في الثاني من فبراير 2014، وُجد الممثل الأمريكي الراحل «فيليب سيمور هوفمان» (Philip Seymour Hoffman) ميتًا داخل شقته في مدينة نيويورك، إثر جرعة زائدة من الهيروين، عن عمر ناهز 46 عامًا.
في ذلك اليوم، خسر العالم أحد أكثر فنانيه صدقًا، ولا أستطيع إيجاد مفردة أفضل من الصدق لإقرانها بالفن الذي كان يقدمه، فالصدق في الفن أهم ما فيه: أن يكون ما تقدمه صادقًا، نابعًا من أعماق القلب، أن تكون كل خلية في جسدك مؤمنة بما تقدمه، أن تقدمه بكل ما تملك من روح وعقل، مهما كان محتواه.
لم يسبق لي أن حزنت بسبب خسارة العالم أحد فنانيه، وحتى وفاة «فيليب سيمور هوفمان»، لم أفهم السبب الذي يجعل أحدًا يحزن لوفاة إنسان لا يعرفه شخصيًّا، أو تقتصر معرفته على ما قدمه من أعمال.
حتى وفاته، لم أستطِع استيعاب معنى أن تخسر بطلًا شخصيًّا، أن تخسر صديقًا تلجأ إليه دون علمه، أن تخسر أحد مصادر طاقتك، أن تخسر الجرعة الدورية من الحياة التي تحتاجها أحيانًا.
حين تشاهد/تقرأ أعمال بطلك أو تتابع مقابلاته تتلذذ بلقاء تخيلي بينكما، تكون فيه هادئ الأعصاب، مثيرًا للاهتمام على الأقل بنصف الدرجة التي يكون عليها، حتى لا تُحرج نفسك، حتى لا تنطلق متحدثًا عن كل أعماله بهوس وجنون، وتبدأ تُضجره بالمحادثات نفسها التي يخوضها مع جميع معجبيه، بالتكرار المُمل ذاته.
حسنٌ، لماذا «فيليب سيمور هوفمان» ممثل عظيم؟
غيَّر «فيليب سيمور هوفمان» فكرتي الأساسية عن التمثيل، معه أدركت أن أي شخصية قد تكون مثيرة للاهتمام مع الممثل المقتدر، أدركت أن الموضوع لا يتطلب أداء شخصية مريض نفسي أو رجل ذي إعاقة جسدية كي لا يُنسى، ﻻ يحتاج إلى تجسيد شخصية زعيم عصابات أو شرطي شريف في زمن يكثر فيه الفاسدون.
لم يحتج فيليب لأداء شخصية «الألفا ميل» (Alpha Male: الرجل الخارق الذي تتمحور حوله الأحداث كلها)، لقد استطاع أن يحول أي شخصية إلى ما كان مطلوبًا منها، أن يسحر المُشاهد، يوقعه في حبه، يرعبك، يجعلك تشعر بالتقزز، يجبرك على التعاطف معه رغم كل عيوبه.
هذا الحضور الرائع في شخصياته كلها نابع من الصدق الذي تحدثتُ عنه. فقد كان يمثل لأجل مهنة التمثيل في حد ذاتها، كان مستعدًّا لأن يُعرِّي روحه حتى يقدم ما هو مطلوب منه، لأنه كان مقتنعًا بما يقدمه، بتأثير مهنته، لأن العالم فيه ما يكفي من نجوم السينما، لكنه لن يكتفي أبدًا من الممثلين، وفيليب كان ممثلًا عظيمًا بحق.
حتى في أواخر سنوات عمره كان فيليب جائعًا للأدوار، في الأفلام المستقلة والضخمة على حدِّ سواء.
أعتقد أن ذلك يقودني إلى سبب آخر لعظمته: «فيليب سيمور هوفمان» لم يكن «روبرت دي نيرو» (Robert De Niro) أو «آل باتشينو» (Al Pacino) جيله، لم يكن النجم السينمائي في مقدمة كل فيلم، وهذه هي النقطة المهمة والأساسية في مسيرته.
الممثلون من تلك النوعية يأتي يوم يكونون فيه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ لمتطلبات السوق والقبول بأدوار ثانوية أقل من أسمائهم، وإما كف أيديهم بشكل شبه كامل.
الفارق أن فيليب كان قالبًا غير مشكَّل منذ البداية، قالبًا مرنًا وسلسًا، يستمر في قبول الأدوار التي عُرضت عليه منذ بداية مسيرته. ورغم أنها أدوار قد تكون منسية وعادية مع أي ممثل آخر، فإنه يضع عليها لمسته الخاصة، عبقَه الشخصي، ودون أن تعلم، في نهاية الفيلم، سيصير أحد أكثر الأشياء التي تتذكرها هو دوره، ربما يكون ذلك الدور ثانويًّا خلف بطل الفيلم، أو حتى بضعة مشاهد تُعَدُّ على أصابع اليد.
شخصياته الأكثر شهرة كانت أدوارًا ثانوية استطاع فيها سحب البساط من تحت أقدام جميع نجوم الفيلم، مثل «The Big Lebowski» و«Almost Famous» و«Punch-Drunk Love».
«فيليب سيمور هوفمان» الذي [ctt tweet="قالت عنه نيويورك تايمز إنه غالبًا ما «يبدو ممثلًا عاطلًا عن العمل» username="manshoor"]قالت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» إنه غالبًا ما «يبدو ممثلًا عاطلًا عن العمل»،[/ctt] كان احتمال استمرار مشواره الفني سنوات طويلة ممكنًا للغاية وبالوتيرة نفسها، بالشغف نفسه، بالجوع نفسه. لا يمكن بأي حال من الأحوال الجزم بذلك بصورة قطعية، لكنه حتى في أواخر سنواته كان جائعًا للأدوار، في الأفلام المستقلة والضخمة على حدٍّ سواء.
وزن زائد من الكاريزما
«ممثل عاطل عن العمل»، مظهر فيليب هذا أحد أسباب تعظيمي له، شكله الرث الفوضوي، وجهه الذي يبدو مثقلًا بالهموم، وزنه الزائد، هذه ليست مواصفات إنسان تضع صورته على بوستر فيلم، أو يكون مركز حملتك الإعلامية، لكن فيليب كان ذا جاذبية مفروضة ودائمة الحضور، ولعل أحد أكثر شخصياته التي كانت تُشعُّ بهذه الجاذبية هو «لانكستر دود» (Lancaster Dodd) في فيلم «The Master»، الرجل ذي الكاريزما منقطعة النظير.
لم يأت اختيار «بول توماس أندرسون» (Paul Thomas Anderson) إياه ليلعب هذا الدور تحديدًا من فراغ بالتأكيد. فمَن مِن ممثلي الجيل الحالي يملك القدرة على أداء دور لانكستر؟
ذلك القائد الجذاب، الواعظ، المتنقل بين الحزم وخفة الظل بكل سلاسة، الذي يقع الجميع تحت لعنة لسانه البذيء وصوته الجهوري، ورغم محبتهم له لا يفقد هيبته، وفوق كل ذلك هو دائمًا، وأعني دائمًا، على بعد لحظة، كلمةٌ خطأ، إيماءة في غير محلها، من الانفجار الكُلِّي، ورغم ثقة جميع من حوله فيه، يعطيك الانطباع بأنه مخادع، بأن هناك أمرًا ما خطأ ومريبًا بشأنه. شخصية بهذه الطبقات المتعددة والمعقدة لن تتكرر كثيرًا، كمؤديها الذي لن يتكرر أبدًا.
لعلي أدخلت نفسي في دوامة حين تحدثت عن أحد أدواره بالتحديد، لكن مع ممثل كهذا لا يمكنك إيقاف نفسك. فقبل أن يلعب فيليب دوره في «The Master»، قدم شخصية «كيدن كوتارد» (Caden Cotard) في فيلم «Synecdoche, New York»، ليجسد شخصية معاكسة تمامًا لـ«لانكستر»، مخرج مسرحي استهلكه عمله تدريجيًّا حتى فقد الإحساس بالوقت، وأصبح لا يكاد يتعرف على نفسه أو على مَن في حياته.
المجنون «تشارلي كوفمان» (Charlie Kaufman) كتب الفيلم وأخرجه، وبطبيعة الحال دور بهذا التعقيد والصعوبة لا يُرجى ترشيحه في المحافل أو حصوله على شهرة عالمية. إنه دور كُتب تحديدًا من أجل «فيليب سيمور هوفمان»، كُتب لممثل بهذه التركيبة الذهنية الصادقة للغاية، الصافية جدًّا.
قد لا أكون أكثر الناس حيادًا حين يتعلق الأمر بـ«فيليب»، لكن غياب مثل هذا الشخص في أي مرحلة عمرية من حياته خسارة فادحة، فكيف إذا حدث ذلك في مرحلة مبكرة للغاية؟
الحياد والإنصاف آخر ما يهمني حاليًّا. «فيليب سيمور هوفمان» ممثل عظيم، ولا أستطيع قول ذلك بشكل كافٍ، لا أستطيع تأكيده بدرجة تُرضي ضميري، لقد استطاع فرض حضوره في كل مشهد أدَّاه أمام أي ممثل أو ممثلة في أي سياق كان.
يقول فيليب في أحد مشاهده بفيلم «Almost Famous»، متحدثًا عن شخصيته وكأنما يتحدث عن نفسه:
«لسنا (كول)، وفيما سيبقى الوصول إلى النساء مشكلة بالنسبة إلينا، فإن أعظم الأعمال الفنية في العالم تتمحور حول هذه المشكلة. الناس ذوو الشكل الجميل ليست لهم شوكة، فنُّهم لا يُخلَّد، يحصلون على النساء، لكننا أذكى منهم».