«امرأة يهودية وزنجي، يا له من مشهد حزين».
كانت هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها عيناي على الكاتب والممثل الشهير «راي مكينون»، عندما ظهر في مشهد لم يستغرق سوى دقيقتين في فيلم «Driving Miss Daisy» في دور شرطي يضايق هو وزميله على سائق أسود البشرة والسيدة اليهودية التي يعمل لديها، فيوقف سيارتهما ويتفحص هوياتهما بارتياب قبل أن يدعهما يستكملان طريقهما، وينظر إلى السيارة في تأمل وهي تبتعد، ثم يلتفت إلى صديقه ويقول الجملة السابقة.
ليس سببًا قويًّا لأن تتبع مسيرة ممثل بالطبع، لكنه بدا كذلك بالنسبة إليَّ، فوجدت نفسي أبحث عن تاريخ هذا الوجه الساخر المتأمل لأكتشف أن من كان «كومبارس»، إن جاز التعبير، في عام 1989 أصبح في ما بعد ممثلًا ذا شهرة نسبية، وربما واحدًا من أفضل الكُتَّاب على الإطلاق.
يرتبط اسمه عند متابعي المسلسلات بمسلسل «Rectify» أي (المُصحِح/التصحيح)، الذي يستعرض فيه رحلة رجل يُدعى «دانييل هولدن» حُكِمَ عليه بالإعدام وعمره 18 عامًا، بعد اتهامه باغتصاب خليلته «هانا دين» التي تصغره بعامين وقتلها، وقضى في الحبس الانفرادي 19 عامًا، وكادت تُطبَّق عليه العقوبة خمس مرات، وفي كل مرة كان يوقف الحكم بضغط من شقيقه «أمانثا هولدن» ومحاميه «جون ستيرن»، اللذين ناشدا وسائل الإعلام والصحافة للضغط على مكتب التحقيقات لإعادة فتح القضية والتحقيق فيها.
بعد 19 عامًا، وبعد أن ضاع كثير من الأدلة وأُتلِفَ بعضها عن عمد، تظهر نتيجة الحمض النووي لتُبرئ دانييل من تهمة الاغتصاب، ليخرج من السجن ولا تسقط عنه العقوبة، لكنه فقط يُصبح مشتبهًا به بعد أن كان الجاني الوحيد.
يستعرض المسلسل رحلة دانييل التطهيرية التي تُشبه رحلة «دانتي» في «الكوميديا الإلهية»، لا نشهد فيه على رحلته في الجحيم إلا عندما يسترجع مشاهد من الماضي، لا نشهد أيضًا على ارتقائه الفردوس، لكننا نخوض معه رحلته في «المطهر»، التي دامت أربعة أجزاء كما دامت في ملهاة دانتي أربعة أيام.
الحقيقة كوسيلة، وليست غاية
كل أفعال دانييل تدل على صراع كبير داخله، رغبة في تعويض سنوات عزلته، رغبة في الاختباء في المساحات الضيقة التي لم يعرف غيرها في السجن.
في أغلب المسلسلات التي تستعرض قصة مماثلة يكون التركيز الأكبر على إظهار حقيقة البطل، وإلى أي جانب تميل نفسه، الخير أم إلى الشر، وحينها يتوجب على كاتب المسلسل أن يخبر الجمهور بالقاتل الحقيقي في النهاية إن لم يكن البطل نفسه، لذا يأخذ المسلسل بشكل ما طابعًا بوليسيًّا، ويقتصر على كونه رحلة تشويقية أهم ما يميزها ذكاء المحقق الحاد في مواجهة دهاء المجرم، ومن سينتصر في النهاية، أو هل يسقط الاثنان معًا وتبقى الحقيقة وسيرة البطل الذي ضحى بنفسه بغاية الوصول إليها.
عندما تُرشح مسلسلًا مُشابهًا لأحد أصدقائك تجد نفسك مُجبرًا على عدم إخباره بنهايته، لأنك حينها ستفسد عليه مشاهدته، أو «ستحرقه» بلغة متابعي المسلسلات. لكن في مسلسل «Rectify» لا تكون مُضطرًّا لفعل ذلك، بكل بساطة لأنه لم يُكتَب لهذه الغاية، غاية كشف الحقيقة. ودانييل لا يتذكر بصدق إن كان قد ارتكب الجريمة أم لا، وسيظل على هذه الحال حتى النهاية. لذا، فبعد خروجه من الجحيم (الحبس الانفرادي)، سيخوض رحلة تبدأ بالارتباك والشعور بعدم الاستحقاق، وصراع بين جوعه للحياة بكل مباهجها، وانسحاقه أمام حقيقة أنه ربما يكون قد أزهق روحًا كان لديها أيضًا شغف مماثل بهذه الحياة.
يستعيد غرفته القديمة، ويخرج فقط ليستلقي على العشب ناظرًا إلى السماء مستمتعًا بأشعة الشمس على وجهه، ويتسوق وحده، وينبهر بألواح الحلوى الجديدة، ويتساءل بحذر إن كان مطعمه المفضل لا يزال مفتوحًا، ويُلقي النكات، ثم يبتلعها سريعًا دون سبب، ويخرج من بيت أسرته ويغيب ليوم أو أكثر حتى تكاد تقسم إنه لن يعود أبدًا، وعندما يعود يختبئ في حجرته أيضًا ليوم أو أكثر. كل أفعاله تدل على صراع كبير يدور بداخله، رغبة في تعويض كل ما فاته في سنوات عزلته القاسية، وأيضًا رغبة في الاختباء في المساحات الضيقة التي لم يعرف غيرها منذ أن كان في الثامنة عشرة.
يحاول قدر الإمكان أن يظل متماسكًا أمام أسرته، ثم تنهمر دموعه فجأة بمجرد مواجهته شيئًا جميلًا. يتحدث كثيرًا ولا يقول شيئًا، تُربكه الكيفية التي يمر بها الزمن عليه خارج السجن، فيطلب من أمه أن تخبره عندما يحين موعد رحيله، إذ تمر عليه لحظات يعتقد فيها أنه لم يغادر منزله سوى بضعة أيام فقط، وأنه ما زال مراهقًا، وأحيانًا أخرى يشعر بأنه لم يعرف مكانًا في حياته سوى زنزانته الضيقة ووحدته فيها. يتنقل وسط الناس في فقاعة تحميه من نظراتهم الخائفة المليئة بالكره والحذر والاحتقار، فتصبح حريته عبئًا عليه، وتبدو أنها كذلك أيضًا لكل من حوله.
قد يهمك أيضًا: لِمَ علينا، دائمًا وأبدًا، أن نقاوم؟
لأني أعرفك، لأني أعرفك
تؤمن أخته بأنه لم يرتكب الجريمة لأنها تعرفه جيدًا، وكذلك والدته التي عقدت عليه آمالًا كثيرة، وتنبأت له بأنه قد يكون كاتبًا في أحد الأيام، ويشعر صديقه القديم «ميلفن» بالأسى من أجله، ويقرأ كثيرًا عن تأثير «الحبس الانفرادي» على نفسية السُجناء ليتقمص عاطفيًّا ما مر به صديقه من ألم، وليعرف بدقة هويته الجديدة. إضافة إلى أنه سيكون لميلفن سبب بريء لتأكده من أن صديقه غير قادر على إيذاء أي مخلوق. فعندما كان يضطر ميلفن للسفر مع أسرته، كان يترك سلاحفه الصغيرة في رعاية دانييل الذي كان يعتني بها إلى حين عودة صديقه.
يخنق دانييل ابن زوج أمه الذي يسخر منه، لكنه لا يقتله بل يُفقده وعيه فقط، ونكتشف أنها حيلة تعلَّمها في السجن.
أما «جون ستيرن» محامي دانييل، فلديه أسباب أخرى أكثر منطقية لإيمانه ببراءة موكله، أهم هذه الأسباب أنه يعلم جيدًا بحكم عمله عن فساد منظومة العدالة، وعن كون هذا الفساد هو القاعدة، وليس ما يشذ عنها حقًّا، وعن عدد المرات التي لا حصر لها التي أُلصِقت فيها التهم بأناس أبرياء بغرض تحقيق مجد شخصي، أو بالضغط من قوى عليا بضرورة إنهاء التحقيق، أو لتحيزات شخصية.
ما حدث داخل مكتب التحقيقات في ليلة القبض على دانييل يحيط به كثير من الغموض، فالتحقيق استمر 11 ساعة، تعرَّض فيها دانييل لكل وسائل الضغط ليعترف بجريمة لا يتذكر إن كان ارتكبها أم لا، دون إبلاغ أيٍّ من ذويه إلا بعد اعترافه في النهاية، مع خداع السيناتور «رولاند فوكس» له ووعده الزائف باستدعاء والده في حال اعترافه بجريمته.
لكن راي مكينون كاتب المسلسل لا يكشف أوراقه كلها، فيضعنا في حيرة عندما نرى «جون ستيرن» وقد وُضِع في موقف مماثل مع موكل آخر يُدعى «هوليز» اتُّهِم بقتل امرأة عجوز، واستطاع لسنوات أن يتحايل على جميع من حوله بما فيهم جون، ويُقنعهم ببراءته، ويظهر تحليل «DNA» ليكشف كذبه، ويُلطخ مسيرة جون المهنية بدفاعه المستميت عن قاتل مُدان، واحتمالية أن يكون قد تعرَّض مجددًا للخداع من دانييل هولدن، على الأقل في أعين الناس.
كما أن مكينون لا يهمل تأثير السنوات التي قضاها دانييل في السجن، والأهوال التي لاقاها بداخله، بداية من الوحدة وتعرضه للاغتصاب المتكرر من السجناء في أثناء استحمامه، وسكوت الحراس عن هذه الجرائم التي تُرتَكب بحقه، وانتهاءً بفقده لصديقه الوحيد «كيروين»، رفيقه في زنزانته المجاورة الذي كان يحادثه من خلال فتحة صغيرة في زنزانته، فكان حديثهما على مر السنوات أشبه بنوع من الاتصال الداخلي، الاتصال الذي فقده دانييل بعد خسارته لصديقه، فتعرَّض لاكتئاب شديد إلى حين خروجه من السجن.
تقوده هذه الأشياء السابقة إلى ارتكاب جريمة بعد خروجه من السجن بعدة أيام، عندما يخنق «تيدي» ابن زوج أمه، الذي يسخر مما عانى منه في السجن (الاغتصاب تحديدًا). لا يُفضي هذا النوع من «الخنق» إلى الموت، فقط يفصل الدم عن المخ لعدة ثوانٍ، فيفقد الإنسان وعيه لبعض الوقت.
تُربكنا هذه الحادثة، وتجعلنا نميل إلى كون دانييل قاتلًا، لكننا نكتشف في ما بعد أنها شيء تعلَّمه في السجن، ولم يكن يعرفه قبلها، شيء تعرَّض له كثيرًا، فأصبح خبيرًا في الكيفية التي يعمل بها. كان يرغب في أن يُلقن تيدي درسًا قاسيًا، ويوضح له أن هناك أشياء تحدث خارج حدود استيعابه، أشياء لا يعود منها الإنسان كما كان من قبل. يضعنا مكينون في مأزق، فهو لا يقدم إجابة واضحة على سؤال: «هل يُمكنك أن تعرف أحدًا حقًّا؟»، لأن حدس الإنسان قد لا يكون صحيحًا، أو بمعنى أدق في بعض الأوقات لا يكون كافيًا لمعرفة الحقيقة.
اقرأ أيضًا: العنف الأخلاقي: أعداؤنا بشر مثلنا.. ولهذا نقتلهم
نعم، الفن قد يُنقِذ حياتك
دائمًا نستمع إلى هذه العبارة: «هذا الفيلم/الكتاب/المسلسل أنقذ حياتي»، نتقبل المبالغة في هذا التصريح، ونكتفي بالمعنى الذي يختبئ خلفه، وهو أن هذا العمل الفني متقن أو جميل. لكن في حالة دانييل، لا يتضمن تصريحه أي قدر من المبالغة، فالفن بالفعل أنقذه من الوقوع فريسة لليأس والفراغ والجنون.
نتأمل علاقته الوثيقة بالفن عندما يُسافر لأول بعد خروجه من السجن، فقط ليذهب إلى أحد المتاحف ليرى لوحة شاهدها وقرأ عنها في كتاب، يقف أمامها دون تعبير على وجهه، فتقف بجواره سيدة تتأمل اللوحة بإعجاب، ثم تلتفت إليه، وتسأله عن رأيه فيها، فيقول لها إنها المرة الأولى التي يرى فيها اللوحة في الواقع، وأنه ربما بسبب تأمله لها كثيرًا في الكتاب قلل عقله من شأنها، لذا، يقف أمامها الآن شاعرًا بالإحباط.
تدعوه هذه السيدة التي لا تعرف شيئًا عن هويته الحقيقية إلى الجلوس مع أصدقائها لتناول الغداء، فيجلس مُرتبِكًا وتلاحقه السيدات بأسئلة عن حياته تُزيده ارتباكًا، فيضطر لإخفاء هويته الحقيقة بدايةً من اسمه الذي يُغيره إلى «دونالد»، والولاية التي يعيش فيها، وعمله كصاحب مكتبة، ويضطر بسبب التصريح الأخير إلى التظاهر بأنه قرأ بعض الكتب التي تسأل الصديقات عن رأيه فيها، فنشعر بالأسى من أجله، ونتفهم وحدته، والأشياء التي يتعين عليه أن يكون مُدركًا لها حتى يحصل على صديق.
يتزايد هذا الإحساس عندما يبدأ دانييل في تناول غدائه، فيُثني على طعم الخبز، فتتبادل الصديقات النظرات وتسأله إحداهن بدهشة: «خبز البانيني؟»، فيُدرك فورًا أن ما بدا أعجوبة بالنسبة إليه هو شيء عادي في نظر الناس، فيقول: «إنه اليوم طازج على غير المعتاد»، ثم يكرر لنفسه بصوت خافت: «خبز البانيني، خبز البانيني» كمن يتعلم كلمة جديدة في لغة معرفته بها محدودة.
تجد نفسك تبكي في هذا المشهد دون دراما مُفتعلة، وترثى لحال دانييل، وبخاصة عندما يُنقذ نفسه من الأسئلة التي لا يدري لها جوابًا بأن يتحدث عن قصة قصيرة قرأها في ما مضى تُدعى «رصاصة في العقل» للكاتب «توباس وولفز»، فتستنكر إحدى السيدات تذكُّره لهذه القصة: «مجرد قراءتها تجعل المرء حزينًا، ما بالك بتذكرها؟».
يجيب دانييل مُدافعًا عن قصته: «لقد كانت تُهدئني في الحقيقة، لا أعلم سببًا لهذا، لكني قرأتها خلال فترة في حياتي كنت أعاني فيها بعض الصعوبات في التعامل مع مرور الوقت بالمعنى التقليدي، وقصة السيد وولفز القصيرة تتعامل جزئيًّا مع فكرة إحناء الوقت، فبتذكري إياها كنت أحني الوقت أنا نفسي بطريقة ما، أو على الأقل أعيشه بطريقة مختلفة».
قد يهمك أيضًا: تجربة سجن ستانفورد: هل الشر جزء من تكويننا؟
لأننا جميعًا متصلون بطريقة أو بأخرى
توني تتقبل دانييل في عالمها كما تقبَّل المسيح كل الخطائين، أو هكذا تظن، لكنها تكتشف أنها أحبته، وكذلك فعل.
تتقاطع حياة دانييل مع كثير من الناس، فيُصبِح هذا التقاطع نقطة فارقة في حياة كلٍّ منهم.
أخته أمانثا التي وهبت نفسها لخدمة قضيته تُدرِك أخيرًا أنها لا يمكنها حمايته، واتخاذ قرارته، والاهتمام بشؤونه إلى الأبد، وبخاصة بعدما يرفض هذا التدخل، وإن كان ممتنًّا له، وتبدأ في التخلص من كل العلاقات التي كانت تقوم بشكل أساسي على الاهتمام المشترك بقضيته، خصوصًا علاقتها بمحاميه جون ستيرن.
أما والدته التي كانت مُدركه لمدى الضرر الذي أصابه، فإنها تتوقف عن انتظار ابنها المراهق، وتتوقف أيضًا عن محاصرته بأيام الماضي الجميلة، بهدف تقليل وحشته التي تزداد كلما اكتشف أن الأشياء التي عرفها من قبل إما أنها لم تعد موجودة، وإما تغيرت عما كان يتذكره.
لكن التغير الأبرز في المسلسل يحدث لكلٍّ من دانييل نفسه و«توني تالبوت»، زوجة أخيه غير الشقيق تيدي، المسيحية المؤمنة، الهادئة المتأملة، التي تُزلزِل كيان دانييل وتجعله يُعيد النظر في علاقته بالله. تفهمه دون عناء ولا تهابه أو تحكم عليه كما يفعل الآخرون، تؤمن بوجود جانب مُضيء داخله، جانب تراه بوضوح حتى تكاد تلمسه. يُخبِرها دانييل بأنه ليس كما يظن، فتجيبه بيقين: «لا يهم ما ارتكبت من ذنوب، الذنب الأعظم الذي قد ترتكبه في حياتك أن تخفي الجانب الجيد منك عن الناس، وتفقد اتصالك به».
تتقبله توني في عالمها كما تقبَّل المسيح كل الخطائين، أو هكذا تظن، لكنها تكتشف في ما بعد أنها ببساطة أحبته، وكذلك فعل هو.
تُذكرنا قصة حبهما بنظرية توأم الروح، ذلك الشخص الذي يظهر في حياتك فيقلبها رأسًا على عقب، الشخص الذي يصعب عليك أن تُفسِّر للآخرين شعورك القوي بأنك تعرفه ربما من حياة أخرى، وأنك ربما قضيت عُمرك كله في انتظارٍ له حتى وإن لم تكن تدري هذا، الشخص الذي يكون الهدف من ظهوره في حياتك تحضيرك لحياة جديدة بهدم عالمك فوق رأسك لتبنيه من جديد، الشخص الذي تشعر بالألم والضعف والاكتمال في وجوده، لكنه أيضًا يمدك بالقوة والأمل في غيابه.
هكذا كانت علاقة دانييل بتوني، اجتمعا ليفترقا بعد أن دل كلٌّ منهما الآخر على الطريق الذي يتوجب السير فيه.
تطلب توني الطلاق من زوجها، وتهب نفسها لخدمة العجائز والمرضى والمُحتاجين، وتتدرب على التمريض لتلتحق لاحقًا بمنظمة «أطباء بلا حدود»، فتُذكرني شخصيًّا بقصة حب كاميليا المسيحية ورشدي المسلم في رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية»، إذ تصبح كاميليا راهبة في دير في أسيوط بعد استحالة قصتها مع رشدي، ويصير هو شاعرًا رحالًا لا يستقر في بلد، يقرر أنه «سيحمل عن الناس آلام المعرفة، ويمتعهم بما يشدو به من آلامها المُسكرة».
لأن الحياة تستمر
في البداية يشعر دانييل بثِقَل تضحيات الآخرين على نفسه، وعوضًا عن النضال من أجل الوصول إلى الحقيقة وتبرئة نفسه يستسلم لـ«صفقة الإقرار بالذنب» التي تعرضها عليه المُدعي العام «ساندرا»، وبموجبها تُلزمه بتجديد اعترافه بجريمته ليُنفى بعدها خارج ولاية جورجيا إلى الأبد، ويُمنَع من العودة إليها أو زيارة أهله، وتُلزمه بألا يخطو خطوة في حياته من دون إبلاغ السُلطات. يوافق دانييل على هذه الصفقة ظنًّا منه أنها ستجعل حياة الجميع أفضل، ليهدم كل الجهود التي بذلتها أخته من أجله على مدار السنوات، ويعيش بين الناس كقاتل مُدان إلى الأبد.
في الولاية الجديدة يواجه دانييل الحياة الحقيقية وحده، ويحصل على عمل، ويعيش في منزل تابع لمؤسسة مختصة بإعادة تأهيل المجرمين السابقين، يرأس هذا المنزل رجل يُدعى «آيفري»، يلجأ إليه دانييل أخيرًا بعد تردد، فيُلخِّص له رحلته المؤلمة في السجن ببلاغة شديدة حين يقول:
«بعدما أعدِمَ صديقي أصبحتُ مكتئبًا وغاضبًا، والأهم من كل ما سبق أنني أصبحت وحيدًا، وحيدًا للغاية، ولقد حماني من ذلك أكثر مما كنت أتصور. عندما تكون وحيدًا كل هذه الفترة تبدأ في التعمق أكثر في ذاتك حتى تخسر نفسك. إنه تناقض غريب، تبدأ ذاتك في التلاشي حتى تصبح من دون ذات، لا أقصد أنك تُصبِح متواضعًا، أو أن تكتسب منظورًا معينًا لرؤية الأشياء، بل أن تفقد إحساسك بذاتك بالمعنى الحرفي. وأنا على يقين أن من لم يخض هذه التجربة غير قادر على الشعور بفداحة هذه الخسارة. أنا أفكر، إذًا أنا موجود. أنا أفكر كثيرًا، إذًا أنا غير موجود. أنا غير موجود يعني أنا نكرة. أنا نكرة يعني أنا ميت. وإذا كنتُ ميتًا، لماذا لا أزال وحيدًا إلى هذه الدرجة؟».
يتأمل آيفري ما قال دانييل بتأثر شديد، ثم يُجيبه بما يمكن أن نقول إنه خلاصة المسلسل، أو أنه خُلاصة رؤية راي مكينون للجريمة وأفكار مثل التوبة والمغفرة.
يقول آيفري: «بما أنك لا تتذكر ارتكابك الجريمة، وعانيت كثيرًا وعشت السنوات السابقة ميالًا إلى احتمالية ارتكابك لها، لِمَ لا تعيش بقية حياتك ميالًا إلى الاحتمالية الأخرى بأنك لم ترتكبها؟».
يتجمع في رأس دانييل كل ما مر به منذ حدوث الجريمة، 19 عامًا قضاها بمعزل عن العالم، بمعزل عن يد تطاله بشيء من الحب، حتى بعد خروجه بأسبوع فقط يتعرَّض لضربٍ مُبرح من «بوبي دين»، الأخ الأصغر لهانا، كاد يفقد حياته على إثره، ويُتهم بقتل «جورج ميلتون»، صديقه القديم الذي شهد زورًا بأن دانييل ارتكب جريمتي الاغتصاب والقتل، ليكشف تحليل «DNA» في ما بعد براءة دانييل من إحدى الجريمتين، وتكشف كاميرات المراقبة براءته من جريمة قتل جورج نفسه.
يا لها من رحلة، ويا له من ثمن فادح دفعه دانييل ليغفر لنفسه.
Rectify: التصحيح
يتأمل الكاتب شخصياته ولا يحكم عليها، يضعهم في أسوأ المواقف ثم يُخرجهم منتصرين، حتى إن كان الانتصار يقتصر على تعلم شيء عن النفس وتعقيدها.
توقف دانييل من قبل عاجزًا عن فهم سبب كل ما حدث له، إن كانت هناك احتمالية لعدم ارتكابه الجريمة، فلأي غرض عانى؟ ومن أي ذنب كان يتطهر؟
لكنه في نهاية الرحلة، وبرؤيته الفلسفية، يُركز على الحقيقة الوحيدة التي يعرفها، وهي أن مرحلة «التطهير» تليها مرحلة «الجنة»، ليس وفقًا لدانتي فقط، بل بدافع من شعور إنسان أدرك أخيرًا أنه عانى بما يكفي.
يَقبل أخيرًا تضحيات الآخرين له، لا بنوع من الإحساس بالذنب، بل بحسٍّ عالٍ من المسؤولية. يتوصل أخيرًا إلى أن نجاته ووجوده الآن في هذا العالم له سبب، وكونه عاجزًا عن معرفة السبب لا يقلل من قيمة هذا السبب أو يمحو وجوده.
لذا، فعند ظهور كثير من الأدلة التي قد تُبرئه من جريمته، وعند نجاح محاميه في إقناع المدعي العام بإعادة فتح القضية للمرة الثالثة، نراه مُستعدًّا لخوض هذه التجربة والدفاع عن ذاته حتى وإن كان بالفعل مُذنبًا.
يتأمل راي مكينون شخصيات المسلسل ولا يحكم عليها، يضعهم في أسوأ المواقف ثم يُخرجهم منها منتصرين، حتى إن كان هذا الانتصار يقتصر على تعلم شيء جديد عن النفس الإنسانية ومدى تعقيدها.
لا يمكنك، كما يقول مكينون نفسه، أن تشاهد مسلسل «Rectify» وأنت تؤدي شيئًا آخر، مثل الأكل أو التنظيف أو الطهي، لأنه حينها سيكون مجرد مسلسل ممل آخر تضيفه إلى قائمتك، لكن يتوجب عليك أن تمنحه كل تركيزك واهتمامك، وأن تتأمل ما بين سطوره، حينها نضمن لك أنا وكاتبه أنك ستمر بتجربة شعرية عذبة، تشفي روحك وتجعلك تُعيد تقييم حياتك.