تنبع أهمية التراث من الأصالة والتفرد. هناك شيءٌ عميق وكثيف يحدث لنا عندما نتمعن في قطعة أثرية ونحن ندرك أنها القطعة الأصلية التي لم يمسها ولم يعدلها أحد، إنها بحالتها الأولى منذ صُنِعت. وتزداد الأصالة كلما مر الزمن على هذه القطعة، لوحة أو تمثال أو أيًّا كان نوعها.
لكن هناك حالة غريبة في الصين واليابان. هناك فقط يُمكن أن يُهدَم معبد عريق له تاريخ، ويعاد بناؤه بمنتهى البساطة. لا يوجد لديهم تقديس لما هو أصلي.
كتب الفيلسوف «بيونغ تشول هان»، أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة برلين للفنون، مقالًا نُشِر في مجلة «Aeon»، يناقش فيه مسألة الأصل وأصالة الأعمال الفنية أيًّا كان نوعها.
تزوير أم إعادة إنتاج؟
حدث في عام 1956 أن أُقيم معرض لروائع الفن الصيني في متحف «سيرنوشي»، وهو متحف للفن الآسيوي في باريس. لكن، ويا للغرابة، سرعان ما اكتشف الخبراء أن اللوحات المعروضة كانت مزوَّرة.
لم تكن المشكلة الأكثر حساسية الصور المزوَّرة، بل إن المزوِّر لم يكن سوى الرسام الصيني الأكثر شهرة في القرن العشرين «تشانغ داي شين»، الذي كانت أعماله تُعرَض في نفس الوقت في متحف الفن الحديث في باريس أيضًا.
تشانغ داي شين هو النسخة الصينية لبابلو بيكاسو، وعندما التقى الاثنان، في العام نفسه الذي اكتُشفت فيه الواقعة لاحقًا، احتفل العالم بلقاء السحاب هذا بين عميدي الفن الغربي والشرقي. لكن بمجرد أن عُرِفَ عن تشانغ أن أعماله الفنية القديمة مزوَّرة، رأى العالم الغربي ما حدث مجرد عملية احتيال جديدة. غير أنه بالنسبة إلى تشانغ كانت هذه الأعمال أيَّ شيء إلا أن تكون تزويرًا. معظمَ هذه الأعمال القديمة لم تكن مجرد نسخ، وإنما نسخ طبق الأصل للوحات مفقودة، إلا أنها معروفة فقط من خلال أوصاف مكتوبة.
يشرح كاتب المقال أنه في الصين كان أغلب جامعي اللوحات من الرسامين. تشانغ أيضًا كان جامع لوحات ذا روح متقدة. امتلك أكثر من أربعة آلاف لوحة، ولم تكن مجموعته تمثل أرشيفًا ميتًا للوحات مغمورة، بل جمع تحف مُعلمي الفن القدماء، فمثلت مجموعته مكانًا حيًّا للتواصل والتحول. هو نفسه كان جسدًا متحولًا، بل فنانًا من التحولات، فاستطاع أن ينزلق ببراعة مُجسدًا المعلمين القدماء وخالقًا نوعًا معينًا من الأصل.
يذكر «شين فو» و«يان ستيوارت»، في كتابهما «تحدي الماضي: لوحات تشانغ داي شين»، أن «عبقرية تشانغ هي تأكيد حقيقة أن بعض عمليات تزويره ستبقى طي الكتمان لفترة طويلة قادمة. فتشانغ تمكن من رسم لوحاته المزورة التي كان جامعو اللوحات توَّاقين لإيجادها عن طريق ابتداع لوحات قديمة مطابقة للأوصاف المُسجلة في كتالوجات اللوحات المفقودة. وفي بعض الأعمال أجرى بعض التعديلات على اللوحات بطرق غير متوقعة تمامًا».
يرى تشانغ أن لوحاته أصلية، بالتعبير التراثي، ما دامت تحمل الأثر الحقيقي للمعلمين القدماء، وتنشر، وتغير أعمالهم بأثر رجعي. ففي رأيه ليست الأعمال المنسوخة هي التي يجب تجنبها والابتعاد عنها واعتبارها منحطة الشأن، بل إن ما ينطبق عليه هذا الوصف هو الأعمال التي لا يمكن إنتاج نسخ منها.
قد يعجبك أيضًا: ما الفن وقد استُهلكت كل الأفكار؟
يوضح المقال أن فكرة «القابلية للنسخ» ركن أساسي في اعتبار العمل الفني قَيمًا أو رديئًا، فلا يمكن تصور هذه الممارسة شديدة الخصوصية المتمثلة في الإبداع المستمر إلا في ثقافة غير ملتزمة بالتصدعات والفجوات الثورية، ولكنها ملتزمة بالاستمرارية والتحولات الهادئة، أي التزامها ليس موجهًا للكينونة والجوهر، بل للمعالجة والتغيير
في عام 2007، عندما عُرِف أن جيش «التيراكوتا»، أو ضريح الإمبراطور الأول «كين» في الصين، لم يكن مصنوعات قديمة عمرها 2000 عام، بل نُسخًا، قرر مسؤولو متحف الإثنولوجيا في هامبورغ الألمانية إغلاق المعرض بأكمله. قال مدير المتحف في ذلك الوقت، والذي بدا كما لو كان مُنحازًا للحقيقة والمصداقية: «توصلنا إلى استنتاج أنه لا يوجد لدينا خيار آخر سوى إغلاق المعرض بالكامل لأجل الحفاظ على سمعته الجيدة»، وعرضت الإدارة تعويض جميع الزوار بسداد رسوم دخولهم.
استمر من البداية إنتاج نسخ متماثلة لجيش التيراكوتا بالتوازي مع عملية التنقيب عنه، وأُنشئت ورشة لعمل نسخ متماثلة في موقع التنقيب نفسه. لكنهم لم يُنتجوا «نسخًا مزورة»، يُمكن أن نقول بدلًا من ذلك إن الصينيين كانوا يحاولون استئناف الإنتاج، فالإنتاج منذ البداية لم يكن خَلقًا، بل استنساخًا. النسخ الأصلية نفسها صُنعت خلال عملية إنتاج ضخمة ومتسلسلة باستخدام أنماط أو مكونات، وهي عملية يمكن أن تستمر بسهولة لو كانت طرق الإنتاج الأصلية متاحة.
يعرف الصينيون مفهومين مختلفين للنسخ:
- المحاكاة المعروفة: حين يكون الفرق بين النسخة والأصل واضحًا، مثل النماذج الصغيرة التي يُمكن شراؤها من أي متجر تابع لمتحف.
- إعادة الإنتاج المُطابق: إنتاج نسخ شديدة الدقة كالأصل وتحمل قيمة مساوية له تمامًا، بالنسبة إلى الصينيين على الأقل، ولم يُمثل لهم هذا المفهوم أي دلالات سلبية على الإطلاق
الاختلاف في الإجابة على سؤال: «ما هي النسخة؟» هو تحديدًا ما أدى إلى حالات سوء الفهم بين المتاحف الصينية والغربية. ففي الغالب يرسل الصينيون نسخًا مُطابقةً للأصل إلى الخارج بدلًا من القطع الأصلية، ولديهم اعتقاد راسخ بأن هذه النسخ لا تختلف عن الأصل في شيء إطلاقًا، وحين ترفض المتاحف الغربية عرضها، يعتبرونها إهانة.
إعادة الإنتاج: تقنية للحفاظ أم تدمير للأصل؟
قضية الأصل والنسخة غير مطروحة في الأساس في اليابان، فهناك نسختان لأي كنز والاثنتان أصليتان. وحين تُنتَج مجموعة جديدة تُدمَّر القديمة.
لا يزال الشرق الأقصى، رغم العولمة، مصدرًا زاخرًا بالمفاجآت والأمور المحيرة.
مفهوم الشرق الأقصى للهوية أيضًا محير جدًّا للمُتلقي الغربي. ويوضح المقال اختلاف مفهوم الهوية في الشرق الأقصى بما يحدث في ضريح «إيسه»، الموجود في معبد الشنتو في جزيرة هونشو اليابانية، ويبلغ عمره 1300 عام بالنسبة إلى ملايين اليابانيين الذين يذهبون إلى هناك كل عام باعتباره مكانًا مقدسًا. لكنه يُعاد بناؤه بأكمله من الصفر كل 20 عامًا.
هذه الممارسة الدينية غريبة على مؤرخي الفن الغربيين لدرجة أن منظمة اليونسكو أزالت معبد الشنتو من قائمة مواقع التراث العالمي بعد مناقشات حادة، لأنه بالنسبة إلى خبراء المنظمة يبلغ عمره 20 عامًا على الأكثر. في هذه الحالة: أيهما الأصل، وأيهما النسخة؟
توضح قصة معبد الشنتو العلاقة العكسية بين الأصل والنسخة، فالفرق بينهما يختفي تمامًا. وبدلًا من وجود اختلاف بين الأصل والنسخة يظهر اختلاف بين ما هو قديم وما هو جديد. وبهذا قد نستطيع القول إن النسخة أصليةٌ أكثر من الأصل، أو إن النسخة أقرب إلى الأصل من الأصل نفسه. كلما أصبح المبنى أقدم كان أبعد عن كونه «أصلًا». فإعادة الإنتاج أو الاستنساخ من شأنها أن تُعيده إلى حالته الأصلية، وبخاصة إن كان لا يرتبط بفنان معين.
لا يعاد بناء المبنى فقط، بل تُستبدل كل كنوز ضريح إيسه. بإمكانك دائمًا أن تجد مجموعتين متطابقتين لأي كنز في المعبد. قضية الأصل والنسخة غير مطروحة في الأساس. توجد نسختان، لكنهما في نفس الوقت أصليتان. المعتاد أنه عندما تُنتَج مجموعة جديدة تُدمَّر القديمة، فتُحرَق الأجزاء القابلة للحرق، وتُدفَن الأجزاء المعدنية. لكن لم يحدث هذا في آخر تجديد للمعبد، لم تُدمر الكنوز وعُرضت في المتحف، ولم يعطل التدمير سوى أن القائمين على المتحف قرروا زيادة قيمة المعرض.
في الغرب يحدث النقيض تمامًا. فعندما تُستعاد قطع أثرية، يكون لها وضع خاص أشبه بالتقديس. الشرق الأقصى ليس على دراية بهذا المفهوم الذي يقدس الآثار الأصلية، بل سعى إلى تطوير تقنية مختلفة للحفاظ عليها، تقنية ربما أكثر فعالية من الصيانة أو الترميم: إعادة الإنتاج المستمر، وهذه التقنية تمحو الفرق بين الأصل والنسخة كليًّا.
ربما يصح هنا أن نقول أيضًا إن الأصل يحفظ نفسه عبر النسخ، مثل الطبيعة.
ففي الكائنات الحية، تحدث عمليات إعادة إنتاج مستمرة للخلايا، وبعد فترة معينة يصبح الكائن نسخةً طبق الأصل من نفسه، لكنه ليس «هو» نفسه لأن الخلايا القديمة لم تعد موجودة، بل حلت محلها خلايا جديدة «طبق الأصل»، وفي هذه الحالة لا يوجد «أصل».
الهوية والتجديد لا يستبعد أحدهما الآخر. في ثقافة مثل الصين واليابان، تمثل إعادة الإنتاج المستمرة مجرد تقنية للحفاظ على الآثار وحمايتها.
هل الترميم يفسد الآثار؟
كاتدرائية فرايبورغ الموجودة في جنوب غرب ألمانيا مغطاة بسقالات في معظم أيام السنة تقريبًا. الحجر الرملي الذي بُنيت به الكاتدرائية مادة بالغة النعومة، ولا تصمد أمام عوامل التعرية الطبيعية من الأمطار أو الرياح، فتنهار بعد فترة. ونتيجةً لذلك تستمر معاينة الكاتدرائية بسبب التلف، وتُستبدل الأحجار المتآكلة. وفي ورش العمل الخاصة بالكاتدرائية يستمر إنتاج نسخ بعدد الأحجار الرملية المتضررة. بالطبع هناك جهود تُبذَل للحفاظ على أحجار العصور الوسطى أطول فترة ممكنة، لكن في مرحلة ما تُزال وتُستبدل.
بشكلٍ أساسي، هذه نفس العملية التي تحدث في الضريح الياباني، باستثناء أنه في هذه الحالة يحدث إنتاج نسخة طبق الأصل ببطء شديد، وعلى مدى فترات طويلة من الزمن. لكن النتيجة واحدة في النهاية، نسخة مطابقة للأصل ومُعادة الإنتاج بنفس الفعالية. ويتخيل الزائرون أن ما يشاهدونه الأصل، لكن ما الذي سيكون أصليًّا في كاتدرائية فرايبورغ عندما يحل الحجر الجديد مكان القديم؟
الأصل شيء خيالي. من الممكن بناء نسخة مطابقة لكاتدرائية فرايبورغ في أي متنزه ترفيهي في الصين. هل هذه نسخة أم أصل؟ ما الذي يجعلها مجرد نسخة؟ ما الذي يميز كاتدرائية فرايبورغ التي في ألمانيا كي تؤخذ على أنها الأصل؟
ماديًّا لا يختلفان بأي شكل من الأشكال، بالذات أن الأصل نفسه سيصبح في يوم من الأيام خاليًا من أي أجزاء أصلية. سيكون المكان وقيمته الدينية وارتباطه بممارسة العبادة هي الأسباب التي قد تفرق بين كاتدرائية فرايبورغ ونسختها المطابقة لها في المتنزه الترفيهي الصيني. ومع ذلك، إذا أزلنا القيمة الدينية للكاتدرائية لصالح قيمتها كمعرض، فقد يتلاشى الاختلاف تمامًا بينها وبين النسخة المطابقة.
بالنسبة إلى ضريح إيسه، فإن الأسلوب المتبع للمحافطة عليه يكمن في السماح لدائرة الحياة بأن تبدأ من جديد مرارًا وتكرارًا. والحفاظ على الحياة لا ضد الموت، بل عبره، ومن ورائه. الموت نفسه بُنيَ في نظام الحفظ، وهكذا يفسح المجال للعملية الدورية التي تشمل الموت والاضمحلال. وفي دورة الحياة غير المنتهية هذه لم يعد هناك شيء فريد أو أصلي أو استثنائي. التكرار والنسخ أسياد الموقف. مثلًا، في المفهوم البوذي لدورة الحياة اللانهائية، بدلًا من الخلق يمكن إعادته أو تكراره. بدل النماذج الأصلية هناك أنماط يمكن إعادة تصنيعها.
«هوانغ وو-سوك» طبيب بيطري كوري بوذي وباحث في الاستنساخ، جذب انتباه العالم بتجارب الاستنساخ التي أجراها في 2004.
لاقى هوانغ قدرًا كبيرًا من الدعم والتأييد من البوذيين، بينما نادى المسيحيون بتحريم استنساخ البشر. وعلى الرغم من أن العالم اكتشف تزويره، فإن هوانغ في الوقت نفسه جعل تجارب الاستنساخ تتماشى مع انتمائه الديني: «أنا بوذي، وليست لدي مشكلة فلسفية مع الاستنساخ. في الأصل، أساس البوذية هو إعادة تدوير الحياة عبر التناسخ. لذا أعتقد، بطريقة ما، أن الاستنساخ العلاجي يعيد عمل دائرة الحياة».
قد يهمك أيضًا: لماذا لا يؤثر فينا الجَمال بطريقة واحدة؟
الصينيون: نعمل كما الطبيعة
جيش التيراكوتا صُنِع من أنماط أو من مكونات مخزَّنة. الأهم في الإنتاج النمطي ليس فكرة الأصالة أو التفرد، بل القابلية للتكرار أو الاستنساخ.
بمعنى أن الهدف ليس تصنيع شيء أصلي وفريد من نوعه، بل الغاية إنتاج كميات كبيرة، الأمر الذي يسمح بالتعديلات والانحرافات. عندما يُعدل الشيء نفسه، يخلق اختلافات. ببساطة، الإنتاج النمطي هو التعديل والتغيير، وبالتالي يُسمح للتنوع بأن يتسلل ويلغي التفرد لأجل زيادة كفاءة الاستنساخ. على سبيل المثال، لم تُخترع الطباعة في الصين بالصدفة، فالرسم الصيني أيضًا يستخدم تقنية نمطية.
بهذا تصعد قضية الإبداع مرةً أخرى في ضوء هذا النوع النمطي من الإنتاج، إذ يصبح الجمع بين العناصر المختلفة وتغييرها أكثر أهميةً من الخلق. هنا تعمل التكنولوجيا الثقافية الصينية مثل الطبيعة. يقول مؤرخ الفن الألماني «لوثر ليدروز» في كتابه «Ten Thousand Things»: «الفنانون الصينيون لا تفوتهم أبدًا حقيقة أن إنتاج الأعمال بأعداد كبيرة يجسد الإبداع أيضًا. إنهم يثقون في أنه، كما في الطبيعة، سيكون دائمًا هناك شيء سينبثق التغيير منه من بين 10 آلاف شيء».
هذا يوضح أن العلاقة بين الفن الصيني والطبيعة عملية، ولا تتسم بالتقليد. الأمر لا يدور حول قضية تصوير الطبيعة على أنها واقعية قدر الإمكان، بل تصويرها على أنها تعمل كـ«طبيعة». تُنتِج الاختلافات المتتالية في الطبيعة شيئًا جديدًا، ودون أي نوع من «العبقرية». يسعى الرسامون الصينيون لمحاكاة الطبيعة من ناحيتين، فهم ينتجون كميات كبيرة لا حدود لها من الأعمال، لكنهم أيضًا يضيفون لكل عمل حالة فريدة، كما تفعل الطبيعة في خلقها الاستثنائي للأشكال. حياة كاملة مكرسة للتدريب على الحساسيات الجمالية تمكِّن الفنان من أن يقترب من قوة الطبيعة.