عندما أستمع إلى ألحان الموسيقار رياض السنباطي أعتدل في جلستي احترامًا، أشعر كأنه ناظر المدرسة، أو الخال الوقور كبير العائلة، أما ألحان الموسيقار بليغ حمدي فأشعر أنه يمكن سماعها وأنت ممدد على السرير، كأنك تتحدث مع خالك الأصغر، أو صديق اشتهر في لحظات من تجليات القدر والموهبة.
في الشهر ذاته، سبتمبر، تمر علينا ذكرى رحيل المتضادَّيْن والمختلفَيْن حدَّ الشرق والغرب، رياض السنباطي (1906-1981)، وبليغ حمدي (1932-1993)، وهنا نحاول تعقب رحلتيهما وتشابههما في البدايات واختلافهما تمامًا بعد ذلك، وتأثير كلٍّ منهما في مسيرة الموسيقى العربية، وصراعهما الخفي تارة، والمعلَن تارةً أخرى.
تأثر السنباطي بالقصبجي والشيخ زكريا أحمد وعبد الوهاب، بينما تأثر بليغ بمحمد فوزي ومحمود الشريف وعلي إسماعيل.
كان رياض يلقب وهو صغير بـ«بلبل المنصورة» لحلاوة صوته، وكان يحلم أن يكون مطربًا، مثلما حلم بليغ أيضًا. غنى السنباطي بالفعل في بدايته، مع نجاة علي في الثلاثينيات، ومع هدى سلطان في تجربته الوحيدة في التمثيل بفيلم «حبيب قلبي» عام 1952. بدأ بليغ حياته كمطرب أيضًا، واعتُمِد في الإذاعة وشارك بالغناء في برنامج «ساعة لقلبك»، لكن سِحر التلحين جذب الاثنين.
فَطِن رياض إلى صعوبة نجاحه كمطرب وسط العمالقة الذين كانوا موجودين قبله على الساحة الفنية (أم كلثوم، فتحية أحمد، محمد عبد الوهاب)، إضافةً إلى أن المطرب عليه واجب من الانتشار والعلاقات والتنازلات والاجتماعيات التي لا يفهمها ولا يجدها رياض، المحب للهدوء والعزلة في أغلب أوقاته، وأدرك بليغ ذلك أيضًا، وهو يكره كل ما يُفرض عليه، لذلك اختار أن يكون قائد العمل، ليكون حقًّا فنانًا فوضويًّا يفعل ما يحلو له.
تأثر السنباطي بكل من سبقوه، بدايةً من الأستاذ محمد القصبجي، خصوصًا في أعماله الأولى مع أم كلثوم «افرح يا قلبي»، وسنجد تأثرًا واضحًا بالشيخ زكريا أحمد في «ليه يا بنفسج»، وعبد الوهاب في كثير من مقاطع أغاني «الست»، بينما تأثر بليغ بشكل مباشر بأستاذه محمد فوزي، ومحمود الشريف، وعلي إسماعيل. لحَّن بليغ في بداياته ألحانًا بعيدة عن شكله الموسيقي المعروف لنا، مثل أغنية نجاة «بس وحياة اللي فات»، وأغنية عبد الحليم حافظ «تخونوه».
اقرأ أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
حمل السنباطي تراث الغناء الديني والموالد والتواشيح، وذهب بليغ يتَّبع أثر الفلكلور في مصر، ويسافر يسمع ويشتبك مع كل أنواعه كي يتمكن من إعادة تقديمها في شكل جديد وقريب إلى الناس.
كان صوت أم كلثوم بكل ما فيها من وقار في اللحن تحت سيطرة السنباطي، فجاء بليغ ليقدم لها ألحانًا ذات طابع خفيف، وينقلها إلى الأجيال الجديدة.
يقول الشيخ زكريا أحمد إنه في أول مرة رأى السنباطي مع أم كلثوم عرف أن مُلحني «الست» صاروا ثلاثة (محمد القصبجي، زكريا أحمد، رياض السنباطي). ورغم رفض أم كلثوم في البداية لحن «على بلد المحبوب»، فإنها تراجعت لاحقًا وسجلته بصوتها بعد أن غناه عبده السروجي، واستطاع رياض أن يكتسب مكانةً لم يكتسبها ملحن آخر في حياة أم كلثوم، واستمر في العمل معها من بدايات الثلاثينيات حتى رحلت وهو يجهز لها لحن قصيدة «انتظار»، التي غنتها في ما بعد سعاد محمد.
نجح بليغ أيضًا في اكتساب مكانةً لدى أم كلثوم رغم فارق العمر بينهما، فأول عمل تعاونا فيه كان «حب إيه» عام 1961، وكان بليغ يصغر «الست» بما يقرب من 35 عامًا، لكنه قدم لها 11 لحنًا، ووضع نفسه ضمن كبار الملحنين بعد تعاونه مع أهم صوت في تاريخ الأغنية العربية.
بعد أن فرضت أم كلثوم شخصيتها الغنائية، تعاونت مع بليغ بحثًا عن تطوير أعمالها ومواكبة الموسيقى الجديدة.
وصل بليغ إلى أم كلثوم بعد 10 سنوات من سيطرة السنباطي على صوت «الست»، بكل ما فيه من فخامة وكلاسيكية مصرية ووقار في اللحن، فقدم لها ألحانًا ذات طابع خفيف وجُمَلًا لحنية بسيطة، ونقلها إلى الأجيال الجديدة. لكن كيف حدث ذلك؟ كيف تنتقل أم كلثوم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال؟
كي ندرك ما حدث، علينا أن نكتشف لماذا انفرد السنباطي بصوت أم كلثوم طَوَال هذه المدة.
السنباطي هو أول من يلحن لأم كلثوم من جيلها الموسيقي (القصبجي، زكريا أحمد، داوود حسني، النجريدي)، والسنباطي هو من شكَّل شخصية الأغنية الكلثومية، ويمكن تسميتها بالأغنية السنباطية من باب رد الحق إلى أصحابه، وهو الوحيد القادر على تقديم ما تحلم به أم كلثوم: الأغنية الكلاسيكية التي ترجع إلى عصر الموسيقى الكلاسيكية المصرية (عبده الحامولي، محمد عثمان)، لذلك كانت له مكانة مهمة في تاريخ أم كلثوم الفني، وبالتالي في تاريخ الأغنية المصرية.
أما بليغ فجاء بعد أن فرضت أم كلثوم شخصيتها الغنائية بالتعاون مع السنباطي، واستعادت ثقافة عصر النهضة بأهمية المطرب أكثر من أي شيء، ووقتها كانت تبحث عن تطوير أعمالها كي تواكب ما يحدث في الموسيقى الجديدة (موسيقى الستينيات)، ولم تنجح محاولات التواصل مع محمد فوزي ومنير مراد.
بدأ بليغ يظهر على الساحة، فكان الأمل الأخير للحفاظ على كيان أم كلثوم وسط الأجيال الجديدة، تنازلت أم كلثوم عن ضوابطها أمام فوضى بليغ، لأنها تحتاج إليه، وإلى الجملة الموسيقية البسيطة التي تسكن الأذن بشكل سريع ومحبب للنفس بطريقة مخيفة، لكنها أيضًا جُمَل غير طربية بالشكل الكافي، وهذا هو دور أم كلثوم، أن تضيف من سحرها وارتجالاتها وأدائها ليتكامل العمل الفني.
أم كلثوم هي رحلة السنباطي الفنية، رغم أن ما قدمه مع غير «الست» ليس بالقليل، ويؤكد تمامًا قدرته على تقديم ألحان ذات قيمة عالية ودون أن يخرج عن إطاره المعروف، وفي نفس الوقت يترك بصمة المطرب في لحنه.
ستجد السنباطي واضحًا في أغنية «شفت حبيبي وفرحت معاه»، وفي نفس الوقت هي أغنية فيها كثير من طعم وشكل عبد المطلب، أو مع حليم في أغنية «فاتوني»، أو مع عبد الغني السيد في مونولوج مثل «غاب بدري عن عيوني»، وغيرهم الكثير، فالسنباطي لحَّن لأغلب من عاصروه، حتى ولو كان لحنًا واحدًا فقط، لكنه ترك بصمته عند الجميع.
أما بليغ فكانت أم كلثوم بوابة انطلاقه. دخل تاريخ الموسيقى من أهم وأوسع أبوابه، حتى قبل أن يتم تقييم ألحانه التي قدمها لها، ففكرة أنه يلحن لأم كلثوم كانت كافية لأن يصبح في قائمة أهم ملحني الستينيات، رغم أن ألحان بليغ هي الأضعف موسيقيًّا في مسيرة أم كلثوم، لكنها الأهم، فبليغ كان أجمل عندما يعمل مع سوى أم كلثوم، تشابكه مع الفلكلور جعله يقدم ألحانًا مهمة موسيقيًّا وجماهيريًّا.
حاول بليغ طَوَال فترة عمله دمج العوالم ببعضها، دمج الأزمان والأماكن، فجاء بالفلكلور (زمن ومكان قديم)، والآلات الحديثة والمطربين الجدد (زمن ومكان حاضر)، ليقدم ألحانًا مختلفة وسهلة على الأذن، في مراهنة على الزمن القادم، على تقديم موسيقى فيها سحر الشكل الجديد، عكس ما كان يفعله السنباطي، الذي قرر تجميد الزمن وتقديم القصيدة الكلاسيكية معبِّرة عن ذلك الزمن والمكان الذي صُنعت فيه، رغم أنه يقدم تطويرًا فيها دون شك، لكنه حافظ على قيمة الزمن.
هذا التضاد الواضح بين الاثنين سيولد بينهما مشاحنات بالطبع، فالسنباطي يرى أن ما يقدمه بليغ ليس ذا قيمة، ويوضح ذلك بأكثر من طريقة، خصوصًا عندما أكد أن ألحان أم كلثوم الأخيرة غير جيدة من حيث اللحن والكلمات خلال حلقة على التلفزيون الكويتي، لكنه استثنى عبد الوهاب من هذا الاتهام، ثم عاد مرة ثانية في نفس البرنامج ليشير إلى أنه، أي السنباطي، قدَّم وردة في شكل جديد وجيد عندما لحن لها «يا حبيبي لا تقل لي ضاع حبي»، بعيدًا عن ما كانت تغنيه، في تلميح صريح لألحان بليغ.
في المقابل، كان بليغ يهاجم السنباطي، خصوصًا بعد فشل أغنية «من أجل عينيك»، آخر ألحان السنباطي لأم كلثوم، التي حاول فيها الاشتباك مع الآلات الجديدة في الفرقة، وسبقها بمحاولة لتقديم أسلوب زكريا أحمد في أغنية «القلب يعشق كل جميل».
وفي عدد مجلة «الشبكة» بتاريخ 17 يناير 1972، هاجم فيها بليغ لحن السنباطي «من أجل عينيك»، بل أعلن أنه ليس لحنًا من الأساس، ولم يكتفِ بذلك، فهاجم أغلب الملحنين، واعتبر أن السنباطي وعبد الوهاب ليسا مدارس لحنية، وأن الموجي لم يقدم شيئًا يُذكر.
كتب عبد الوهاب مقالًا دافع فيه عن بليغ حمدي، بعد اتهامه في قضية مقتل مطربة مغربية في شقته عام 1986.
رغم أني أرى الحوار السابق مبالغًا في صياغته، فإن عبد الوهاب يقول في كتابه «رحلتي: أوراقي الخاصة جدًّا» إن بليغ «عنده صَمَم لغير ألحانه، فهو لا يحس بجمال غيره ولا يريد أن يحس بهذا الجمال، وإذا ما مدحته في حضوره انتفخ كالديك الرومي وقال من غير أن يقول: هل من مزيد. بليغ ليس فيه خجل الفنان الكبير».
عبد الوهاب أكثر ملحن حاول تقليد بليغ كي يصل إلى الناس بسرعة مثله، لكنه استغرب الجمل اللحنية التي يأتي بها بليغ، فيقول في نفس الكتاب: «بليغ حمدي ملحن موهوب، لماح، وهو يوحَى إليه بجُمَل على مستوى رفيع من الجمال، وعندما يعثر على جملة جميلة يستطيع بذكائه أن يستغلها أكبر استغلال، فهو يلح عليها ويعيدها ويبرزها ويعصرها عصرًا، حتى يلفت أذن المستمع إليها فيصادقها ويحفظها».
كتب عبد الوهاب أيضًا مقالًا بصياغة الصحفي محمود عوض عام 1986، دافع فيه عن بليغ بعد اتهامه في قضية مقتل (أو انتحار) المطربة المغربية سميرة مليان في شقته، وكان المقال بعنوان «أنني أشكو الصحافة للصحافة».
هكذا يفعل دائمًا عبد الوهاب، يضمِّن كلماته أكثر من معنى. عندما نبحث عن ما قاله عن السنباطي سنجده يصفه في حوار مع التلفزيون السوري بأنه يرتدي طربوشًا وهيئته قديمة، لكن في نفس الوقت تحترمه، ويوضح أن السنباطي يُعتبر ابنًا من أبناء المدرسة الوهابية في التلحين، وتجده في كتابه يتحدث عن قيمته ومهارته في تلحين القفلة الموسيقية.
اقرأ أيضًا: كيف نجا محمد عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟
لكلٍّ من السنباطي وبليغ دوره المهم في تاريخ الموسيقى. أسهَم رياض دون شك في تأكيد خصوصية الأغنية المصرية، ويكفي أنه أحد أهم أضلاع تكوين الأغنية الكلثومية بكل ما تحمل من قيمة فنية وجماهيرية، وأيضًا لبليغ دور مهم في تطوير شكل الأغنية وطرق الغناء، وإعادة تقديم الفلكلور بشكل جديد وجميل. كان بليغ حمدي سببًا في ظهور حميد الشاعري، فحميد ما هو إلا امتداد لفكرة بليغ الموسيقية، الوصول إلى الناس، جملة موسيقية بسيطة، عدم الاهتمام بالكلمة في أوقات كثيرة، التركيز على الجملة الموسيقية وتوزيعها، اكتشاف وتقديم أصوات جديدة.