في محاضرته بعنوان «إلحاح الحرف في اللاوعي» (1957)، يسرد المحلل النفسي الفرنسي «جاك لاكان» قصة طفلين، ولد وبنت، يستقلان قطارًا ويجلسان قبالة بعضهما. يتوقف القطار في محطة، وعلى بناية قريبة لافتتان، إحداهما لمدخل السيدات والأخرى للسادة. كلٌّ حسب زاويته يرى لافتة واحدة، الأمر الذي يفضي إلى جدال بينهما حول ما هو موجود على الجانب الآخر من النافذة. يقول لاكان معلقًا: «من هذه اللحظة فصاعدًا ستكون "السيدات" و"السادة" بالنسبة للطفلين دولتين تسعى روح كل منهما نحوها بأجنحة مختلفة، وسيكون توقف العداوات بينهما أكثر استحالة، بما أنهما في الحقيقة نفس الدولة ولا تستطيع إحداهما المساومة على تفوقها دون الانتقاص من مجد الأخرى».
من بين الاستدلالات العميقة المترتبة على هذه القصة، نرى كيف تسهم اللغة في فرض وتشكيل الواقع المعاش للأفراد، بانقساماته وصراعاته، بطموحاته وأوهامه. ولنكون أكثر دقة، نحن نتحدث عن الدلالات والتمثيلات التي تدعي أنها تعكس شيئًا موضوعيًا وكونيًا، أو «الأشياء كما هي»، سواء كانت صادقة في ادعائها أم لا (كيف لنا أن نعرف؟).
قد أكون مخطئًا، إلا أنني في هذه اللحظة أتصور عملية الإنتاج الفني، بمختلف تمثيلاته، شريكة في خلق الواقع. بل إن الأمر أشبه بساحة تتنافس فيها التمثيلات على امتداد تاريخها على حصتها من تجربتنا المعاشة، صراع في خضمه تعيد تمثيلات كتابة تمثيلات أخرى، فنرى على سبيل المثال محمود درويش يأتي بعد أكثر من ألفي عام ليعيد كتابة شيء من «الأوديسة»، ليقول: «لو كنتِ أصغر من رحلتي هذه، لاكتفيتُ بتحوير آخر فصل من المشهد الهومري...». ولعل إعادة تشكيل الدلالة تعيد تشكيل شيء من الواقع. وهكذا، كشاعر، يخلق مساحة له في واقع ضاق عليه، مساحة يكون فيها ما هو كائنه، ويصير ما يصير.
وكما أن هذه العملية ممتدة عبر التاريخ، فإنها قائمة في كل مكان، بما في ذلك الكويت. في ضوء ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما موقع الأعمال الفنية الكويتية في معادلة صناعة وتشكيل الواقع المعاش للأفراد؟ هل نشهد إعادة صياغة للدلالة تترتب عليها إعادة تشكيل للواقع، أم أن الإنتاج الفني في الكويت يعيد إنتاج الواقع ذاته ليديمه؟
«جاسم باق الشركة»: القوى المهيمنة
عن دور النتاجات الفنية في تشكيل الواقع المعاش في السياق الكويتي، يرى الكاتب حسين المطوع أن للفنون الشعبية النصيب الأكبر، إن لم يكن الحصري، في هذه العملية، إذ لا تزال آداب وفنون النخبة تعاني القطيعة مع مجتمعها.
وعن ذلك يقول المطوع لـ«منشور»: «الفن الشعبي تكريس للواقع القائم، ولا يهدف إلى كسره، والسبب وراء ذلك الرقابة. حين غابت الحريات، وتم حظر المواضيع السياسية والقضايا الإنسانية الحساسة وغيرها من الطرح في المسرح والتلفزيون، لم يتبق إلا المواضيع السطحية التي تتحرك في المناطق المستهلكة، بل وحتى هذه المواضيع تُنقح وتُصفى بما يناسب مسطرة الرقيب. وكانت واحدة من الملامح الواضحة لهذا الضغط الرقابي في بداياته تغيير عنوان مسرحية "بشت الوزير" إلى "بشت المدير"».
يستشهد المطوع على تعليقه بالنكتة المتداولة «جاسم باق الشركة»، والتي تتهكم على المسلسلات الكويتية بصفتها تدور في نفس دائرة الحبكة المستهلكة في المسلسلات التلفزيونية التي يلجأ لها كتاب المسلسلات، والاشتغال على منطقة آمنة تعنى بهموم الطبقة الغنية في الكويت، وذلك لأن الكُتاب مقيدون عن الكتابة في ما هو ذي قيمة أو عمق.
للمطوع تجربة في هذا المجال مع صديقه الشاعر العراقي محمد العتابي، إذ كتبا مسلسلًا يخرج عن القوالب المعتادة وعرضاه على عدة شركات إنتاج فحاز إعجابهم جميعًا، بيد أنهم اعتذروا عن إنتاجه خوفًا من منع الرقابة لعرضه في الكويت، أو محاسبتهم قانونيًا لو لجأوا لتصويره خارج البلاد.
من خلال ضبط عملية الإنتاج الفني بهذا الشكل، يمكن القول بأن الرقابة في الكويت تكرر إنتاج ذات الدلالات والتمثيلات، والتي بدورها تعيد إنتاج الواقع القائم، وبالتالي تديمه. إلا أن العملية تحكمها أيضًا متطلبات السوق، حسب ما يراه المطوع، والتي تتكيف مع سياسات الدولة لتشق طريقها نحو الربح. عن ذلك يؤكد المطوع أن للإعلانات الترويجية سطوة تأثيرية شديدة لرسم ثقافة الشعب وتوجيهها، ويستحضر من ذلك إعلان بنك الائتمان «أتمنى بيتًا صغيرًا»، والذي تزامن مع خطاب التقشف و«انتهاء دولة الرفاه» من قبل الدولة آنذاك.
«تستغرب في البداية كيف لجهة مالية يقوم أساسها الربحي على زيادة مبالغ الاقتراض أن تدعو الناس إلى التقتير في مصاريفهم من خلال رمزية "البيت الصغير"، لكن ما أن تربط الإعلان بسياسة الدولة حينها تدرك أن القوة الإعلامية للإعلانات لها أبعاد أكبر من مجرد الترويج لمنتج»، حسبما يقول المطوع.
وهذا التكافل الملموس بين سياسات الدولة ومتطلبات السوق هو ما يقف في طريق إنتاج فنون نوعية قد تتحدى الواقع القائم وتسعى لتغييره، واقع «التفاهة واللاقيمة، الآتية في معظمها من الاستعمار الثقافي الأمريكي الجديد»، كما يصفه.
«بُم»: أفول المسرح النوعي
ذات القوى المذكورة أعلاه، الرقابة ومتطلبات السوق، طالت أيضًا النتاج المسرحي في الكويت. وفقًا لما تراه الباحثة مريم المحميد، فإن السياق الكويتي لا يفتقر إلى أنواع مغايرة من النتاج المسرحي، والتي قد تسهم في تشكيل واقع الأفراد والمجتمع ككل في اتجاهات إيجابية، خصوصًا أن الإرث والسوابق موجودة، إلا أن الرقابة تقف في الطريق.
التسويق لمسرحيات الأطفال يكون من خلال النجوم، والنصوص غير جادة، الفارغة والخالية من القيم.
لـ«منشور» تذكر المحميد مسرح صقر الرشود مثالًا على نتاج فني نوعي يجابه الواقع: «ما كان يميز مسرح الرشود أنه كان مسرحًا نوعيًا، بملامح فنتازية وعناصر من مسرح "برتولت بريخت"، وفي نفس الوقت يحضره جمهور من العامة». كان الرشود يركز على قضايا سياسية واجتماعية، ولا يغيب نقد التضييق على الصحافة والإعلام عن مسرحه، كل ذلك في قالب كوميدي مختلف وفريد من نوعه.
وعن نوعية المسرح الذي كان يقدمه، تقول المحميد: «كان الرشود يستخدم "التغريب" ليلفت انتباه المشاهد: إذا رأى المشاهد عنصرًا جديدًا في المسرحية فإنه سيخرج من سياقه، ويرى نفسه وهو يشاهد المسرحية، وبغير ذلك سيدخل المشاهد المسرح فقط لينسى حياته خارجه». على أن هذا «التغريب» هو أداة لنقد الواقع القائم والحث باتجاه تغييره للأفضل.
إلا أن المسرح النوعي بدأ في الأفول حتى اختفى من المشهد الكويتي، تزامنًا مع طغيان المسرح التجاري منذ بداية التسعينيات. تقول المحميد: «ليس التغيير هَمَّ المسرح التجاري، ورأس المال هو ما يوجه عملية الإنتاج. لو أخذنا مسرحيات الأطفال على سبيل المثال، فإننا نرى أن التسويق للمسرحية يكون من خلال النجوم، والنصوص غير جادة، بل هي فارغة وخالية من القيم، وهذا الفراغ هو ما يعزز الواقع القائم». تذكر المحميد أن ذات الشيء ينطبق على مسرحيات البالغين: «الفراغ غيّب الجمهور وخدّره»، وكل ذلك في ظل غياب دعم جاد من قبل الدولة لحركة ثقافية موجهة للعامة من الناس، بالإضافة إلى انعدام التفكير النقدي في المناهج الدراسية، والنتيجة هي «مجتمع منغلق».
«هزمتْكَ يا موتُ الأغاني»: الواقعية السحرية كمخرج
ثمة مساحة للحياة، وسبيلنا لها كما ترى الشاعرة والباحثة دلال البارود، هو الواقعية السحرية: النوع الفني الذي يتضمن عناصر خارقة للطبيعة، إلا أنه ينزل بها للمستوى الطبيعي، فتكون مقبولة من قبل شخصيات العمل الفني.
«الكل يشتكي التكرار الآن»، تقول البارود لـ«منشور»، مضيفة: «لن تستطيع الإتيان بجديد سوى عن طريق الخيال». تستشهد بمسلسل «The Boys»، والذي تدور أحداثه حول مجموعة من الأبطال الخارقين، إلا أنه أقرب إلى الواقعية السحرية كنوع فني من أعمال «مارفل»، الأمر الذي يمكّن العمل من انتقاد الرأسمالية بشتى تجلياتها وانعكاساتها على الواقع المعاش».
ترى البارود أننا نفتقر لهذا النوع الفني في الوطن العربي عمومًا، وفي الكويت خصوصًا. الأمثلة شحيحة، كالرواية العراقية «فرانكشتاين في بغداد» للكاتب أحمد سعداوي، وفي الكويت شهدت البارود حالة واحدة، وهي الكاتب المسرحي عثمان الشطي وأعماله في مجال مسرح الطفل، كمسرحيتي «الفيران» و«الخفافيش» وغيرها: «الخيال في هكذا نتاج غني بالإسقاطات على عدة قضايا اجتماعية، مثل العنصرية والطبقية وغيرها، وينطوي على نقد لواقع أليم من خلال الرمزية، في ظل الرقابة القائمة، نحن أحوج ما نكون لمثل هذه الأعمال، و«نحتاج إلى الواقعية السحرية الآن أكثر من أي وقت مضى».
من خلال عوالم متخيلة قد تبدو بعيدة كل البعد عن واقعنا، يمكن للواقعية السحرية مجابهة الواقع، ونقده، وتعريته، لنصنع به، وبأنفسنا، ما نريد.
لكن لماذا الواقعية السحرية بالذات؟ إلى جانب حب البارود للرمزية، فهي ترى أن الواقعية السحرية سبيل جيد للتنصل من الرقابة. هي أيضا جذابة للناشئة، الفئة المهمَلة إلى حد كبير في نتاجنا الأدبي المحلي، فما يُنشر هو إما موجه للأطفال أو البالغين.
البارود أيضًا من المؤمنين دائمًا بالمشاغبة، وحول ذلك تقول: «عندما قُتِّل الصوفيون على يد السلطة، لجأوا إلى الترميز لتجنب مصير الحلاج»، مضيفة أن «الرقابة في عالمنا العربي قديمة منذ الأزل، وفي الوقت الحالي، لا مناص منها». غير أن المخرج في متناول اليد: «الرقابة تصطاد المباشر، لكنها ليست على قدر من الذكاء يمكنها من اصطياد الرمز».
وهكذا، من خلال عوالم متخيلة قد تبدو بعيدة كل البعد عن واقعنا، يمكن للواقعية السحرية مجابهة هذا الواقع، ونقده، وتعريته، لنصنع به، وبأنفسنا، ما نريد.
«الأشياء تتداعى»: تعليقات ختامية
عندما كتب الروائي النيجيري «تشينوا أتشيبي» روايته «الأشياء تتداعى» عام 1962، كانت، على الأقل جزئيًا، ردًا على رواية البولندي «جوزيف كونراد» التي تحمل اسم «قلب الظلام» والمكتوبة عام 1902، والتي اعتبرها أتشيبي، كما اعتبر كاتبها، عنصرية.
اقتبس أتشيبي عنوان روايته من قصيدة «المجيء الثاني» للشاعر الأيرلندي الوطني «ويليام بتلر ييتس»، والتي كتبها عام 1919. ثم جاء الروائي السوداني الطيب صالح برواية «موسم الهجرة إلى الشمال» عام 1966، ليدخل أيضًا في هذا الخطاب المناهض للاستعمار وما بعد الاستعماري.
لكن بعيدًا عن هذا الخطاب، ما أعني الإشارة إليه هو أننا نعيش في مرحلة زمنية نعي فيها هشاشة المركز، وأننا نمتلك أدوات تفكيكه. القوة ما عادت في مكان واحد، والواقع يُعاد تشكيله باستمرار من خلال إعادة تشكيل الدلالة، في النتاجات الفنية وغيرها. وكما أن المركز هش على الصعيد العالمي، فهو أيضا هش على الأصعدة المحلية. كل ما يتعين علينا فعله هو أن نعبُر من الهامش إلى المتن، ونعيد الكتابة كما نريد.