السنباطي بعد أم كلثوم: نحات أصيل وتماثيل مقلدة

كريم جمال
نشر في 2018/10/13

 فرضت وفاة أم كلثوم عام 1975 عدة تساؤلات حول مصير الأغنية العربية، وتساءل المهتمون بشأنها: ماذا بقي من رياض السنباطي، بعدما فض الموت تلك الشراكة التي جمعت بينه وبين صوت أم كلثوم لأكثر من أربعة عقود؟ ظن بعضهم أن الرجل انتهى، حتى إن أحد مذيعي برامج التلفزيون العربي السوري قال ما معناه إن السنباطي مات بموت أم كلثوم.

لكن رياض، الذي مات فعلًا صباح التاسع من سبتمبر 1981، حاول على مدار السنوات الستة الأخيرة من عمره أن يشق طريقًا آخر نحو المستمع العربي، طريقًا يثبت من خلاله أنه باقٍ وأن ألحانه لم تمت، حتى وإن قُدِّر لتلك الألحان أن تعيش في الظل بعيدًا عن شمس الأغنية الكلثومية.

السنباطي مع سعاد محمد: محنة انتظار

في الذكرى الأولى لوفاة أم كلثوم، وحين أراد محرر مجلة «آخر ساعة» إجراء حوار معه عن الواقع الموسيقي، قال رياض: «ليس هناك جديد. أنا حزين للحال الذي وصلت إليه الموسيقى والأغنية العربية»، وفقًا لما ورد في كتاب «السنباطي وجيل العمالقة».

كان السنباطي في تلك المرحلة يبحث عن صوت يستطيع من خلاله توصيل ذراه الموسيقية، ليتجاوز التجربة الكلثومية المشعة التي صاغت ملامح عمره. وربما ما أنجزته المطربة سعاد محمد من توثيق نسختين من موشح «ملا الكاسات» لمحمد عثمان، ودور «أنا هويت وانتهيت» لسيد درويش نهاية الستينيات، جعل السنباطي يؤمن بقدراتها المتعددة، رغم أنه بدأ التلحين لها منذ أول أفلامها عام 1948.

حتى عام 1977، كان السنباطي قد أعطى لسعاد محمد عددًا لا بأس به من أهم ألحانه، مثل قصيدة «إذا الشعب» لأبي القاسم الشابي، التي سبق وغنتها سعاد خلال الثورة الجزائرية بلحن حليم الرومي، وقصيدة «انتظار» من شعر إبراهيم ناجي، التي كان يُعدها رياض لأم كلثوم قبل وفاتها، وراهن على نجاحها كنجاح شقيقتها «الأطلال»، التي غنتها الست في إبريل 1966.

المتأمل في لحن «انتظار» يدرك طموح السنباطي في تجاوز إشكالية «الأطلال» كنموذج للقصيدة السنباطية المتكاملة. لكن طموحه هذا لم يكن كافيًا لتحقيق نجاح يوازي نجاح الأطلال، فالترابط بين جمل «الأطلال» الموسيقية وجمل «انتظار» كان واضحًا. بل إن السنباطي عمد إلى المقام نفسه المستخدَم في «الأطلال»، وهو «راحة الأرواح»، ليؤسس منه مقدمة موسيقية ذات مقاطع مترابطة.

اللافت هو ذلك الاستقرار المقامي الذي لجأ إليه رياض عند تلحين مقطع «أغدًا قلت فعلِّمني اصطبارًا»، فالمقطع كله من مقام «البياتي»، وربما كان هذا على عكس هوى السنباطي، الذي عُرف بنقلاته المقامية المتعددة داخل المقطع الواحد.

تكشف تجربة السنباطي مع ابتسام لطفي وعزيزة جلال وميادة الحناوي عن تحول عميق في نمط الصوت الغنائي المؤدي لألحانه.

لم تنجح سعاد محمد في تجاوز محنة الأداء الكلثومي. فرغم أنها كانت تمتلك حنجرة متكاملة، فإن شخصيتها الغنائية ظلت بعد كل هذه السنوات، لأكثر من ربع قرن، غير قادرة على تخطي تقليد أم كلثوم، فبهتت صورتها أمام الجماهير، وافتقدت امتلاك البصمة المتمردة على أداء قدوتها الأولى.

رغم الحسرة التي أبداها السنباطي على عدم نجاح ذلك اللحن، في لقائه التلفزيوني الثاني في الكويت عام 1980، فإن عمق خيال رياض وأسلوبه الروحاني في ذلك اللحن يشعِرنا بأننا أمام نص موسيقي يجمع بين حالات الحب في عالم المتصوفة ومادية الانتظار، ذلك المزيج الذي تفردت به موسيقاه على جميع أقرانه، بما فيهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

السنباطي مع ميادة الحناوي وأخريات: أصوات الذاكرة العابرة

تكشف لنا قراءة تجربة المطربات ابتسام لطفي وعزيزة جلال وميادة الحناوي مع السنباطي عن تحول عميق في نمط الصوت الغنائي المؤدي لألحانه. فتلك الأصوات بقدراتها الطربية حاولت تكريس مفهوم الطرب التعبيري بديلًا عن الطرب الكلاسيكي، وهو ما تقبله السنباطي، وحاول على أساسه استيعاب تلك التجارب الغنائية العابرة، وإعادة هيكلتها للتكيف مع مفهومه عن الغناء العربي.

ابتسام لطفي، الحاملة لتراث الحجاز الغنائي، التي تمكنت من تطويع صوتها لألحان خليجية ذات مساحات نغمية واسعة، توجت مسيرتها الغنائية القصيرة بقصيدة «ردك الله سالمًا»، من ألحان رياض السنباطي وشعر أحمد رامي، وبذلت جهدًا مضاعفًا لتشكيل نموذج جديد للقصيدة ذات الثقافات المتعددة، المتجاوزة لنموذج القصيدة الكلثومية.

أما عزيزة جلال، فحين غنت ألحان السنباطي قطعت على نفسها مسافة كبرى في تشكيل هويتها الغنائية. فبعد أن هذب رياض مخارج ألفاظها وأبرز المقامات في صوتها، غنت من ألحانه ثلاث قصائد: «والتقينا» و«الزمزمية» و«من أنا؟»، ومونولوج وحيد هو «زي ما إنت»، فحلقت في سماوات السنباطي، خصوصًا في قصيدة «من أنا؟»، التي صاغها رياض بمقدمة هادئة ولوازم موسيقية غنية، جعلت المستمع يستدعي من الذاكرة لحن قصيدة «أقبل الليل» لأم كلثوم.

في عام 1980، سجلت ميادة الحناوي قصيدة السنباطي «أشواق»، التي سبق وغناها هو عام 1969، فاستعادت القصيدة ذروتها الغنائية عبر نموذج صوتي مختلف عن نموذج رياض.

«أشواق» قمة غنائية متجاوزة لكل أشكال القصيدة العربية المغناة وأنماطها. وربما أهم ما يميزها احتواء المقدمة الموسيقية على حوارية شديدة التفرد في الغناء العربي. فهي تحمل مستويين من الأداء: الأول بين العود والأوركسترا، والثاني بين العود وذاته، ما يسمح لنا بأن نضع تلك المقدمة ضمن حدود قالب «الكونشرتو» (حوار بين آلة وأوركسترا).

تتتابع أجزاء القصيدة في حركة درامية من مقام «النهاوند» في البداية إلى «البياتي» في المقطع الثاني. يسيطر «البياتي» على منتصف القصيدة، ثم ينعطف على عدة مقامات منها «الحجاز كار»، ليعود مرةً أخرى مستقرًّا على مقام النهاوند.

بعد انفصال فيروز عن الرحبانية، حاولت تجاوز الحصار الموسيقي الرحباني وإعادة تلوين نفسها، فبادرت بالاتصال بالسنباطي.

يصل السنباطي إلى قمة البلاغة الموسيقية في تلحين مقطع «وإذا بي قد خِلتُ منك يميني، وانطوى ما كان من صفو الليالي»، فالتحويلة الموسيقية إلى مقام «الراست» كانت أبلغ ما يكون، للدلالة على تحول المشهد القائم على الحلم إلى مشهد قاتم وواقعي.

أثمر غناء ميادة لحن «أشواق» عن اقتناع السنباطي بصوتها، فلحن لها خصيصًا أغنية «ساعة زمن»، وأرسلها إليها بصوته، ومع اللحن رسالة يقول فيها: «ساعة زمن أصعب لحن، أمتع لحن، أجمل كلام ومعنى، بحسب كتاب «السنباطي وجيل العمالقة».

السنباطي مع فيروز: كرحيل أشرعة دون شطآن

منذ بدايته، عمل المشروع الموسيقي عند الأخوين رحباني وفيروز على تأسيس هوية غنائية مستقلة في مواجهة الهوية المصرية، التي طغت على الوعي العربي بما تملكه من أصوات وملحنين وإذاعات.

بالتالي جاء التعاون مع محمد عبد الوهاب ضمن أضيق الحدود، وتحت إشراف عاصي الرحباني، الذي وقف ضد أي حضور متزايد لعبد الوهاب، خصوصًا بعد لحن قصيدة «مُرَّ بي» عام 1968، التي حملت مساحات من التطريب والأداء الغنائي المصري، وهو ما عبر عنه عاصي في حديث إذاعي مع وجدي الحكيم، قال فيه إن «مُر بي» لُحنت علي نهج ألحان عبد الوهاب القديمة، لكن بصياغة حديثة.

في عام 1979، وبعد انفصال فيروز عن الرحبانية، حاولت تجاوز الحصار الموسيقي الرحباني وإعادة تلوين مضمونها الغنائي، فبادرت بالاتصال بالسنباطي لدراسة التعاون بينهما، وأرسلت له قصيدتين من شعر جوزيف حرب، هما «أمشي إليك» و«بيني وبينك خمرة وأغاني». 

سارع السنباطي إلى تلحينهما، بل اختار قصيدة ثالثة من شعر عبد الوهاب محمد هي «آه لو تدري بحالي»، وأرسل الأشرطة إلى فيروز لتدرس الألحان.

وفي إبريل 1980، وصل رياض إلى بيروت ليجد في استقباله في المطار فيروز. وبعد لقائه الأول بها قال: «ما تبقى من عمري لفيروز».

في يوم السبت 26 إبريل 1980، عقد السنباطي مؤتمرًا صحفيًّا في فندق «بريستول»، وأعلن عن تعاونه القادم مع السيدة فيروز، وأكد أن تسجيل القصائد سيكون في صيف 1980. وينقل كتاب «السنباطي وجيل العمالقة» أنه حين سئل عن بروفاته مع فيروز أجاب: «في الأيام الخمسة التي أمضيتها في بيروت، كنا نجلس معًا يوميًّا جلستين من العاشرة صباحًا إلى الثانية، ومن الخامسة والنصف أو السادسة حتى التاسعة».

عاد السنباطي إلى القاهرة، وأعطى الألحان لميشيل المصري ليدونها نوتة، لكن الحرب في لبنان وموت السنباطي حالا دون إتمام المشروع، ولا يزال الغموض يحيط بمصير القصائد الثلاثة، ويبقى ما حدث قابلًا لتأويلات عدة. لكن الأكيد أن فيروز سجلت القصائد عام 1983 تحت إشراف الموسيقار وليد غلمية، ويدعم ذلك اليقين مقطع صغير قدمته فيروز من تسجيل «أمشي إليك»، في مقابلة إذاعية أجريت في أغسطس 1983.

في صيف 1989، سئلت فيروز في إحدى المقابلات عن مصير قصائدها السنباطية، فقالت: «كنت قد سجلتهما بالفعل، ثم مر وقت. بعد ذلك استمعت إليهما فلم تعجبني الصورة التي هما عليها، لذلك فكرت في إرجاء تقديمهما حتى أقدمهما بالصورة اللائقة».

رغم الإشارات الكثيرة إلى أنها أعادت التسجيل في نهاية التسعينيات تحت إشراف الملحن توفيق الباشا، فإن تلك الأخبار غير مؤكدة. فالمقدرة الصوتية عند فيروز نهاية التسعينيات لم تكن تسمح لها بأداء قصائد بتلك المساحات النغمية الواسعة.

المتأمل في لحن «لا تقل ضاع حبي» لا يمكنه إلا أن يقف مذهولًا أمام 3 ذروات موسيقية في هيكل القصيدة اللحني.

ربما إذا أمعنا النظر في تسجيلات السنباطي لتلك الألحان على العود نكتشف أنها تحمل تصورًا جديدًا لصوت فيروز، وربما تعبيرًا متفردًا لنص شعري مختلف عن عوالم السنباطي السابقة. فمثلًا، لحن «بيني وبينك» على شكل لوحة موسيقية يتكاثف فيها الشعور الصوفي بين السكون والحيوية، وهو ما يختلف عن صياغات موسيقى المؤسسة الرحبانية. حاول السنباطي أن يجتذب فيروز إليه، ويفتح في صوتها آفاقًا جديدة تخلصها من الحصار الغنائي الرحباني.

السنباطي مع وردة: وجه جديد لماضٍ قلق

بين عامي 1960 و1963، قدمت وردة الجزائرية ثمانية أغنيات من تلحين رياض السنباطي، آخرها وأهمها «لعبة الأيام»، التي سجلتها في بدايات 1963 قبيل عودتها الطويلة إلى الجزائر.

ورغم المقدرة التي أظهرتها وردة في حشد قدراتها الصوتية والتعبيرية في أداء «لعبة الأيام»، ظل السنباطي يرى أن وردة، على أهمية صوتها، ما زالت غير قادرة على ترويض القوة في حنجرتها، وفقًا لـ«السنباطي وجيل العمالقة».

في نهاية السبعينيات، وبعد نجاح وردة مع عبد الوهاب في «في يوم وليلة»، التفتت إلى رياض، الذي بدأ فعلًا في تلحين قصيدة «لا تقل ضاع حبي» للشاعر إبراهيم عيسى، بعد أن قرأها في جريدة «الأهرام» واستأذن شاعرها. ورغم تَمنُّع السنباطي في إعطاء اللحن لوردة، ألحت عليه وطلبت من الأمير عبد الله الفصيل التوسط، فقبل رياض وبدأ العمل على القصيدة.

استغرق تلحين القصيدة عامًا كاملًا، وغنتها وردة للمرة الأولى في إبريل 1980. ومن الملاحَظ أن السنباطي طوَّع صوتها وجعله لينًا كما ينبغي، وهو ما أدركه محمد عبد الوهاب لاحقًا عندما لحن لوردة أغنية «أنده عليك».

المتأمل في لحن قصيدة «لا تقل ضاع حبي» لا يمكنه بحال من الأحوال إلا أن يقف مذهولًا أمام ثلاث ذروات موسيقية في هيكل القصيدة اللحني: أولها المقدمة الموسيقية التي استهلها السنباطي بلحن مرسَل دون إيقاعات، أو ما يعرف بـ«الأدليب»، ما أعطى مضمون النص عمقًا وتكثيفًا شعوريًّا شديد التأثير. أما حركة الوتريات المتقطعة في البداية، والصولوهات المتعددة بين الناي والأورغ والقانون، فجاءت حوارًا دراميًّا بين الآلات والأوركسترا. وحتى حركة الإيقاعات الأخاذة في المقدمة بعد الدخلة المرسَلة جعلتها تمتلئ بتنويعات إيقاعية، وتغنيها بروافد جمالية تسمو بها فوق أي مقدمة موسيقية للسنباطي في تلك المرحلة.

أما الذروة الثانية فتتمثل في المقطع الثاني من القصيدة: «كم ملأنا زورق الليل حنينا»، فتكوينه الموسيقي من مقام «البياتي» يضعنا داخل مشهد مليء بالشجن، وهو ما مهد له عزف الناي المنفرد في مقدمة المقطع. يتغير هنا الإيقاع إلى «مقسوم»، والجملة الشعرية تصور الفرحة ولحنها الراقص. ثم يعرِّج على «الصبا»، ويظل معه حتى جملة «بعد أن جُن اللظى في شفتينا»، لنجد أنفسنا فى مقام مختلف هو «النوا أثر»، الذي يتركه سريعًا ليعود إلى «النهاوند»، المقام الرئيسي للقصيدة، عند مقطع «لا علينا إن ظمئنا فارتوينا»، وينتهي الكوبليه.

تظهر الذروة الثالثة في المشهد الختامي للقصيدة، وهو مشهد ذو انفعالات واضحة. فمن مقام «البياتي» تغني وردة «آه من قلب بأشواقك تغني» غناءً حرًّا دون إيقاع. وربما يضفي بداية المقطع بالتأوه تصويرًا لحالة النزف الروحي داخل النص. لذا نرى السنباطي يكرر «الآه» عدة مرات ليكون تأثيرها أكبر، ثم يستغل الآسى في مقطع «ثم أخفيت دموعي وجراحي» ليعود إلى مقام «النهاوند»، لتنتهي القصيدة من جوابه، أي من طبقته العالية.

أكدت قصيدة «يا حبيبي لا تقل ضاع حبي» قدرة وردة على تجاوز ماضيها القلِق مع ألحان السنباطي، لكنها أيضًا أثبتت إشكالية عدم قدرة السنباطي على تخطي لغته الموسيقية، وملامح أغنيته المسرحية التي تفردت بها أم كلثوم طوال أربعة عقود.

التجربة «الكلثوسنباطية» كانت وستظل تاريخًا مشعًّا، تكونت على أساسه جذور الغناء المسرحي في الذاكرة العربية، ورُسِمت من خلاله ملامح تجربة رياض السنباطي، حتى وإن حاول أن يعيش بعد أم كلثوم عمرًا آخر.


هذا الموضوع يحكي ما فعله السنباطي بعد وفاة أم كلثوم. يمكنك القراءة عن ألحان رياض مع الست في هذا الموضوع.

مواضيع مشابهة