الساعة الآن الثالثة فجرًا، أعزف وأنا أحد أولئك الذين لا يطيقون النهار، وديك جارنا الفاجر لا يصيح في وقت أذان الفجر بل قبله بكثير، وفي كل مرة أعزف على آلة الكمان وأسمع صياحه، أراني أنزعج وأعبر عن انزعاجي بنغمتين لا تتآلفان، وفي كل مرة أشكر بيتهوفن على ذلك، أشكره لأنه غضب وسخط على زمن الموسيقى الكلاسيكية، وأسس عصر الموسيقى الرومانسية، وكسر تنميط الفن في التعبير عما هو جميل فقط بشيء جميل.
أراد بيتهوفن أن يعبر عن الانفعالات الإنسانية كلها، الجميل منها والمزعج. واحد من تلك الانفعالات هو الغضب، الذي لولا أن بيتهوفن فرض على زمانه الكلاسيكي دخول النغمات المتنافرة للتعبير عن المشاعر المزعجة، لما استطعت اليوم أن أعبر عن انزعاجي من صياح ديك جارنا بهاتين النغمتين، فله مني جزيل الشكر.
في حكاية أخرى، خرج المطرب السامرائي كاظم الساهر يومًا من بيت الشاعر نزار قباني في لندن، وفي معطفه يحمل ورقة مكتوب عنوانها «قصيدة الحزن»، والتي غناها المطرب بعنوان «مدرسة الحب»، والتي كُتبت على الوزن الذي أسسه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وزن التفعيلة. البعض يقول إن من أسسه هي الشاعرة نازك الملائكة، وهو كسر للقوالب العمودية للشعر والبحور الستة عشر.
يبدو لي أن السياب شعر أن القوالب العمودية ضيقة، وأراد أن يعبر بحالة أوسع من هذا الضيق، فكسرها، وقدم لنا قصيدة التفعيلة التي تعطي حرية أكبر للشاعر في التعبير، ولولا هذا الكسر لما كتب نزار مدرسة الحب، ولا غناها كاظم، ولا قدمتها أنا كذبًا كإهداء لكل حبيباتي في المراهقة، فشكرًا لهم.
وعلى الرغم من أن الحكايتين بعيدتان كل البعد عن بعضهما، فإنني وجدت نفسي لاشعوريًا استخدم كلمة مشتركة، «المشاعر»، هذه الكلمة التي يبد ولي أننا مضطرون لاستخدامها أو ما يرادفها في أي حديث عن أي شكل من أشكال الفنون، وهي وسائل أوجدها الإنسان للتعبير عن نفسه، فالغناء أحيانًا أخٌ للبكاء، والموسيقى أحيانًا جناح للتنهيدة، والرسم أحيانًا غطاء للتأوه، بل أن ما عجزت الوسائل المتاحة لنا في تكويننا الجسدي من دموع وحنجرة وعضلات وغيرها عن التعبير عنه، قد نجده يخرج من دواخلنا إلى العالم الخارجي عن طريق تلك الفنون فقط.
الموسيقى واللغة والشعر القُدُس
إذا اتفقنا أن الموسيقى حالة وجدانية صرفة مختصة بالتعبير عن المشاعر وخلجات النفس، يبقى لنا أن نحدد ما هو الشعر. فلنعد إلى حيث البداية الأولى، والتي انطلقت من وجود ظاهرة «الصوت» الذي أنشأ الإنسان منه اللغة كأداة للتواصل، لتجعل أفراد هذا النوع من الكائنات قادرة على التواصل في ما بينها عبر الأجيال، لتحقيق التطور والبقاء عن طريق التراكم المعرفي: «فكرة التدوين اللغوي».
الشعر العربي إن لم يحمل صفات والديه الموسيقى واللغة في تكوينه فلا يمكن أن يكون شعرًا، وصفات الموسيقى هنا انطلقت فيه بدايةً على شكل بحور الشعر في القصائد العمودية، التي تعتبر مجموعة إيقاعات بمجملها جزءًا من الموسيقى، موسيقى القافية، موسيقى الحرف كما قسمها الفارابي، وحديثًا الموسيقى الداخلية التي تجعل من قصيدة النثر شعرًا، على حسب قول الشعراء الذين يكتبون هذا النوع من القصائد.
حجتهم أن النثر أيضًا موسيقى، وكونه يحمل صفات الاثنين، إذًا يمكن للشعر أن يأخذ جانب اللغة في التعبير عن المعاني غير الوجدانية كالفلسفة والفيزياء وغيرها، وكذلك المعاني الوجدانية كشعور الإنسان وانفعالاته لكن في حدود أضيق من الموسيقى. فلو أخذنا الموسيقى العربية ببعض التفصيل، والتي تتكون من فكرة المقامات، سنجد أن لكل مقام طبيعة وجدانية عامة، بحيث أنه بمجرد التأليف على هذا المقام يُدخلك في حالة شعورية رغمًا عنك.
مثلًا مقام العجم، عُرف أنه مقام للمشاعر الكبيرة والجماهيرية، وتجد أغلب الأناشيد الوطنية والأغاني الرياضية والحماسية على هذا المقام. الشعور بالفرح والأمان يخرج من روح العجم، ومقام الصبا مثلًا مقام حزن صرف، فأخذه العراقيون في مواويلهم الحزينة، والخليجيون في ربابتهم التي عانت من قسوة الصحراء، والمصريون بطربهم الشجي أيضًا، وأغلب الشعوب العربية.
وفي النهاوند خلوة أرواحنا، ومشاعرنا الداخلية الفردية الخاصة التي تطفو على أرواحنا في وحدتنا وعزلتنا، يحملها النهاوند كغيمة حبلى بدموع الحب والشجن، فما أسهل أن تبكي بحب في النهاوند. وغيرها من المقامات الموسيقية التي ترسم وجداننا بشكل دقيق وجميل ورائع.
نحن من قتلنا الشعر
حين انتشرت مقاطع مرئية لشعراء يلقون القصائد على مواقع التواصل الاجتماعي، كان أكثر ما يزعجني إلى حد الصداع النصفي وربما اختلال التوازن لاهتزاز أذني الوسطى كموسيقي، هو اختيارهم للموسيقى، والذي لم أجد له مسمى إلا أن أسميه بالنشاز الفكري، وهو حالة من الترهل المزعج في المقطع، فالموسيقى توضع فيه لسد الفراغ لا أكثر.
على الرغم من يقيني التام أن فكرة فصل الشعر عن الموسيقى ضرب من المستحيل، فإن إلقاء الشاعر للقصيدة يعتمد على أدائه الصوتي، وهي حالة موسيقية أيضًا.
نحن في زمن نكره فيه الفراغات، ولا أسهل من الموسيقى لتملأها كما في المحلات التجارية والمطاعم وغيرها، لقتل رتابة الصمت عند الزبائن ودفعهم قضاء وقت أطول في المكان. حالة رأسمالية أتفهمها، هؤلاء يقبلون بتسليع كل شي بحثًا عن الأرباح. لكن أن تكون كذلك في مقطع لحالة شعرية وقصيدة فهذه كارثة والله، فكان من الواضح أن القاعدة في اختيار الموسيقى لقصائدهم هي «موسيقى حزينة وخلاص»، وهذا ما يجعل للتشتت مجالًا كبيرًا للوقوف كحاجز بين القصيدة كعمل فني وبين المتلقي.
لكن إذا توافق المعنى الوجداني للقصيدة مع معنى الموسيقى، فسيخلق هذا النوع من الأعمال جسورًا عميقة جدًا بينه وبين المتلقي، لوجود تعزيز أعمق بنهرين يدفعان بتيار مستمر نحو معنى واحد، وقد يكون السؤال هنا: ألا تكفي القصيدة وحدها؟
هذا السؤال لا يعبر إلا عن قصر نظر مزمن وحاد جدًا، وعدم فهم لطبيعة العصر الذي نعيش فيه. ماذا لو فكر فرانسيس كوبولا مخرج فيلم The Godfather بهذه الطريقة السطحية وقال: آل باتشينو ممثل عظيم لا يحتاج إلى الموسيقى التصويرية، فتمثيله ويكفي. تخيل المشهد المدهش الذي يصرخ فيه لحظة مقتل ابنته دون الموسيقى التي كلنا يحفظها لهذا الفيلم. وفكر للحظة وحاول عزيزي القارئ أن تتخيل أعظم المشاهد السينمائية كفيلم Brave Heart مثلًا دون موسيقى في مشهد مقتل زوجة ويليام والاس، أو تخيل مشهد العرس الأحمر في مسلسل Game of Thrones دون موسيقى، كم كانت هذه الأعمال ستفقد من جمالياتها وتأثيرها.
على الرغم من يقيني التام أن فكرة فصل الشعر عن الموسيقى ضرب من المستحيل، وأن الموسيقى هي جزء من تكوين الشعر بذاته، فإن إلقاء الشاعر للقصيدة يعتمد على أدائه الصوتي، وهي حالة موسيقية أيضًا.
لكن لنفرض جدلًا أننا سلمنا بأن الشعر حالة منفردة، ولاعب يستطيع أن يواجه فريقًا بأكمله، وأنه لا يقبل إلا بأدوار البطولة المنفردة، وأي حالة مشاركة هي فكرة ازدراء بل وشِرك به، والشعر لا يقبل إلا بالتوحيد، كما يدعي بعض الشعراء. هنا يحضرني مقال مهم جدًا، وفي اعتقادي أنه أول من تنبأ بموت الشعر، للكاتب والشاعر سعد بن هندي بعنوان «مات الشعر، والعزاء في المقبرة»، والذي يتنبأ بنقاط موضوعية وعلمية مهمة بجوانب متعددة، أن الشعر سيموت قريبًا، وسنمشي كلنا في جنازته، ولن يستمر من الشعر إلا الشعر الغنائي والحالة الترفيهية فقط.
هنا، وليسمحلي ابن هندي أن أضيف، عُزل الشعر عن عصرنا، الذي وبشكل غريب تعقد فيه الإنتاج البشري وتطور على كل المستويات، بحيث أصبح يعتمد على فريق عمل باختصاصات مختلفة، فالعلوم الطبيعية تتقاطع في ما بينها بحيث يعمل مختصون من علوم مختلفة كفريق لأداء تجربة علمية واحدة، بل وحتى العلوم الإنسانية كذلك تتقاطع في ما بينها ومع الطبيعية أيضًا. كذلك في الفنون، إذ أصبح الإنتاج الفني أيضًا يعتمد على عمل فريق من أفراد بمختلف الاختصاصات الفنية.
عزل الشعر بهذه الطريقة وعدم دخوله متقاطعًا مع هذه الفنون كالسينما والمسرح والإنتاج التلفزيوني والحفلات الموسيقية الكبيرة، هو أيضًا عامل مؤثر جدًا في احتضار الشعر وإعلان وفاته القريبة. وها نحن في زمننا هذا لا يمكن للشاعر إلا أن يكون في أمسية بسيطة، بينما الشعر والشاعر قادرون على الوقوف على أكبر خشبات المسارح في الوطن العربي. فكما هو الحال في كل شيء، تقديس الأشياء بتطرف هو ما يضر بها، فمن يحترم الشعر بتطرف لدرجة عزله، بل يؤمن أنه هو الحالة القصوى للأدب والفنون عمومًا، هو من سيسهم في موته حتمًا.
لم يكن غضب بتهوفن سوى لشعوره بضيق تنفس حاد في التعبير في موسيقاه، بسبب أولئك الذين قدسوا بتطرف قواعد العصر الكلاسيكي، وهو ما عرضه وبشكل كبير للهجوم، بل والاستخفاف والتحقير لفنه الذي انتصر في النهاية وأنهى هذا العصر، لتبدأ الحقبة الرومانسية في الموسيقى على يده.
لم تكن روح بدر شاكر السياب لتستطيع أن تكون ماء في قوالب الشعر العمودي، فكسرت كل شكل ضيق، لتخرج لنا بشعر التفعيلة الذي يشكل مبنى القصيدة ومعناها حسب ما تريد أن تتشكل روح الشاعر.
أولئك الذين قدسوا المعنى على المبنى، أولئك الذين أرادوا أن يعززوا المعنى بكل السبل المتاحة لهم، هم الأساس الأول والقيمة الفنية الأرقى، ويبدو لي أنه إذا ما أراد الفنان أن ينتقل بفنه لمستوى أرقى وأعمق من حيث التأثير، عليه وبالدرجة الأولى أن يكسر الكثير من القواعد الشكلية التي قد تضيّق على المعنى فقط من أجل المبنى.
إن كل مشروع فني سواء كان فيه ضلع واحد من الفنون أو أضلاع مختلفة متقاطعة، لا بد أن يرتكز على فكرة التآلف أولًا في المضمون، وثانيًا في الشكل، وحينها ستكون عملية جمع الشعر والموسيقى عملية فنية ذات أسس واضحة، يمكن لنا بهذه الأسس أن نقدم شكلًا جديدًا من الأمسيات الشعرية، التي قد يصل مدى تأثيرها إلى نطاق أوسع من أفراد المجتمع.
ونهايةً، ما زلت أشكر بيتهوفن، ليس على سيمفونياته وسوناتاته العظيمة فحسب، بل لأنه أتاح لي أن أعبر عن غضبي لصياح ديك فاجر يسكن بجانب بيتي، وشكرًا للسياب لا على أعماله الشعرية فقط، بل لأنه أسس التفعيلة لتمتد إلى نزار فيكتب كل تلك القصائد التي تحولت إلى أغان أثرت على كل حبيباتي في المراهقة، ماذا كنت سأهديهن؟ حتمًا لكنتُ في ورطة كبيرة.