«أردته أن يكون عن كليو، مستوحى من ذكرياتي، وأن أصوره بالأبيض والأسود».
كانت هذه إجابة المخرج المكسيكي «ألفونسو كوارون» عندما سئل عن رؤيته في صناعة آخر أفلامه «روما» الذي يحكي فيه عن طفولته وعائلته والمرأة التي ربَّته.
مسيرة سينمائية ناجحة ينقصها الخصوصية
مسيرة كوارون مثيرة للإعجاب بحق، فبعد صناعة أول أفلامه في المكسيك اتجه إلى هوليود لصناعة ثاني أفلامه «الأميرة الصغيرة» الذي حقق نجاحًا نقديًّا وجماهيريًّا مكَّنه من الوجود في هوليود لمدة تقترب من 20 عامًا.
لم يكن غزير الإنتاج، لكن كل إنتاجه حصل على التقدير، سواء من الجمهور أو النقاد، وحصل على نصيب كبير في ترشيحات للجوائز توَّجها بحصوله على جائزتي أوسكار أفضل إخراج، وأفضل مونتاج عن فيلم «جاذبية» الذي صدر عام 2013، وبذلك يكون أول مخرج مكسيكي يحصل على جائزة الإخراج قبل زميليه المكسيكيين «أناريتو» و«دل تورو»، ومن المتوقَّع أن ينال «روما» أيضًا تقديرًا مماثلًا في الأوسكار هذا العام 2019.
لكن على الرغم من كل هذا النجاح، وأن كوارون أظهر تميزًا وتجديدًا في صناعة أفلامه، كان هناك دائمًا شيء ناقص. فمن فيلم للأطفال إلى آخر عن رواية لـ«تشارلز ديكنز» إلى فيلم لـ«هارى بوتر» وفيلمي خيال علمي، كان كوارون بحاجة إلى صناعة فيلم أكثر أصالة وأقل تجارية، مثلما فعل قبل 17 عامًا في فيلمه «وأمك أيضًا»، لكن هذه المرة كان بحاجة إلى فيلم لا يمكن تصنيفه، دون حبكة، وأكثر ذاتية، وأخيرًا وجد ضالته في «روما».
رؤية ذاتية تعبر عما حولها
يعرض الفيلم أحداثًا مهمة وقاسية في تاريخ المكسيك، نراها بعيون كليو، ونرى الوقع النفسي التي تركته فيها هذه الأحداث.
تدور أحداث الفيلم في سبعينيات القرن العشرين، في حي روما بالمكسيك. يحكي الفيلم عن شخصية «كليو»، شابة من أقلية عرقية تعمل لدى عائلة توشك على الانهيار بسبب الأب الذي يهجرهم، وفي نفس الوقت تحمل كليو من شاب يهجرها فور علمه بذلك، فنتابع تعاملها مع هذا الموقف بالتوازي مع كيفية تعامل الأم مع أبنائها بعد رحيل زوجها.
يناقش الفيلم الطبقية من خلال العرض الموازي لحياة كليو في قريتها الفقيرة والحياة المريحة للعائلة. فصحيح أن العائلة تعاملها معاملة حسنة كأنها فرد منها، لكنها لا تنسى أنها مجرد خادمة تعمل لديهم. فعندما يجلسون على الأريكة لمشاهدة التلفاز، تجلس هي على الأرض وتتحدث الإسبانية فقط معهم، أما مع صديقتها، فتتحدث بلهجة مكسيكية محلية.
لكن الفيلم لا يكتفى بالنقد المجتمعي، فهو كذلك يعرض أحداثًا مهمة وقاسية في تاريخ المكسيك، مثل حريق اندلع في مزرعة أحد ملاك الأراضي عشية ليلة الكريسماس أو مذبحة «كورباس كريستى» التي هاجمت فيها مجموعة إرهابية مدرَّبة على يد الحكومة، طلابًا متظاهرين وقتلتهم.
المذهل في الفيلم ليس تناول هذه الأحداث، بل كيفية تناولها. فنحن نرى كل ذلك بعيون كليو، والوقع النفسي التي تركته فيها هذه الأحداث. فحتى مشهد المذبحة الذي احتوى على تجمعات كبيرة لم يعن «كوارون» باستعراض كيف حركهم، إذ نرى كل ذلك من خلال نافذة، على الرغم من أنه صرح بأنه «خطط لهذه اللقطة، وأقام معمل تدريبات للكومبارس قبل ثلاثة أسابيع من تصوير المشهد».
إخراج بديع ومَشاهد تعلق بالذاكرة
رغم أن الفيلم شخصي بالنسبة إلى كوارون، فهذه العائلة هي عائلته، وهذا والده الذي تركه، وهذه أمه، وهذه مربيته كليو، غير أن الفيلم لا يعرض الأحداث من منظوره الذاتي. فحتى في مشهد ذهاب الأب وهجره لعائلته، لا يجعلنا كوارون نكرهه أو نحبه. فالكاميرا عين محايدة، تراقب ما يحدث، لكنها لا تنحاز إلى موقف معين، تمامًا كما أراد كوارون، ولذلك فقد أكثر من استخدام اللقطات الواسعة حتى مع كليو، لم يلجأ إلى اللقطات القريبة إلا نادرًا.
استخدم كوارون أطباء حقيقين في مشهد ولادة كليو لإضفاء المصداقية، فصنع مشهدًا من أكثر المشاهد بساطة وإيلامًا في نفس الوقت.
أيضًا اعتمد المخرج على اللقطات الطويلة زمنيًّا، والتي تعتمد على الحركة المستمرة للكاميرا دون قطع، وذلك لسببين: الأول لمتابعة كليو في كل تفاصيل حياتها، والثاني لتعزيز حالة المعايشة عند المُشاهد، وهو أسلوب استخدمه كوارون كثيرًا في أفلامه، فهو مخرج معروف باستخدامه اللقطات الطويلة، لكن الفارق أنه في أفلامه السابقة كان يستخدم الحركة المهتزة للكاميرا، فتُعرَض الأحداث من منظور الشخصيات، ليجعل المُشاهد جزءًا من الحدث، وهو ما لم يرد فعله هنا.
لكن هذه العين المراقبة لا تعنى أن كوارون فشل في إيصال حالة شعورية شديد الحساسية إلى المُشاهد. فعلى الرغم من الإيقاع البطيء، فإن المُشاهد يندمج تدريجيًّا داخل هذا العالم حتى يصل هذا الاندماج إلى الذروة في مشهدين:
المشهد الأول: هو بالأحرى تتابع، يبدأ بعرض المجزرة التي شاءت الظروف أن توجد كليو فيها. هذا التتابع عبارة عن لقطة طويلة تتحرك فيها الكاميرا بشكل دائري، تمثل دوران كليو في نفس الوقت التي ينزل فيه ماء الرأس مبكرًا.
يستمر التتابع إلى مشهد الولادة الذي تخسر فيه كليو جنينها. يبدأ المشهد بكليو على السرير، بولادتها، ثم اكتشاف الأطباء أن الجنين وُلد ميتًا، فيحاولون إنعاشه عدة مرات، ويفشلون في ذلك. كل ذلك تحت نظرات كليو التي تنهار تدريجيًّا حتى تصل إلى أقصى حالات الانهيار عندما يعطيها الأطباء الجنين لتودعه، ثم يأخذونه ويغطون رأسه.
على الرغم من بساطة المشهد، فإن تأثيره عظيم. فكوارون لم يلجأ إلى حلول ميلودرامية لإثارة التعاطف، فليس هناك لقطات مقربة على وجه كليو، أو على الجنين، ولا يوجد موسيقى تصويرية، بل إن المشهد عبارة عن لقطة واحدة واسعة لا تتغير فيها زاوية الكاميرا ولا تتحرك.
استخدم كوارون أطباء حقيقين في المشهد لإضفاء المصداقية، والتي بجانب أنه نجح في تحقيقيها، صنع مشهدًا من أكثر المشاهد بساطة وإيلامًا في نفس الوقت.
المشهد الثاني: إنقاذ كليو للطفلين، مشهد طويل يستمر عدة دقائق. يبدأ بالعائلة على البحر والطفلان يخبران الأم بأنهما يريدان السباحة، فتوافق، وتطلب من كليو أن تُبقي عينيها عليهما، ثم تذهب إلى الفندق. تراقب كليو الطفلين حتى يبتعدا، إنها لا تستطيع السباحة، تنادى عليهما ولا تسمع إجابة، يسحبهما الموج، تدخل كليو إلى البحر تدريجيًّا، تنادى عليهما، الموج يعلو ولا ترى أحدًا، فجأة تجد أحدهما، ثم بعد برهة تجد الآخر وقد عام فوق سطح الماء، ولا نعرف إن كان غرق أم لا، تسحبه كليو، ثم يسحبهم الموج جميعًا إلى داخل البحر.
هل يغرقون؟ تنجح كليو في إخراجهم من البحر، وتنقذ الطفلين، ثم تأتي الأم والطفلان الآخران ويشكرونها، ثم في لحظة انهيار تبكي كليو بحرقة، وتشعر بالذنب قائلة إنها لم تكن تريد طفلها.
هذا المشهد ذروة الفيلم، عبارة عن لقطة واحدة طويلة تتابع فيها الكاميرا كليو في كل خطوة، وبحركة تماثل حركة كليو، ثم حركة الأمواج وشريط الصوت المعتمد على صوت ارتطام الأمواج ببعضها، يستطيع كوارون أن يخلق حالة مرعبة لدى المُشاهد.
المشهدان السابقان يمكن بسهولة الربط بينهما، كليو خسرت حياةً وأنقذت أخرى. رغم جهودها طوال الفيلم لولادة جنينها، فإنها لم تكن تريده، ولا يظهر ذلك إلا في لحظة انهيارها، ونتيجة إنقاذها الطفلين تصبح بحق فردًا من العائلة.
دلالات الذكريات
بجانب حالة الاندماج التي عمد إلى تحقيقها كوارون من خلال المشاهد الطويلة، كانت هناك مَشاهد مقصود منها الرمزية أو الدلالة على شيء معين، ومن أبرز هذه المَشاهد واحد أثار حفيظة غالبية من شاهده بسبب طوله الزمني: مشهد الأب وهو يدخل السيارة في مرآب المنزل.
نتابع بالتفصيل محاولاته الدخول بحذر دون أن يخدش السيارة. الأب الذي سرعان ما اختفى من حياة عائلته، لم تبق في ذاكرة أطفاله عنه سوى هذه الذكرى له وهو يدخل السيارة، فصارت السيارة نفسها دلالة عن وجوده وهيمنته على حياتهم حتى وهو غائب، لذلك تحطمها الأم في مشهد لاحق للتأكيد على أن حياتهم ستستمر من دونه.
يشار إلى استمرار الحياة من خلال الطائرة التي تظهر في السماء، في أول وآخر لقطة في الفيلم، للدلالة على أن ما رأيناه ليس إلا جزءًا من حياة نطاقها أوسع من حياة هذه الأسرة البسيطة، وأن الحياة ستستمر في كل الأحوال.
مصادفة مبتذلة
يعاب على الفيلم نقطة واحدة، في مشهد المجزرة، نكتشف أن والد طفل كليو واحد من المهاجمين، ويكاد يقتلها، وكأن كوارون يريد القول إن الأب تسبب في موت ابنه.
بالتأكيد، يحق للمخرج أن يفعل ما يشاء، لكن المشكلة تكمن في أن هذا الاكتشاف لا يُحدث أي فارق في أحداث الفيلم، لا على الوالد ولا على كليو. لم يهتم الفيلم بشخصية الوالد، ولا بعلاقته بكليو، بل كان هجره لها مجرد محرك للأحداث ليس أكثر.
التجرد من الزمن
اختيار التصوير بالأبيض والأسود حرم الفيلم من جماليات الألوان في الأماكن الطبيعية التي تدور فيها الأحداث، لكنه صنع حالة فنية فريدة مجردة من الزمن.
اختيار التصوير بالأبيض والأسود لم يكن مصادفة أو لمجرد الاستعراض. فعلى حد قول كوارون كانت هذه رؤيته للفيلم منذ البداية. عادة ما يلجأ صناع الأفلام إلى استخدام الأبيض والأسود لسببين: إما لتوضيح أنها تدور في زمن قديم، وإما لإعطاء تحية لأفلام الماضي نوعًا من النوستالجيا، وغالبًا ما يلجؤون في هذه الحالة إلى التصوير بالخام.
لكن كوارون هنا لا يفعل هذا لأي من السببين. فعلى العكس، اختار أن يصور بالديجيتال، وأن يبتعد عن فكرة الحنين للماضي، على الرغم من أن الفيلم يدور في زمن قديم، ومن تجربة شخصية عايشها، لكنه على حد قوله، أراد أن يعطى الفيلم إحساس التجرد من الزمن، مثلما تجرد من الذاتية.
وعلى الرغم من أن هذا الاختيار بالتصوير بالأبيض والأسود حرم الفيلم من جماليات الألوان في الأماكن الطبيعية التي تدور فيها الأحداث، فإن كوارون بكل تأكيد نجح في صنع حالة فنية فريدة، مجردة من الزمن، ومكونة من ذكريات دون نوستالجيا.