يعتقد كثيرون أن موسيقى الراب وسيلة تتخذ الواقع مرجعًا، وأن الرابر (مغني الراب، وتُجمع على «رابرز») يكون عادةً ممثلًا لأبناء جيله من شباب مهمَّش. هذا التصور يبدو منقوصًا وغير ملمٍّ بكل تفاصيل وخصائص عالم الراب، ذلك أن الرابرز يخوضون معاركهم ضد السُّلطة السياسية بمختلف مظاهرها، لكن معاركهم الداخلية لا تقل أهميةً، فهي تستمر في بعض الأحيان لسنوات طوال.
جبهات هذه الحروب متعددة وأسبابها كثيرة، ينقد عبرها الرابر أو حتى يشتم رابر آخر، فكيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟
يكون ذلك عن طريق «الكلاش» أو «الدِّس» (مأخوذة من الكلمة الإنجليزية «Disrespect»، وتعني مهاجمة الآخر بهدف التقليل من هيبته واحترامه). ينظم الرابر في هذه الحالة نصَّه خصيصًا لخصمه، ويشحذ كلماته لتكون رصاصًا لا يقوى بعده خصمه على الوقوف.
في تونس، ومع احتلال موسيقى الراب مكانة مهمة في المشهد الموسيقي منذ اندلاع الثورة، باتت حروب الرابرز وسيلة للاستعراض والاستفزاز وسببًا لجلب انتباه الجمهور وكسب الشهرة، وتكشف أعداد المشاهدات على يوتيوب مدى نجاعة هذه الخطة.
كلاش الراب: حرب واحدة لا تكفي
المتمعن في ساحة الراب في تونس يلاحظ أنه إذا تعلق الأمر بـ«الكلاش/الدِّس»، فإن «دي جاي كوستا» أكثر الرابرز ظهورًا في هذا المجال. اتخذ المغني الشاب من الكلاش وسيلةً لجلب الانتباه، وقد اعتاد الجمهور غزارة إنتاجه، فهو يطلق كلماته ضد الجميع دون استثناء، وقد نجد في قائمة «ضحاياه» حتى مغنين وممثلين.
لعل أبرز صراعات الراب التونسي هي تلك التي خاضها ويخوضها حتى اليوم «بلطي» مع «كوستا»، عبر عديد من الأغنيات التي يخصصها كلٌّ منهما للآخر.
في أغنية «Look in My Face»، يوجه كوستا خطابه إلى بلطي ويذكره أنه من المتملقين الذين حققوا شهرتهم عن طريق تدمير بقية الرابرز. الأزمة توحي بأن كوستا يمارس عملية تحقيق واستنطاق لبلطي، ويريد أن ينتزع منه الاعتراف بخطاياه. ألحان الأغنية تتميز بنسق بطيء، مع نوتات بيانو خفيفة تؤثِّث الخلفية وتترك المجال أمام كلمات كوستا المتأنية على غير العادة.
في 2011، قدم بلطي أغنية «Passe Partout» التي رأى فيها كثيرون مسًّا بكرامة المرأة التونسية، ولم يتوانَ كوستا بصحبة رابر آخر هو «إيمينو» والممثل لطفي العبدلي، في الرد من خلال كلاش حقق مشاهدات مرتفعة ولاقى استحسانًا من المستمعين والمتابعين لموسيقى الراب في تونس.
تميزت الأغنية بإيقاعها السريع الذي يجاري تدفُّق كلٍّ من إيمينو وكوستا. المقطع الخاص بالعبدلي كان الإلقاء فيه متأنيًا وكأنه لا يلقي بالًا للموسيقى. أما المقطع المخصص لكوستا فيعجُّ كالعادة بالعنف والاستهجان، مع تدفق سريع وإلقاء مسترسل.
في 2015، ومع تحول الراب إلى ظاهرة اجتماعية واكتساح الرابرز وسائل الإعلام، قدم بلطي بصحبة الفنانة الشعبية التونسية زينة القصرينية أغنية «قالولي ما تجي»، التي كانت بمثابة فرصة لا يقدر كوستا على تركها تمر مرور الكرام.
بكلاش على أنغام الأغنية الأصلية، ومع نَفَس تهكمي ساخر، يلوم كوستا بلطي ويحمله مسؤولية تدني مستوى موسيقى الراب في تونس، ويتهمه بالسعي إلى الشهرة وكسب المال بأي طريقة. ما يُلاحَظ في هذا النص حضور الصور الشعرية الساخرة، مع كثرة التشبيهات والاعتناء بالقوافي للمحافظة على نغمية المقاطع.
يحدث أن يكون الكلاش موجهًا إلى الجميع، ضد كل شيء، يعبِّر عن سخط الرابر من السياسة وغيرها.
يرفع دي جاي كوستا شعار خوض حروب على أكثر من جبهة، لذلك لا يكتفي بالتوجه بالنقد إلى الرابرز، وإنما يتجاوزهم ليصل إلى المغنين والممثلين.
في أغنية وجهها إلى الممثل محمد الجبالي، يحتج الرابر على اقتحام هذا الأخير ميدان الراب دون سابق معرفة أو اطِّلاع. على ألحان أغنية «هاسلين» للرابر الأميركي «Rick Ross»، يلقي كوستا نصَّه بكل عنف وبتدفق سريع يكشف الطابع القوي للكلمات.
الفنان مقداد السهيلي أيضًا كان له نصيب، فقد خصص له كوستا أغنية بعنوان «تف عليهم» تتميز بإيقاعها المرح، وكان أداؤه خلالها سريعًا متماشيًا مع جو الأغنية. النصُّ يعجُّ بالكلمات القاسية والعنيفة كتعبير عن الغضب من التطفُّل على موسيقى الراب.
اقرأ أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
كلاش الراب: سلاح ضد الجميع
يميز نصَّ أغنية «أتيت رأيت انتصرت» لبلطي عدم ذكره لأي رابر، وكأنه نوع من التجاهل الذي يعلي من شأنه مقارنةً بالبقية.
في أغنية «الطريق إلى المستقبل»، يؤدي الرابر «G.G.A» (اسمه الحقيقي علي قزقز) عملية استعراض لإمكانياته وتمكنه من الإلقاء السريع، وهو كذلك يلفت الأنظار من خلال نصٍّ متماسك فيه اعتناء بالقوافي، فالكلمات منغمة ومتناسقة والإيقاع منتظم ومتماشٍ مع قوة الصوت.
يوجه الرابر نقده إلى مجموعة من الرابرز المعروفين على الساحة (كوستا وبسيكو أم وغيرهما)، يذكرهم أنه رقم واحد على الساحة، يلمِّح إلى الرابرز الذين يغنون عن المخدرات ويشجعون على استهلاكها ويسخر منهم ومن أسلوبهم. في النصِّ استدعاء لمجموعة من المرجعيات والرابرز الذين يعتبرهم مثلًا أعلى، مثل «توباك شاكور» و«بيغي». تُختم الاغنية بمقطع يهاجم فيه «G.G.A» الرابرز المصريين، وعلى رأسهم أحمد مكي: «مكي كبيركم يا عمِّنا».
لا تتغير النبرة والحدة التي يتميز بها علي قزقز في كلاشاته، فتتكرر في أغنية «تكريز» (غضب)، التي يهاجم فيها الفنانين والسُّلطة السياسية وحتى محبي كرة القدم. الأغنية إيقاعها بطيء والكلمات تُلقى على مهل على ألحان أغنية نينا سيمون «Don't Let Me Be Misunderstood».
في أغنية «أتيت رأيت انتصرت»، يستعير بلطي المقولة الشهيرة ليوليوس قيصر تمامًا كما فعل الرابر الفرنسي «La Fouine» في واحدة من أشهر أغنياته. يضع بلطي نفسه في القمة ويعلن هجومه على أعدائه، وتعتبر هذه الأغنية من أشهر الكلاشات في تاريخ الراب التونسي. تتميز بإيقاعها السريع وموسيقاها الإلكترونية الصاخبة كخلفية لصوت بلطي القوي، الذي يؤكد أنه لا يلقي بالًا للأعداء. ما يميز النصَّ هو عدم ذكر أي رابر، وكأنه نوع من التجاهل الذي يُعلي من شأن بلطي مقارنةً بالبقية.
«الرادي» أو «الراديكالي» (اسمه الحقيقي أيمن) ليس من بين الرابرز الذين يركزون على الكلاش، لكن في أغنيتي «Jungle» و«العرائس» يطلق الرادي صرخة غضب في وجه أصحاب السُّلطة، بتدفق سريع ولعوب متوَّج مع الموسيقى السريعة والإيقاع الراقص، يوجه كلماته ونقده إلى الإعلام الذي يسخر من المشاهدين عن طريق برامج تافهة.
في كلاش «الغضب»، لا يتجنب الرابر «Klay BBJ» ذكر أي رابر، لكنه يعلن غضبه من الوضع ويؤكد صموده أمام محاولات عرقلته من طرف أعدائه، ولا ينسى ابن «باب جديد» (حي شعبي في تونس العاصمة) أن يوجه سهام نقده إلى الإعلام والسياسيين، مثل الصحفي برهان بسيّس.
تتميز الأغنية بإيقاعها السريع وموسيقاها الإلمترونية التي تتماشى مع النسق الذي يفرضه صوت كلاي، الذي يختم الكلاش بإلقاء مسترسل بتدفق سريع.
كلاش الراب: إحياء للشعر الجاهلي؟
قد يهمك أيضًا: صوت فرقة الراب الفلسطينية «دام» يزعج إسرائيل
الكلاش هو التوجه بخطاب نقدي يذمُّ المخاطَب، وهو ما كان يحصل بين الشعراء العرب قديمًا.
إذًا، بطريقة أو بأخرى، يمكن أن نقول أن موسيقى الراب هي في هذا المستوى وريثة الشعر بصيغة أكثر عصرية، من جهة أنها نصوص تُلقى على أنغام موسيقية وإيقاعات صاخبة، وهو ما يعطيها خصوصيتها، إذ أن الظاهرة نفسها مأخوذة من الراب في أصوله الأمريكية، غير أن الراب في تجربته التونسية يحمل ميراثًا كبيرًا من المواجهات، ولا أدَلَّ على ذلك من شعراء النقائض: جرير والفرزدق والأخطل.
تتعدد حروب الراب في تونس، وهي في ازدياد مستمر، وهذه الظاهرة دليل على ديناميكية ميدان الراب وإبداع الرابرز الذين يتفننون في إبراز عيوب بعضهم بعضًا، فيكثفون من الاستعارات والتشبيهات، وبذلك تخرج نصوصهم مرحة وثرية رغم العنف الذي يكسوها في أغلب الأحيان.