في مكتبة صلاح جاهين: الرجل الذي أراد أن يكون عصفورًا

الصورة: منشور

محمد شعير
نشر في 2018/04/22

سأله المذيع: لو لم تكن صلاح جاهين، ماذا تتمنى أن تكون؟

أجاب: أن أكون عصفورًا.

عندما أصدرت عبلة الرويني كتابها «الجنوبي» أرسلت إليه نسخة. كتبت له: «إلى صلاح جاهين.. الأجمل من كل العصافير». فوجئت الرويني بمكالمة في وقت متأخر. قال لها على الفور: «أنا زعلان».

سألت: لماذا؟

أجاب: لأنكِ في الإهداء كتبتِ «إلى الأجمل من كل العصافير»، بينما في إحدى صفحات الكتاب قلتِ إنك لا تحبين العصافير.

ضحكت عبلة قبل أن توضح أن كل العصافير تتمنى أن تكون صلاح جاهين. وأضافت أنها تحب العصافير،، ولكن جملتها في الكتاب كانت في سياق مختلف، ترد على نجيب سرور الذي قال لها يومًا: «عصفور في اليد»، فردت عليه: «لا أحب العصافير».

كان مدهشًا أن قرأ جاهين الكتاب بمجرد أن استلمه، ولم يناقش عبلة سوى في تفصيلة واحدة وهي تحكي عن الساعات الأخيرة في حياة صلاح عبد الصبور. قال لها: كيف تجاهلتِ وصف ألوان فساتين بنات صلاح؟ ماذا كان يغني للبنات في تلك السهرة؟

ردت عبلة: لم يخطر في بالي لأني لست صلاح جاهين.

«1»

صلاح جاهين (1930-1986) كان سبيكة من الفن الخالص، الحاضر أبدًا، المتجدد دائمًا، العابر للأجيال والاختلافات السياسية.

كان لعبه جادًّا، وهمه عامًّا، وإرادته قوية، وطفولته أبوية، وكل تجلياته عبقرية.

كتب ذات مرة: «أكبر قدر من البساطة، أكبر قدر من البراءة، أكبر قدر من المصرية»، وعلق هذه الجمل الثلاثة في غرفة مكتبه باعتبارها شعارًا له.

البساطة من وجهة نظره هي «قمة الجمال». كان ينصح ابنه بهاء جاهين دائمًا: «عندما تكتب لا تقل الشمس تشرق من الغرب، قل الشمس تطلع من الشرق»، ضاربًا مثلًا على فضل البساطة على التحذلق والتغريب، أي السعي إلى الغرابة من أجل الغرابة.

أما المصرية فاستلهام واقع الشعب، لا الانفصال عنه، عاكسًا ملامح التراث الشعبي الموروث أو الواقع المعاش.

وأما البراءة، فقد كان جاهين يرى أن كل أعماله، بما فيها السياسية والفلسفية، مكتوبة بروح طفل صغير. قال إن نجاح فيلمه «خلي بالك من زوزو» كان بسبب أنه مستلَهم من أسطورة سندريلا التي يعشقها الجميع صغارا وكبارًا.

تحكي ابنته سامية، التي عاشت ست سنوات فقط بصحبته، أنه كان يرسم كل يوم كاريكاتير «الأهرام»، ثم يتصل بإدارة التحرير لإرسال أحد العمال على دراجة بخارية لكي يأخذ الرسم ويسلمه لمكتب رئيس التحرير. كان يسمي هذا العامل «الرجل الغامض بسلامته».

ذات مرة طلب من سامية أن تعطي الرسم للعامل، فبدلًا من ذلك سلمته واحدًا آخر رسمته هي، أو «شخبطته». بعد ساعة اتصلت إدارة «الأهرام» بصلاح لتسأله عن الرسم العجيب الذي أرسله. وحين سأل سامية قالت له ببراءة الأطفال: «إنت كل يوم بتنشر، خليني أنا المرة دي»، فأصر جاهين على أن ينشر رسمها في اليوم التالي.

ضعفُ صلاح جاهين أمام براءة الأطفال كان أبرز ما يميزه. كان، حسب وصف بهاء جاهين، «الطفل الأب اللِّعَبِي (محب اللعب) الحكيم. كان يرى الفن لعبة، وإلا فلنعبِّر عن أفكارنا في شكل مقال. كان لعبه جادًّا، وهمه عامًّا، وإرادته قوية، وطفولته أبوية، وكل تجلياته عبقرية».

«2»

كان أبوه قاضيًا، وكانت أمه مُدرسة، لذا نشأ صلاح في بيت «كانت الكتب فيه أكثر من الأثاث».

ومن بوابة المرض دخل دنيا الفن. وفي المرض كان أنيسه الكتاب. في سن الحادية عشرة قضى أربعة أشهر في سرير المرض، جثة لا تتحرك كما قال، وعندما بدأ في التعافي كان والده يقرأ له الكتب: «استولى على كل انتباهي العليل كتاب من دون الكتب، اسمه مشاهير المصورين، سيرة ذاتية لكبار الرسامين العالميين، من ليوناردو دافنشي وحتى فان غوخ. ما زلت أذكر أبي وهو يقرأ لي الفصل الأخير في الكتاب».

بعد أن انتهت الأشهر الأربعة واسترد عافيه، وجد نفسه يغادر السرير ويفتح شباك الغرفة ويكتب أولى قصائده. ويومها قرر أن تكون لديه مكتبة: «أنا عندي مكتبة وسرير ومرتبة.. أطَنْطَن ما بينهم واتشقلب شقلبة»، وهي القصيدة التي كتبها  في سن الخامسة عشرة ابتهاجًا بمكتبته.

«3»

البيت بالنسبة لصلاح جاهين هو «ألا تجد أتوبيسات، وعربيات وكلاكسات، وأرصفة مكسرة»، وغرفة المكتب في البيت بالنسبة له هي «المحراب» أو «الصومعة».

كانت غرفة المكتب هي المكان المحرم دخوله على زوجته منى قطان. عندما تزوجا بعد قصة حب استمرت أربع سنوات، أخذ عليها تعهدًا بألا تدخل الغرفة: «هي تحب التغيير، ولو سِبت لها الحبل على الغارب تلاقي المكتب انقلب رأسًا على عقب».

في مكتبة جاهين تجد صورة له مع الفنانة نيللي، هذه الصورة أثارت غيرة سعاد حسني.

عند دخول المنزل يستقبلك على الفور البيانو. لم يكن جاهين يجيد العزف عليه، لكنه اشتراه هو والعود اختصارًا لوقت الملحنين الذين كان يعمل معهم. وحسب بهاء جاهين، كان صلاح «عاشقًا للموسيقى الكلاسيك، وتحديدًا باخ، والفصول الأربعة لفيفالدي، وكارمينا بورانا لكارل أورف».

داخل غرفة المكتبة احتفظت سامية جاهين بتفاصيلها كلها كما تركها والدها وقت الرحيل، المكتب والكرسي، المسطرة، الأقلام، علب الدبابيس، بينما توزعت الكتب بينها وبين بهاء، الذي نقل بعضها إلى بيته.

تجد صورة لسامية الصغيرة رسمها جاهين، وأخرى لزوجته منى قطان وقعها بالإنجليزية. تضحك سامية: «أمي لم تكن تجيد العربية وقتها على الإطلاق، إذ عاشت فترة طويلة من عمرها في لندن». كان صلاح يسميها «المستشرقة».

وفي المكتبة كذلك نسخ من ديوان «كلمة سلام» بإهداء إلى زوجته عقب زواجهما مباشرةً: «إلى مُنايا». صورة أخرى مع الفنانة نيللي خلال عملهما معًا في الفوازير. تقول سامية: «عندما رأت سعاد حسني صورة نيللي خرجت من الغرفة، وعادت بعد أيام ومعها صورة لها أكبر حجمًا».

«4»

«تاريخ الجبرتي» أهم كتاب بالنسبة إلى جاهين، هو كتابه الأثير حسبما يقول بهاء جاهين، ورثه عن جده، وبدأ في قراءته وهو في الخامسة عشرة. عندما سألته المذيعة عن خصائص الجبرتي كمؤرخ قال: «ماقدرش أقول يعني لو سألتيني عن خصائص حبيبتك مثلًا، ماقدرش أقول لك تتميز بأن طولها 167 سم ووزنها كذا وشعرها كستنائي، إلخ. أقدر أقول بس إني باحبها، ودا بالضبط بالنسبة للجبرتي سحرني.. جنني».

أهدى جاهين ابنه الأعمال الكاملة لدوستويفسكي وعمره 13 عامًا، ويعتقد بهاء جاهين أن هذه الروايات صنعت منه شاعرًا.

خلال قراءة الجبرتي كان جاهين يشعر أنه يطل من فوق أسطح البيوت على شوارع مصر الضيقة، تشغي الشوارع بالناس الحقيقيين. من بين أجزاء تاريخ الجبرتي، ارتبط جاهين بالجزء الرابع الذي سجل يوميات الحملة الفرنسية، وظهر أثر ذلك الكتاب في ملحمة «على اسم مصر»، التي كتبها جاهين وهو يعالَج في أحد مستشفيات موسكو عام 1971.

كتب التراث تشكل جزءًا كبيرًا من مكتبة صلاح جاهين، كتاب «السلوك» للمقريزي و«شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني» و«محاضرة الأبرار» و«البخلاء» للجاحظ و«الأغاني» للأصفهاني و«الإمامة والسياسة» المنسوب إلى ابن قتيبة و«الخطط التوفيقية» لعلي مبارك و«قاموس العادات والتقاليد» لأحمد أمين، والأعداد الكاملة لمجلة «الأستاذ» لعبد الله النديم.

هناك أيضًا أشعار المتنبي الذي كان يراه أهم شاعر كوني، وكان جاهين يوصي شباب الشعراء دائمًا بقراءة أعماله، وكان يرى أن شاعر العامية الجيد لا بد أن يكون شاعر فصحى جيد.

وفى المكتبة كذلك مجموعة بيرم التونسي، وأعمال جبران خليل جبران، وترجمات متعددة لرباعيات الخيام.

من أهم الكتب التي شكلت وجدان صلاح جاهين أيضًا كتاب «في الأدب الشعبي» لأحمد رشدي صالح، الذي ألهمه بعض أشعار ديوانه «عن القمر والطين» عام 1961، وكتاب «سندباد مصري» للدكتور حسين فوزي. ومن أهم الكتب بالنسبة إليه «الأغاني الشعبية» لبهيجة صدقي رشيد، الذي يتألف من جزءين يحتوي كل جزء على مئة أغنية شعبية، وكتاب «أغاني شعبية من مصر العليا» لماسبيرو.

الأدب الروسي له مكانه في المكتبة، تحديدًا تشيخوف ودوستويفسكي. بل إن هديته المفضلة لأصدقائه كانت أعمال دوستويفسكي. يقول بهاء: «أهم هديتين أهداهما لي أبي كانتا الأعمال الكاملة لدوستويفسكي (كنت في الثالثة عشرة ولا زلت أذكر الثورة الفنية التي أحدثتها هذه الروايات في رأسي، وأعتقد أنها هي التي صنعت مني شاعرًا)، وعندما بلغت الحادية والعشرين أهداني الموسوعة البريطانية».

وفي المكتبة احتفظ جاهين بمصحف نادر أهداه إليه، عندما كان في الرابعة من عمره، جده أحمد حلمي، وقد كتب الجد الأكبر إهداء : «تشرف بحيازته الغلام محمد صلاح الدين نجل بهجت حلمي بن أحمد حلمي بن حسن المهدي بن علي بن الحاج عامر المهدي بن السيد الشريف صقر بن جاهين المهدي بن محمد المهدي من أهالي مصر المحروسة».

تجاور المصحف طبعات مختلفة من العهدين القديم والجديد، بينها نسخة قديمة أيضًا توارثتها الزوجة منى قطان من جدها.

بدأ صلاح جاهين يكتب الشعر بالفصحى، حتى قرأ قصيدة لفؤاد حداد، فتوقف عن كتابة الفصحى واتجه إلى العامية.

وتحتل كتب المسرح العالمي والعربي مساحة كبيرة في المكتبة، وتحديدًا سلسلتي «روائع المسرح العالمي» و« مسرحيات عالمية». وعربيًّا أعمال نعمان عاشور وألفريد فرج، والأخير أهداه مسرحية «الزير سالم»: «إلى صديقيَّ العزيزين منى وصلاح.. مع أخلص تحياتي». وقد كتب جاهين أغنيات مسرحيتي فرج «على جناح التبريزي وتابعه قُفة» و«زواج على ورقة طلاق».

ولأعمال توفيق الحكيم جانب مهم من المكتبة. وقد كتب جاهين ملاحظات عديدة في هوامش مسرحية «إيزيس»، التي حولها في ما بعد بناءً على رغبة الحكيم إلى مسرحية شعرية. وهناك رف كامل لكتب الفن التشكيلي العالمية، من بينها عدة كتب عن السيريالية والكاريكاتير.

«5»

بدأ صلاح جاهين بكتابة الفصحى في أواخر أربعينيات القرن العشرين، حتى قرأ قصيدة «في سجن مبني من حجر، في سجن مبني من قلوب السجانين، قضبان بتمنع عنك النور والشجر، زي العبيد مترصصين» لشاعر مصري يكتب العامية، فتوقف عن كتابة الفصحى وقرر البحث عن هذا الشاعر، الذى لم يكن سوى فؤاد حداد: «رجل مثقف يجيد الفرنسية والإنجليزية ومتمكن من العربية والعامية، لا أجد شاعرًا يضاهيه سوى المتنبي» كما يقول صلاح.

في مكتبة صلاح جاهين نجد ديوان «الحمل الفلسطيني» بإهداء فؤاد حداد: «إلى أخي الشاعر صلاح جاهين، لا أزال أقرا: إذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت. شِعري أنفاسها تحت التراب ويوم القيامة».

عندما أُلقي القبض على فؤاد حداد دخل جاهين في مرحلة اكتئاب شديدة، وكان يسير في شارع قصر العيني في وسط القاهرة عندما دندن مع نفسه:

«مع إن كل الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقايق والشهور والسنين

تلاقي ناس أشرار وناس طيبين

عجبي»

صعد صلاح إلى مجلة «صباح الخير»، حكى لرئيس التحرير أحمد بهاء الدين حكايات السطور الأربعة، فطلب منه بهاء كتابة أربعة منها كل أسبوع للنشر في المجلة، لتولد الرباعيات الشهيرة.

«6»

صلاح جاهين بالنسبة لنجيب محفوظ هو «النجم الثاقب»، وأحيانًا «صاحب الألف موهبة وموهبة»، وأحيانًا أخرى «الفنان الملهم». هذا ما تقوله الإهداءات التي كتبها صاحب نوبل على رواياته لجاهين، واحتفظت بها سامية في صندوق خاص في غرفة المكتبة. إهداءات تتجاوز مجرد التعبير عن «التقدير والاحترام».

على روايته «الحرافيش» كتب محفوظ إلى جاهين: «تحيات مباركات بعدد مواهبك المتنوعة»، وكرر الإهداء أيضًا بتصرف بسيط على مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»: «تحيات بعدد مواهبه المتعددة».

كان جاهين واحدًا من شلة الحرافيش، بل من المؤسسين الأوائل، اصطحبه توفيق صالح معه ذات مرة، ومن يومها أصبح عضوًا مؤسسًا. وحسب نجيب محفوظ: «منذ تلك الليلة دخل قلوبنا مباشرة، لدرجة تصورت معها أني أعرفه قبل أن أعرفه شخصيًّا. كان في ذلك الوقت يضج بالمرح والحيوية». وعندما تحولت الحرافيش إلى مسلسل إذاعي من إخراج فتح الله الصفتي، كتب صلاح جاهين أغنيات المسلسل ولحنها وغناها سيد مكاوي. ويمكن اعتبار كلماته تلخيصًا للرؤية العامة التي انشغل بها نجيب محفوظ في معظم رواياته، البشر صنفين: فتوات وحرافيش. كتب جاهين:

«الخلق صنفين/وتالتهم يا حسرة مافيش

صنف ابن شياطين/فتوة يعيش بالتهبيش

وصنف غلبان يا عيني/وماشي جنب الحيط

وهما دول اللي بيسموهم الحرافيش

الكورال: الحرافيش شغالة/الحرافيش عتالة/الحرافيش رجالة

ربك خلقنا ملوك/وخلق لنا الحرافيش»

لم تكن كتابة الأغنيات الشيء الوحيد الذي أسهم به جاهين في أعمال مأخوذة عن محفوظ، بل امتدت التقاطعات بينهما إلى مجالات فنية متنوعة، فمثَّل جاهين بدور محدود في «اللص والكلاب»، واختار إحدى قصص «المرايا» لتحويلها إلى فيلم بعنوان «أميرة حبي أنا» حقق نجاحًا باهرًا عند عرضه. وقد أهدى محفوظ «المرايا» إلى جاهين باعتباره «الأخ المحبوب الفنان الكبير».

وتتعدد الإهداءات وتتوالى: يكتب محفوظ على «أفراح القبة»: «الفنان العبقري صلاح جاهين، حبًّا وإعجابًا بالنجم الثاقب»، وعلى «دنيا الله»: «إلى الفنان الملهم صلاح جاهين.. رمز مودة وإعجاب ومودة»، وعلى «الشيطان يعظ»: «أخي الفنان صلاح جاهين.. مع حبي العميق وإعجابي القديم المتجدد أبدًا»، وعلى «حضرة المحترم»: «الفنان صلاح جاهين، حبًّا وإعجابًا بلا حدود»، وعلى «الكرنك»: «إلى صلاح جاهين.. ألف تحية وتحية لألف موهبة وموهبة».

وللكرنك حكاية، فقد نشرت الصحافة وقتها أن صلاح جاهين عمل مستشارًا فنيًّا للفيلم الذي كتب السيناريو له ممدوح الليثي، لكن منذ عدة سنوات فجَّر مخرج الفيلم علي بدرخان مفاجأة بأن كاتب السيناريو الحقيقي للفيلم كان صلاح جاهين، وأن الليثي لا علاقة له بالفيلم.

حكت جانجاه أن شقيقتها سعاد حسني رفضت المشاركة في الفيلم بعد أن قرأت السيناريو الذي أعده الليثي بسبب ما فيه من ثغرات، وأصرت أن يذهب السيناريو إلى جاهين ليعيد معالجته ويتلافى الثغرات به، فأعاد كتابته كليةً، ورفض أن يضع اسمه عليه رغم إلحاح سعاد في ذلك. لم يتبرأ جاهين من الفيلم، الذي كان أعنف وثيقة سينمائية تنتقد عصر عبد الناصر.

عندما قرأ محفوظ تفاصيل الرحيل المأساوي لجاهين، قرر أن يكتب عنه في روايته «قشتمر». ولم يكن «طاهر عبيد الرملاوي» أحد أبطال الرواية سوى جاهين نفسه، مع تصرف فني بالطبع: «من بين أفراد مجموعتنا الفانية يبزغ طاهر عبيد الرملاوي كالقمر في تألقه، وينطلق في طريق النجاح كالشهاب، وعى من أول يوم إلى المشاركة في تحرير مجلة الثورة، وبهزيمة 67 يحزن أكثر مما يحزن الزعيم نفسه، ولما مات الزعيم حزن طاهر عليه أكثر مما حزن الزعيم على نفسه».

يقول محفوظ إنه حاول أن يخفي ملامح الشخصية: «توصلت في النهاية إلى أن أكتب رواية عن شخصية صلاح جاهين، على أن أعدل وأغير في ملامحها حتى لا يتعرف عليها القراء، وعبرت فيها عن مأساة هذا الرجل».

«7»

كان جاهين يذهب إلى الحدود القصوى في الفن، لذا لم تكن كتاباته مجرد كتابات عابرة، وحتى الفنون التي لا تحتاج إلى مجهود، مثل عديد من الإعلانات الشهيرة في السبعينيات والثمانينيات، كانت تحمل «رؤية فيلسوف كبير تختلف نظرته وتتعمق باتساع مواهبه». باختصار، كان «الفن مزاجه وملعبه»، باعتباره نوعًا من اللعب مهما حوى أفكارًا ومواقف سياسية أو اجتماعية أو فلسفية. الفن كان القيمة العليا والأولوية الكبرى في حياته، ولم يكن يعنيه شيء آخر.

رغم أن السياسة «مهلكة» كما يقول جاهين في إحدى رباعياته، فإن الرجل كان منشد الثورة، التقى حلمه بالمدينة الفاضلة التي تمناها، مع أحلام النهضة لدى عبد الناصر، فاندفع بصدق ليغني للثورة ويبشر بأحلامها.

لكن نكسة 1967 جاءت لتحول الحلم إلى كابوس، وكان رحيل عبد الناصر الأقسى عليه. شعر بأن مَثَله الأعلى مات، وأن آخر أمل في تحقيق حلم المدينة الفاضلة قضى عليه الموت. وعندما حكم السادات مصر وظن أن جاهين سيناصره، فوجئ بأن «مفيش بينهم كيميا»، فقد كان صلاح لا يحب السادات، بل كان يعانده بكتابة قصيدة جديدة في «الأهرام» كل عام في ذكرى وفاة عبد الناصر، ما أغضب السادات.

في تلك الفترة بدأت حملة هجوم شديدة على ناصر، ثم على جاهين. وتحت ضغط الهجوم، أعلن «ندمه» على أغنياته، لكن بعدما استعاد ثقته بنفسه، عاد ليؤكد: «لست نادمًا على ما كتبته من أغانٍ للثورة. لقد أخطأت بما قلته عنها أخيرًا، لكن لحسن الحظ لم يصدق الناس ما قلت».

تحتفظ سامية برسالة كتبها والدها لجريدة «الأهالي» قبل أيام من رحيله. كان يريد أن يوضح فيها موقفه من الثورة بعد أن نشرت الجريدة على لسانه «أقوالًا غير صادقة تمس إخلاصي وانتمائي السياسي» كما يقول في الرسالة. كانت الجريدة قد نشرت تحت عنوان: «أخيرًا كشف صلاح جاهين عن دخيلة نفسه للأهالي، وقال إنه كان يعيش طوال الستينيات في أكذوبة كبيرة». صلاح سارع بالاتصال بمحرري الجريدة الكبار، الذين اعتذروا له شفويًّا ووعدوه بتصويب ما نُسب إليه، لكنهم لم يفعلوا، مما اضطره إلى كتابة هذه الرسالة من أجل التصحيح:

«لا لأني أفزع من النقد، ولكن ما كُتب لم يكن نقدًا بل شيئًا عجيبا، وهو شكل من أشكال الكتابة الصحفية جديد بالنسبة لي.. وبدأت خطابات الشباب تصلني غاضبة عاتبة مجروحة ولهم العذر، وإليهم ما حدث بالضبط. جاءني شاب من جريدة الأهالي وأجرى معي حديثًا صحفيًّا طويلًا، تناولنا فيه جميع النواحي التي تهم قارئ صفحة الثقافة، وكان من بين أسئلته:

لماذا لم تعد تكتب أغاني وطنية؟

- أنا ظللت أكتب أغاني وطنية وسياسية إلى أن أوقفت الإذاعة تكليفي بكتابتها، واذكر من بينها «عمال أبو زعبل» و«بحر البقر» و«محاكمة لوكوللوس».

أقصد لماذا لم تعد تكتب أغاني كالأغاني التي كانت تظهر في أعياد الثورة؟

- الحقيقة أنني بعد النكسة أُصبت بصدمة أحدثت لي نوعًا من الشلل، ثم أخذت أسأل نفسي: هل أخطأت بكتابة هذه الأغاني المتفائلة؟ ألم أشترك أنا والكثيرون غيري في خلق أكذوبة خدرت أعصاب الجماهير حتى صدمهم الواقع؟

هذا هو ما دار بيني وبين الشاب حول هذا الموضوع، وأنا لا أجد فيه ما أخجل منه. إن اليقظة والضمير الوطني والنقد الذاتي كلها صفات يُحمد الإنسان عليها.

ولكن ربما استرعت انتباه بعض الأصدقاء في التحقيق الصحفي كلمة «أكذوبة» بين سطور حديثي، فانتزعوها من مكانها وصدَّروا بها فقرة ظالمة، انهالت فوقي تبكيتًا وتعنيفًا من قبيل: «وهل السد العالي أكذوبة يا أستاذ؟»، إلخ.

وللشباب الذي أحزنَته هذه الفقرة أحب أن أؤكد الآتي: إنني مؤمن بثورة 23 يوليو إيمانًا لا يتزعزع. إنني مؤمن بعبد الناصر ومحب له كمؤسس لمصر الثورة، مصر التصدي للاستعمار، مصر القطاع العام، مصر التصنيع وكهربة الريف، مصر العمال والعاملات، مصر الإصلاح الزراعي، إلى آخر النواحي المشرقة التي حققناها في عصره العظيم. ولكنني تعلمت ودفعت غاليًا لأتعلم أنه في كل العصور، وحتي في عصر عبدالناصر، كانت هناك الفئران التي تنخر في أساس البناء، وأن الذي لا يلتفت وينتبه إليها، يحدث له ما حدث لي من صدمة واكتئاب وندم وضياع. ربما لا يفهم الشبان هذا الألم، لأنهم لم يصادفوه بعد، وأرجو ألا يصادفوه، وإن صادفوه، أرجو بدلًا من أن يكتئبوا ويضيعوا أن يواصلوا النضال».

انتهى نص الخطاب.

رغم أن النكسة كانت بداية انكسار صلاح جاهين، فإن الانكسارة القاتلة كانت في كامب ديفيد. بعد 1967 لم يتوقف جاهين عن الكتابة، ولم ينسحب من الحياة ولا من الحلم، حتى عندما تعرض للهجوم في السبعينيات. انسحابه من الحياة بدأ مع كامب ديفيد، وهذه الانكسارة عبَّرت عن نفسها في قصيدته الشهيرة «على اسم مصر». في ليلة 16 إبريل 1986، ليلة الغارة الجوية الأمريكية على ليبيا التي سقط فيها مدنيون، دخل جاهين غيبوبة الموت التي كانت كل الأحداث المحيطة به تدفعه إليها، لتبقى كتبه وفنه ودرسه الأهم: الإخلاص للفن، ومواصلة النضال.

مواضيع مشابهة