كيف تتعامل مع الملفات الصوتية المرفقة: خلال القراءة، يمكنك الاستماع إلى الأبيات الشعرية بصوت مصطفى إبراهيم بالضغط مباشرةً على النصوص المظللة بلون رمادي داخل الموضوع.
«كنتُ في أشد درجات إحباطي، أُغلقت كل الأبواب. وقفتُ في تلك النقطة وبدا الانتحار الحل الوحيد لكل شيء، ثم قرأت تفرانيل. كيف شعرتَ بي إلى هذا الحد؟». هكذا قال أحد زملائي رافعًا يده مستئذنًا، في ندوة شعرية في الجامعة دعونا إليها الشاعر المصري مصطفى إبراهيم.
لم أنسَ تلك الكلمات قط. قبل ذلك، كنت أظن جملًا مثل «الكتابة تنقذ من الموت» تُقال مجازًا فقط كي تعبِّر عن أهمية الكتابة، لكن لم أظنها ستتحقق بالمعنى الحرفي. أنقذت الكتابة صديقي من الموت. أحجم عن الانتحار لأنه أخيرًا صدَّق أنه لا يقف في ذلك المكان النائي وحده. أحدهم كتب كلمات شديدة الدقة جعلت صديقي يجد الأُنس، ذلك الأُنس الذي لا تجلبه كلمات العابرين في محاولاتهم المستميتة للتخفيف عنا.
تنقذنا الكتابات من الموت مجازًا وحرفيًّا، وكتابات مصطفى إبراهيم جديرة بذلك. قدَّم شعره في ديوانين، نشر أولهما «ويسترن يونيون فرع الهرم» عام 2011، والثاني «المانيفستو» في 2013. لِمَ أحببت، وغيري كثير، تلك الكتابات إلى هذا الحد؟ هل لأنها تعزينا في همومنا؟ ربما ليس لأجل هذا فقط.
دليلك الشامل للهروب من الواقع
ما الأجمل من أن تختفي من العالم؟ تكون غير مرئي ولو لدقائق معدودة؟
الهروب مخرج نطمح إليه كثيرًا. قرار أن تختبئ تحت المنضدة كان يمكنك اتخاذه عندما كنت صغيرًا فقط. الآن أنت بالغ، عليك مسؤوليات ستجدك ولو اختبأت تحت ألف منضدة، لذلك يبحث لك عقلك عن وسائل أخرى تتخذها للهروب، يُعرِّفها لنا علم النفس تحت مسميات عدة، ويحكيها مصطفى إبراهيم أيضًا في قصائد عدة.
«ومَّا الزمن تعبه
قَصْقَص شريط الفيلم
خَد كادر كان عاجبه
وقرَّر يعيش فِ الحلم»
«Maladaptive Daydreaming» وسيلة يتخذها عقلنا دون وعي منا للهروب من الواقع، وهو مصطلح يصعب ترجمته إلى العربية، ويعني أنك حين تعجز عن التعامل بطريقة طبيعية مع الواقع، أو لا يعود بمقدرتك تحمُّله أكثر من هذا، يخلق عقلك «أحلام يقظة ناتجة عن سوء التأقلم»، وهي مشاهد متتالية من أشياء تريد أن تعيشها، لكنك تعجز عن ذلك.
بالطبع جميعنا يمر بأحلام اليقظة، لكن صاحبنا ذا العطَب يقضي وقتًا أطول من اللازم داخل تلك الأحلام، حتى أنها قد تتعدى الفترة التي يقضيها في «واقعه»، ويصل به الأمر إلى الانفصال عن الواقع بالكامل.
قصيدة «المولوية» كانت كلها حلمًا يمر به مصطفى إبراهيم. في البداية، يتحدث مع أحد الدراويش، يروي له متاعبه وأسئلته المتأزمة عن الحياة، ثم يكتشف أن الدرويش ليس له وجود. تبدأ بعد لحظات رؤية أخرى للشاعر كطفل صغير يهدُّ عامود أحد الجوامع، وتنتهي القصيدة بأن جسده يحلِّق عاليًا في الفضاء الواسع.
«أنا عمَّال أترقَّى وأطلع
الشبورة عمَّالة تضيع
على مَد الشوف.. أنا شايف بيت
وبتَمْتِم بكلام مش واضح
فيه صوت بيقول: على فين رايح؟
فَ بشاور.. فَ يقوللي: لوحدك؟
فَ اضحك وأشاور حواليَّا
لولا إني لوحدي
ما كنتش جيت»
كل شيء في أحلام اليقظة تلك يبدو حقيقيًّا للغاية، الضحكات والبكاء والمشاعر. تخبرنا الدراسات أننا في تلك الحالات قد نخلق من أنفسنا نسخًا نموذجية تعيش داخل المشاهد التي اخترناها، أو قد نجلس في مقاعد المتفرجين ونشاهد تلك الأحداث تمامًا كما نشاهد الأفلام في صالات السينما. كلتا الطريقتين توفر وسيلة مُثلى لترك الواقع.
جميعنا نتمنى في لحظة ما أن نهرب من واقعنا ونختفي عن الأنظار. يداعب مصطفى إبراهيم تلك الأمنية بداخلنا. ربما لم نصِلْ إليها حتى الآن لأننا ما زلنا بطريقة ما قادرون على تحمُّل واقعنا، أو ربما وصلنا بالفعل وأصبحنا نسير في الطرقات والشوارع ونحن نحدث أنفسنا ونختلق مشاهد. من يعرف؟ فهي بالنهاية تحدث بدون أي وعي منا.
دليلك الشامل للجهل الإرادي
تستيقظ من نومك قبل المنبه على غير العادة. تنظر إلى المرآة وتُخبر نفسك أن اليوم سيكون جميلًا. تنزل إلى الشارع فتجد السماء صافية والشمس مشرقة وهادئة. ياللروعة، اتفقتْ معي الطبيعة أخيرًا أن يكون اليوم جميلًا.
ثم يضربك السؤال: هل قررت الطبيعة أولًا أن يكون اليوم جميلًا، أم أنه صار جميلًا لأني قررت ذلك؟ هل هذه المَشاهد من صنع عقلي فقط وكل شيء غير موجود؟ ماذا أفعل هنا؟ ولِمَ أفعل ما أفعله؟
فجأة يتبدل كل شيء. تسمع صوت الرعد ثم تنهمر الأمطار وتُظلم الأرض. الآن صار المشهد ملحميًّا تمامًا. تنظر إلى السماء فتجدها تنشق أمامك، ومِن بين نصفيها المفترقين يُطل عليك وجه دوستويفسكي غاضبًا يصرخ: «أقسم أيُّها السادة أن شدة الإدراك أمرٌ خطير».
حسنٌ، ما كان يجب أن تسأل كل تلك الأسئلة من البداية، لكن دَعنا نعترف أن شدة الإدراك، بالفعل، أمرٌ خطير.
«الجهل.. جميل
بيقرَّبلك سقف النشوة
والحزن كمان»
تعرِّف الكاتبة «مارغريت هيفرنان» الجهل الإرادي بأنه اختيار التعامي في المواقف المختلفة خشية التعرض لما لا نريد أن نراه: «يمكننا أن نعرف، ولا بد أن نعرف، لكننا لن نفعل، لأن عدم المعرفة يوفر لنا إحساسًا أفضل».
الإدراك خطير لأننا لا نعرف ما سَيَليه. ماذا سأفعل إن اكتشفت أنني أقل الكائنات ذكاءً وتطورًا في ذلك الكون الواسع؟ ماذا سأفعل لو علمت ماهية الحياة؟ ماذا سيأتي بعدها؟
في روايته «مثل إيكاروس»، يجسد أحمد خالد توفيق شخصية محمود، الشاب الذي عرف كل أسرار الكون واطَّلع على الغيب.
يسرد توفيق التفاصيل المروِّعة التي يعيشها محمود. كيف لأي عقل أن يتحمل حقائق الكون؟ في نهاية الرواية يقص محمود لسانه ويفقأ عينيه ويقطع يديه ورجليه، كي لا يتمكن أبدًا من نقل ما عرفه لأي إنسان آخر.
«أرجوك يا زمان
خبِّي المقدور
الضلمة براح أكتر مِ النور
سيبني أتخيِّل.. إن أنا بختار
قبل أمَّا أعرف.. إن أنا مجبور»
هل الإنسان مسير أم مخير؟ ربما يكون هذا من أقدم الأسئلة التي سألها الإنسان. مُلئت الكتب واشتدت الجدالات بين الفلاسفة، لوَّح بعضهم بالدين ولوَّح آخرون بالمنطق، ظهرت المصطلحات والنظريات الطويلة، عاش من عاش ومات من مات، وما زلنا حتى وقتنا هذا في المربع صفر، في إشارة بسيطة ودالة من الكون إلى محدودية الجنس البشري، وقدرته الخارقة على قضاء مئات السنين باحثًا في سؤال دون أن يتحرك خطوة واحدة نحو الإجابة.
لكن، لحسن الحظ، هذا كله ينطبق على النصف الأول من البشر. هناك نصف آخر مهم: مَن علموا مِن البداية أنه لا توجد إجابات في هذا العالم، وتعايشوا مع هذه الحقيقة. لم يقضوا أعمارهم منهمكين في البحث.
ماذا لو خدعنا أنفسنا بإجابة مِن صنعنا نحن؟ سنعيش بسلام بعيدين عن مخاطر الإدراك وجنون الأسئلة. «الجهل جميل».
يمكنني أن أجيب عن أسئلتي بالإجابات التي أريدها، ويمكنني أن أحمِل نفسي على تصديق تلك الإجابات كما لو أنها حقائق. لا أعرف إن كنتُ الفاعل أو المفعول به هنا، لكن على الأقل دعني أخبر نفسي أني اخترت أي شيء.
دليلك الشامل للملل والتململ
«للأسف من صُغر سِنِّي
علِّتي.. بزهق قوام
أبتدي واسخن لكني
بعد فترة أبرد وأنام
كله في الأول بميل لُه
وكله في الآخر بملُّه
حتى لو كان شيء فاضلُّه
خطوة واحدة ع الختام»
«لربما أكبر أسباب المعاناة في الحياة هو الأسخف على الإطلاق: الملل». هكذا يخبرنا الفيلسوف الفرنسي «باسكال».
ما الأسوأ من أن تفقد القدرة على الاستمتاع بأي شيء؟ الفرح مفهوم، والحزن قد يكون مفهومًا، لكن النفور من كل الأشياء ليس مفهومًا، خصوصًا أنه في معظم الأوقات يكون دون أسباب واضحة.
«وبَدْخُل في الحاجات تخاطيف
وعيني عَ اللي بَعديها
...
ماسِبتش شيء ماجَرَّبتوش
ولا جَرَّبته وماسِبتوش»
الشعور الطاغي بأنك غير راضٍ قد يقودك إلى الجنون. تمر الأيام، تتبدل المواقف، تكتسي المشاهد بألوان مختلفة، لكن لا شيء أبدًا يُشبع رغباتك. الأسوأ؟ أنك لا تعرف تحديدًا ما هي رغباتك.
الملل المزمن حالة طبية موجودة بالفعل. يفسرها العلماء بوجود مستقِبلات أقل لهرمون الدوبامين في مخ المصاب. الدوبامين مسؤول عن «جهاز المكافأة» داخل المخ. دون مكافأة لن نجد دافعًا للتحرك، ودون الدافع ستكون كل الأشياء سواء. هل هناك أي شيء ألعن من هذا؟
دليلك الشامل للأسئلة الوجودية
«1»
«كل الطرُق في الكون
بتلِف على واسع
فَ مفيش نَفَر فاكر
إزاي رِجِع أو لَف
شوف الإله حكمتُه
في الدايرة عاملة ازاي
وازاي محجِّمنا
من غير ما يعمل سقف»
ماذا لو كنا خلية من النمل تعيش على لعبة إحدى الكائنات التي لا نعرفها؟
نبَّهني مصطفى إبراهيم للمرة الأولى إلى حكمة جعْلِ كرة مستديرة مكانًا يسكنه البشر. لو كنا خلية من النمل تعيش على لعبة دائرية لكائن آخر، فلن نعرف ذلك أبدًا، لأننا لن نصل أبدًا إلى نهاية تلك اللعبة. كل ما ستعتبره أنت نهاية اللعبة سيعتبره غيرك بدايتها، ولن يكون أحدكما مخطئًا، كما لن يكون أحدكما على صواب.
نحن مُحجَّمون، دون أسقف ولا إطارات، مُحجَّمون بفعل الشكل الهندسي الذي نسكنه. من نحن على أي حال؟
«2»
«لما قولتوا الدنيا فانية وقلت أيوه
فُزتوا إني آمنت بيكو
وفاتكوا إني بعد فترة
هبقى زاهد..
حتى فيكو»
ما فائدة أن نعرف أن الحياة فانية؟ وكيف يمكننا التقدُّم لفعل أي شيء بعد ذلك؟
في حياة كلٍّ منا لحظة يدرك فيها أننا ندور في حلقة مُفرغة، مثل موت حبيب أو خسارة فادحة تزهد بعدها في كل شيء. إدراك محدودية الدنيا وهشاشتها في أحيان كثيرة يُفقدنا الطاقة لفعل أي شيء ويوقعنا في سلسلة دائمة من «ما الفائدة؟». رغم ذلك، نجد أن الأديان مثًلا تحرص على تذكيرنا بفناء الدنيا، وفي نفس الوقت تحثُّنا على العمل المستمر.
الأمر لا يتعلق بالإتيان بأفعال بعينها فقط لنَيْل الحسنات وانتظار الجزاء في الآخرة، لكن الأديان تحث على فكرة «تعمير الأرض» كمبدأ شامل وعام، فكرة «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
كيف نجمع بين الإثنين إذًا؟ سأل شخصٌ آخرَ نفس السؤال قبل سنين طويلة. كان «ألبير كامو»، وكتب عن ذلك في «أسطورة سيزيف».
في الأسطورة الإغريقية، تعاقِب الآلهة سيزيف بدفع صخرة نحو قمة جبل إلى الأبد. كان العقاب تحديدًا في كون الصخرة لا تصل إلى القمة مطلقًا. كلما أوشك سيزيف على بلوغ قمة الجبل، انزلقت الصخرة إلى السفح وأصبح عليه البدء من جديد.
شبَّه كامو الأسطورة بحياة الإنسان على الأرض. إننا نسعى وراء اللا شيء. نبذل أنفسنا في سبيل ما نعلم يقينًا أنه لن يبقى. نصحنا كامو هنا بأن نقضي تلك الحياة في البحث عن السعادة، طالما كل شيء زائل ولا هدف وراءه. ذلك بالطبع يتعارض معنا نحن، من يُحثُّون على السعي ويُذكَّرون باستمرار بهوان الحياة. كيف يمكننا الجمع بين هذا وذاك؟
الإجابة قد تكون في إدراكنا أن السعادة والسعي، حتى مع إدراك زوال كل شيء، قد لا يكونان متعارضين. لو كان جيفارا اختار العيش هادئًا بدلًا من حياة المطارَدين في سبيل تحقيق العدل للأقل حظًا، هل كان سيموت سعيدًا؟ لا يمكننا أن نجزم. ربما جيفارا وحده من يستطيع أن يجيب عن سؤالنا هذا.
«3»
«طلَّعوا كل الطبايع
والصفات الممكنة
وارسموني بفُرشة تايهة
مِ الآراء والألسنة
تِطلع الصورة الغريبة
لحد أصلًا مش هنا
والنتيجة كل مادا
صورتي تتلخبط زيادة
وأنسى أصل شكلي إيه
وللا نفسي أشوفني ليه»
مَن نحن بدون ما يفرضه علينا ما حولنا؟ في علم النفس هناك مبدأ يُعرف بالتأقلم الاجتماعي (Social Modeling)، ويعني ميلنا الدائم إلى المثول لمن وما حولنا.
إن كان قد فُرِضَ عليَّ منذ الصغر أن أتطبع بطبائع محددة وأمتثل لقواعد بعينها، فأين أنا من كل ذلك؟ إن كنت قد «رُسِمت» بفرشاة أبي وأمي كشخصية بعينها، فمن أنا إذًا؟ و«أنا» هنا تعني نفسي المجردة عن كل ما أُضيف إليها عنوة، وكل ما امتثلت له دون وعي.
التفكير في ذلك قد يقودنا إلى الشك في كل ما نحن عليه الآن. هل أتصرف بهذا الشكل لأني أريد أن أفعل هذا، أم لأن مَن حولي يتصرفون بالشكل ذاته؟
ربما لأجل ذلك تحديدًا كتب أحمد خالد توفيق يومًا: «ليتنا أنا وأنت جئنا العالم قبل اختراع التلفزيون والسينما، لنعرف هل هذا حب حقًّا أم أننا نتقمص ما نراه».
«4»
«فيه حاجات كتير عايزاك
تفضل كده مسافر
فِ طريق ملوش آخر
إكمِنَّها حتموت
فِ الرحلة من غيرك
...
جسمك حجزله مكان
بالعافية جُوَّه الكادر
مِيتْ إيد على كتافك
مِيتْ بصَّة على وِشَّك
كل الحاجات حواليك
فِ الكادر ساندة عليك
لو جيت وشِلْت إديك
الصورة تتفركش»
نعيش في عالم لا نهائي من الاحتمالات. كما يشير مصطفى إبراهيم هنا، كل مشهد نعيشه مليء بتفاصيل لم تكن لتوجد لو لم نملأ ذاك المشهد بالذات. ما الذي سيتغير إذًا لو لم نكن حاضرين بالفعل؟
في مسلسل «WestWorld»، يصنع البشر آليين ليعيشوا في عالم ملاهٍ يزوره البشر، بحيث يؤدون أدوارًا ضمن قصة كبيرة مرسومة مسبقًا.
في بعض الحلقات، يجرب صانعو المسلسل تغيير تفصيلة صغيرة للغاية للآلي ثم وضعه داخل نفس المَشاهد تحديدًا دون صنع أي متغيرات أخرى، ليروا ماذا سيحدث. على مدار الحلقة، سترى كيف أثَّرت تلك التفصيلة البسيطة في مجريات الأحداث، وكيف أدت في النهاية إلى نتيجة مختلفة تمامًا عما أوصلتنا إليه التفاصيل المتغيرة في الحلقات الأخرى.
إنها كرة الثلج الملعونة التي تحكم حياتنا. وفي الإنجليزية مصطلح أدق هو «Slippery Slope»، ومعناه المنحدَر الذي ينزلق عليه أول حَدَث، فيجُر وراءه سلسلة ضخمة من الأحداث.
ربما يعطينا ذلك مدخلًا لكوننا مخيرين برغم كل الأحداث التي أصابتنا ولم يكن لنا أي يد فيها. ربما في اللحظة التي وُضعنا فيها أمام أول تفصيلة في كرة الثلج، وفي تلك اللحظة فقط، كنا مخيرين. كان لنا الحرية الكاملة في الاختيار، وعلينا أيضًا المسؤولية الكاملة عن النتائج. ربما في النهاية نحن من صنعنا كرة الثلج.
مصطفى إبراهيم: «وترحم قلبي في شيبته»
على شاكلة «إنهم يكتبونني» لبلال فضل، كتَبَنا مصطفى إبراهيم. بتساؤلاتنا الحائرة ومشاعرنا المُرتبكة وأفعالنا الفوضوية، وجدنا أنفسنا داخل صفحاته. لم يهتف بنا، لم يُلقِ الخُطَب، لم يصوِّرنا في أيٍّ من كلماته أبطالًا خارقين. تحدث إلينا وتناولنا كما نحن، بكل اضطراباتنا وصفاتنا التي قد ينبذها العالم.
لم أعرف إلقاء الشعر إلا مجلجِلًا، يصرخ بما في داخله من أفكار ويثير حفيظة من حوله. وحتى لو كان الشعر حزينًا لا يحتمل الصراخ، فإن من فنون الإلقاء تغيير طبقة الصوت حسب المَشاهد لتصل بالمستمع إلى الشعور الذي ترمي إليه بالضبط.
عندما ظهر مصطفى إبراهيم تساءلتُ في حنق: مَن سمح له بإلقاء كهذا؟ ومع الوقت بدأتُ أنتبه، ثم بدأتُ أتعلق بإلقائه، تمامًا كما تعلقت بشِعره. للمرة الأولى أكتشف أن الصوت ذا الطبقة الواحدة (Monotonic) ليس مكروهًا في الإلقاء كما تخبرنا محاضرات التنمية البشرية، بل إنه، بشكل ما، يجعلك تمتزج بذلك الشعور الغامض بالحزن، وكأنه يقول لك: لا مساحةَ لديَّ لأتحرك داخلها. الثقل الذي يسكنني يجثُم على كل شيء.