارتقاء به كفنان، «غير أنه لم يتمكن من استثمار هذه البرامج التدريبية والتعليمية».
إحدى هذه المرات في حوار إذاعي مع المذيع العماني خالد صالح الزدجالي في مارس عام 2005. كان سالم حينئذ قد أمضى عدة سنوات دون أغنية مدوية كتلك الأغاني التي كانت مع سابكو في الثمانينيات، ولعله لهذا السبب أراد المذيع أن يذكّر ضيفه الفنان بلباقة بتلك الحقبة فسأله: «ألا تحن للناس الذين أسهموا في نجاحك؟»، فرد عليه سالم بانفعال: «أنا ماحد نجحني، أنا نجحت نفسي بنفسي».
كانت هذه المقابلة الإذاعية سببًا في كتابة مقال نُشر في جريدة عمان بعد أيام قليلة (تحديدًا في 23 مارس 2005) بعنوان: «رسالة إلى فنان كبير»، يعاتبه على تصريح كهذا، ويقول فيه إن الناجح لا يضيره، ولا يُنقص شيئا من نجاحه، كون أشخاص أو ظروف معينة دفعته إلى طريق النجاح، ومن ضمن ما جاء فيه: «بدا الأمر كما لو أنك فنان معتزل دون أن يعتزل، ثمة منحنى تنازلي ينأى بك بعيدًا إلى منطقة ما بين الضوء والظل، صحيح أنك ما زلت إلى اليوم تصدح بصوتك الرنان، ولكن - واعذرني على وقاحتي هذه - لم تعد أنتَ أنت، ثمة آخر يرتدي دشداشتك، ويربط رأسه بـ"مَصَرِك" ويستعير فمك ليغني به».
كاتب ذلك المقال هو نفسه كاتب هذه السطور، وقد وثقه بعد ذلك في كتابه «يا عزيزي كلنا ضفادع»، وكان منطلقه فيه حبه للفنان، وتحسره على انطفاء وهجه السابق، لذا كان عتابه محملًا بهذه القسوة التي أضاف لها تساؤلات أخرى عن سبب هذا التراجع من فنان كان كثيرون يتوقعون له الانتشار عربيًا أكثر بالنظر لبداياته القوية، ولكن «جرت الرياح بما لم تشتهِ قوارب الصيد»، وهذا التلاعب اللغوي ببيت المتنبي الذي كان من ضمن المقال سيزعج الفنانَ كثيرًا، وسيعاتب الكاتبَ بدوره عندما يلتقيان صدفة في مبنى وزارة الإعلام العمانية بمسقط عام 2006: «أنا ما أركب قوارب الصيد، أنا أركب السفن العملاقة»، ولعله كان يحيل إلى أغنيته الوطنية الأشهر «لمن السفاين والعباب وراها»، التي اعتبرها الكاتب عبد الله باحجاج في أحد مقالاته الدفاعَ الفني عن الهوية العمانية للبحار الشهير أحمد بن ماجد، الذي تتنازع أكثر من دولة نسبته إليها.
تلك الصرامة في الرد، وذلك الإنكار، لم يستطعا إخفاء الحسرة البادية على محيا سالم بن علي. لو أن بيده مرآة في تلك اللحظة كان سيحدق فيها وهو يردد نفس عبارة سوماير في رواية «سبوتنيك الحبيبة» لهاروكي موراكامي: «عيناي تخبرانني بأنني الشخص القديم نفسه، لكن بشيء مختلف عن المعتاد».
محاولات التجديد
في عام 2007 مُنح سالم بن علي وسام السلطان قابوس للفنون، وقد كان لهذا الأمر دفعة معنوية كبيرة تتضح من توالي افتخاره بهذا الوسام في لقاءاته التلفزيونية الأخيرة، إذ مَثل اعترافًا بأهميته الفنية الكبيرة في عمان من أعلى سلطة في البلاد، ليُضاف هذا إلى حب الجمهور له وسعيه لسماعه.
لذا فقد سعى في السنوات التالية لتجديد دمائه الفنية، أو أن يظهر «بشيء مختلف عن المعتاد»، إذا ما استعرنا لغة موراكامي. فسجل جلسة طربية لقناة «صوت الموسيقى» القطرية، وظهر في حوارات فنية مع بعض الفضائيات، منها روتانا التي أشرنا إليها. كما شارك في عام 2015 في فعاليات الملتقى الدولي الثاني للمؤرخين الموسيقيين، الذي قُدمت في افتتاحه أغنيته «يا منيتي يا حياتي» بأصوات عمانية جديدة.
ويبدو أن الفنان راجع بعض خياراته الفنية وأصبح أكثر انفتاحًا على التجديد. يدل على ذلك سعيه في تلك الفترة (أي منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين) للتعاون مع الشاعر الغنائي حميد البلوشي، الذي شكل مع الفنان صلاح الزدجالي ثنائيًا فنيًا عمانيًا ناجحًا جعل الأخير من أكثر الأصوات العمانية انتشارًا على المستوى العربي.
وقد كان أسلوب هذا الثنائي (صلاح وحميد) يقوم على توظيف الألحان التراثية العمانية من جهة، وكتابة كلمات من نوع السهل الممتنع قادرة على الوصول إلى المستمع العادي من جهة أخرى. ويروي حميد البلوشي في مكالمة هاتفية أجريتها معه أن سالم بن علي بعث له في تلك الفترة عن طريق الهاتف لحنًا جاهزًا وطلب منه كتابة كلمات مناسبة له. وقد رحب البلوشي بهذا التعاون بسعادة كبيرة، لكن ما لبث أن أصيب الفنان بالمرض، فلم ير المشروع النور.
الأغنية الأخيرة
ظهرت أمارات المرض على الفنان سالم بن علي خلال حواره مع روتانا الذي أشرنا إليه كثيرًا في هذا المقال، والذي يؤرخه مسلم الكثيري (أي حوار روتانا) بـ29 يناير 2017. فقد بدا في هذا الحوار شاحبًا ومتعبًا. لكن يمكننا القول إن الإعلان الرسمي (إن جاز التعبير) عن مرض سالم بن علي كان بعد عدة أيام من بث هذه المقابلة، من خلال مقال الكاتب عبد الله باحجاج المعنوَن «شفاء يا الله لمتيم الوطن» بجريدة الرؤية العمانية في 8 فبراير 2017، لكن دون أن يسمي المرض الذي سنعرف لاحقًا أنه السرطان.
عرفنا من مقال باحجاج أن الفنان قضى عدة أيام في مستشفى السلطان قابوس بصلالة، قبل أن يتقرر نقله إلى المستشفى السلطاني بمسقط. ومن هناك أجرت معه صحيفة «الشبيبة» حوارًا مرئيًا ما زال متوفرًا على يوتيوب إلى اليوم، طمأن فيه محبيه أن صحته جيدة، رغم الوهن البادي على محياه، وشكر السلطان قابوس الذي أمر بعلاجه في المستشفى الأمريكي بتايلاند، مؤكدًا أن سفره لهذا المستشفى سيكون بعد يومين من تلك الإطلالة، واعدًا معجبيه باللقاء قريبًا بعد عودته من هذه الرحلة العلاجية.
هذه العودة كانت في 22 يونيو 2017، وقد أعِدَ له استقبال حافل يليق بمطرب كبير أحد ألقابه التي يفخر بها هو «صوت الوطن»، وكان في مقدمة مستقبليه وزير الإعلام العماني حينئذ عبد المنعم الحسني وعدد من نجوم الفن والإعلام في عمان.
كما تقاطر محبوه بعد ذلك على مطار صلالة، الأمر الذي جعله في غاية التأثر وهو يقول: «شكرًا جزيلًا لكل عمان». وفي 6 أغسطس 2017 ظهر في حوار تلفزيوني أخير مع المذيع عبد الله السباح في برنامجه «ليالي المهرجان» المواكب للفعاليات الفنية لمهرجان خريف صلالة. ورغم أن آثار المرض كانت لم تزل بادية عليه، فإن هذا الحوار كان من أكثر حوارات سالم بن علي التي بدا فيها عفويًا ومرتاحًا نفسيا، ربما لأن مرضه كان سببًا في إظهار الجمهور حبه الشديد له.
كان يحضر هذا اللقاء على مسرح المروج بصلالة، إضافة إلى الجمهور، عدد من أهم مطربي عمان الذين كانوا يتابعون حوار الفنان باهتمام من الصف الأول للمتفرجين. كان المذيع مدرِكًا لحالة الفنان الصحية، لذا لم يطلب منه أن يغني، وكان يستعيض عن ذلك ببث مقاطع تلفزيونية من أغانيه الشهيرة، إلى أن اقتربت المقابلة من النهاية. حينئذ طلب سالم بن علي أن يقدم أغنية جديدة يغنيها لأول مرة، هي أغنية «رسمتك مركب أحلامي»، ورغم أنه كان لا يزال مريضًا، فإنه استطاع أداء الأغنية بإحساس عالٍ كعادته.
يروي الباحث والملحن مسلم الكثيري الذي عزف هذه الأغنية بعوده على المسرح أنه أثناء الاستعداد لتقديم الأغنية غضب سالم بن علي «غضبًا شديدًا» عندما ذكر أولاده للكثيري أن «الطبيب المعالج حذره من الغناء، بل ومنعه من إقامة الحفلات والمشاركة فيها»، وربما لهذا السبب بدا المذيع عبد الله السباح قلِقًا من غناء الفنان إلى درجة أننا سمعنا صوته في منتصف الأغنية وهو يقول: «تستطيع أن تختم الأغنية إن شئت»، لكن الفنان أكملها إلى نهايتها، وبعدها ذكر سبب إصراره على غنائها: «لحنت هذه الأغنية عام 1993، وقد وصلتني عبر رسالة، وصاحبها نسي كتابة اسمه، فإذا كان يسمعنا الآن فحبذا لو يتواصل معي». لكأنه دَين أراد الفنان قضاءه قبل أن يغادر إلى مكان بعيد.
بعد هذا اللقاء التلفزيوني بثلاثة أسابيع سافر سالم بن علي إلى تايلاند من جديد لاستكمال العلاج. لكن شاءت الأقدار أن يرحل عن عالمنا بعد ذلك بثلاثة أشهر في 22 نوفمبر 2017، ليخلّف حزنًا كبيرًا في عمان بفقدانها واحدًا من أهم رموزها الفنية. كان سالم بن علي فنانًا حالِمًا، يحول ما يمر به من لحظات سعيدة أو حزينة إلى فن عذب يعرف طريقه جيدًا إلى قلوب سامعيه. ولئن تحدثنا عن بريقه الفني بلمعانه وخفوته، فإن بريقه الإنساني لم ينل منه شيء، حتى وهو يصارع المرض بكل ما أوتي من هشاشة وضعف.
بقى شامخًا، مترفعًا، عزيز النفس، إلى آخر نفَس في حياته. كان يعرف أن ما يبقى هو الإنسانية، وكان يعلم أنه مهما طال الزمان أو قصر سيذهب من هذه الفانية ذات يوم، «فالعمر محدود، يرحل ولا يعود» كما ترنم في إحدى أغانيه.