تاريخ طويل يربط بين الأم شمس وابنها، تاريخ لا نراه لكنه مختزل في نظراتهما، رعايتها الدائمة لها، تطعمه في الصباح والمساء، وتوصله إلى عمله، تنفق عليه الأموال، كأنها لا تزال تراه صغيرًا، طفلها الوحيد الذي لم يكبر بعد، إلى أن تصطدم بالحقيقة، أنه آن له أن يكبر ويحلق بعيدًا عنها، بعيدًا جدًا، لتبدأ صراعها الأمومي بين حياتها وحياة ابنها الوحيد.
في ثاني أعمالها السينمائية القصيرة «نور شمس»، تقدم المخرجة السعودية فايزة أمبة تجربة فنية تتماس مع مشاعر إنسانية خاصة وحميمة، في صراع يحمل الكثير من المعاني التي تتماس مع الجمهور الذي يشاهده أيًا كانت جنسيته، صراع الباحثين عن ذواتهم، كيف تبحث عن ذاتك دون أن تترك أهلك يحترقون بنار قراراتك الشخصية؟ كيف تصبو إلى أحلامك ويقبلك الآخرون؟
ابن شمس الباحث عن ذاته
رسمت فايزة أمبة شخصية الابن بتفاصيل تعزز رغبته في بحثه عن ذاته، بين عمله في المستشفى وحبه لكتابة وغناء موسيقى الراب، صراع ترفضه الأم شمس التي لا تريد لابنها أن ينحرف عن المسار التقليدي للحياة، تدفعه إلى أن يكون عاديًا ولا يتشبث بأحلامه التي لن تفيده في مستقبله، ومن جهة أخرى كشفت لنا الطبقة الخفية من صراع الأم التي ترفض أن ترى الأشياء بعين ابنها.
اختيار موسيقى الراب بالتحديد لتكون شغف الابن هو جزء من رسم شخصيته، التي تفتش عن ذاته الغائبة في نوع موسيقى هو في الأساس يعبر عن الصراعات الشخصية لصاحبها، يفتش عن نفسه في الكلمات التي يكتبها، يسعى إلى السفر بحثًا عن أحلامه المفقودة التي ترفضها الأم.
يتجلى صراع الفيلم في رفض الأم سفر ابنها، تخبره أنه سيبتعد ويهجرها كما فعل أبوه من قبل، وكأن البعد يشعل هواجسها التي تفقدها شعورها بالأمان، هنا تتفجر الأزمة، تمسك بجواز سفر ابنها، تتحكم في مصيره، وتقاوم رغبتها في تمزيق الجواز كأنها تقص أجنحة أحلامه.
رفض الأم لسفر ابنها يضعها في دائرة الكراهية، لماذا تمنعه من عيش حياته بالشكل الذي يريد؟ يبدو الأمر قاسيًا، لكن الأم لها حكاية موازية نراها بعيونها.
شمس والشعور الدائم بالرفض
في إحدى جلسات شمس مع ابنها تحدثه عن أبيه الذي مات وهو صغير، تتحدث عنه بنبرة حنين بادية، يسألها الابن لماذا تزوجته، فتجيب بانكسار «هو الوحيد اللي حسسني إن أنا جميلة»، وهذه الجملة بالتحديد هي التي تكشف لنا الصراع الداخلي لشمس والذي يرافقها طيلة حياتها.
لم تكن شمس امرأة جميلة في عيون المحيطين بها، حتى أمها في صغرها كانت تخبرها أنها «عبدة» لن تجد من يحبها ويتزوجها، وهو نفس السبب الذي دفعها للزواج من أبي ابنها الغائب، الذي شعرت معه بأنها مرغوب فيها، جميلة بحسب قولها، لكنه بمرور الوقت تخلى عنها، أعاد الكرة من جديد وتركها ورحل، ليعزز داخلها الشعور بعدم الرغبة والرفض اللذين يلاحقانها على الدوام.
يتكرر نفس الشعور على مدار الفيلم في تيمة مرتبطة بشمس، وهي الحلوى الإفريقية التي تصنعها. تعمل شمس سائقة في شركة توصيلات خاصة بالسيدات، وتصنع لزبائنها الحلوى التي لا يحبها أحد، وفي كل مرة يرفضن أن يأكلن منها، حتى ابنها لا يحب هذا النوع الغريب من الحلوى، يرفضه ويأكل الحلوى الجاهزة. يتكرر الأمر في العديد من المشاهد، وهي تفصيلة درامية تعزز داخل الشخصية الشعور بأنها مرفوضة حتى في أبسط الأشياء، صناعة الحلوى التي تحبها، وكأن هذا الرفض يغرز أنيابه بداخلها، رفضها يخصها بالأساس.
انطلاقًا من رفض الحلوى إلى رفض الزوج والابن العيش مع شمس والسفر بعيدًا، تتحول شمس إلى صخرة كبيرة، يغمرها الشعور بالثقل، كأنها مقيدة في جسدها، عيونها على المحيطين لكن لا أحد يلتفت لها أو يفهم رغباتها، أو حتى يبتسم في وجهها امتنانًا. ما يؤلم شمس هو شعورها الدائم بالإيثار، تعطي ولا تأخذ شيئًا في المقابل، حتى جاءت اللحظة التي سرق فيها الابن شبكتها فشعرت بالهشاشة، وأنها لا تعطي الآخرين فقط، بل يُسلب منها أثمن الأشياء. هنا يتبلور السبب الرئيس الذي دفع أزمة الصراع إلى ذروتها مع ابنها، فتتمسك برفضها لسفره بعيدًا عنها، وهو الشيء الوحيد الذي تملك زمام أمره، أن تمنعه بأخذ جواز سفره، وتضعه أمام الأمر الواقع.
هنا تصل شمس وابنها إلى نقطة أصبحا فيها بعيدين جدًا رغم القرب الشديد.
الصورة تختزل الوحدة
ليست بالكلمات وحدها تُحكى الأفلام، بل بالصورة أيضًا، وهذا ما أجادت مخرجة الفيلم توظيفه لتقدم لنا لقطات متكررة للشخصيات ولشوارع المدينة يطغى عليها الشعور بالوحدة، شعور نشعر به دون الحاجة إلى كلمات.
الشخصيات دائمًا في عالم خاص بها، حتى المشاهد التي تجمع الأم بابنها لا تخلو من لقطات قريبة تركز على وجهيهما كأنهما كيانين منفصلين، وهو توظيف يعكس حالة الوحدة التي تغرق فيها الأم من جهة، والابن الرافض لحياته من جهة أخرى، كأنه لا مجال أن يلتقيا معًا في كادر واحد.
حدث هذا في مشهد النزهة الخلوية التي جلسا فيها أمام البحر، لحظة صافية يستدعيان فيها ذكريات بعيدة، لحظة صافية ومشهد مهم يفصل بين هذه اللحظة المفعمة بالمحبة، والتصاعد الدرامي اللاحق الذي سيؤدي إلى التوتر الكامل في العلاقة بين شمس وابنها، والذي ينتهي بترك الابن للبيت وبقاء شمس وحيدة، تعيد حساباتها، تتأمل الشوارع والطرق الطويلة التي تقطعها ليل نهار من أجل العمل، وتعيد حساباتها في نظرتها إلى العالم بعيون جديدة، هذه المرة هي عيون الابن.
نشعر بالتغيير عندما تشاهد شمس القناديل النحاسية المعلقة على جانب الطريق، لا تفهم لماذا تعجب ابنها هذه القناديل التي يكسوها الغبار. لكن في الليل، في الجزء الأخير من الفيلم، ترى شمس القناديل مضاءة، تتلمس جمالها والألوان التي تعكس البهجة على الطريق الطويل، فتعرف أن ابنها صادق في ما قال، ولأول مرة ترى الأشياء بعينيه، وتتقبلها.
اختارت فايزة أمبة نهاية سعيدة لقصة شمس، والسعادة ليست في عدم سفر الابن وانتصار رغبة الأم، بل في تقبل الأم لابنها، وتقبل رغبة كليهما في تحقيق أحلامهما التي بدت مستحيلة. تترك شمس جواز السفر لابنها برضًا تام، بينما تدفعها الصدفة في نهاية الفيلم إلى الوقوف أمام محل معروض للبيع لترى ابتسامة شمس، ابتسامة أمل في تحقيق أحد أحلامها الغائبة.
يتركنا الفيلم أمام الابتسامة، وعقولنا تتخيل أنها ستشتري المحل وتبيع فيه أكثر شيء لا يحبه الناس، الحلوى الإفريقية، لا يهم، المهم أن تحقق أحلامها هي وتصنع الشيء الذي تحبه.
في هذا المشهد يتبلور التغير الطارئ على شخصية شمس، فقد تخلت تمامًا عن شعورها بالرفض، قاومته بالسير فوقه، ومعاندته، والسعي لتحقيق حلمها حتى لو بدا غريبًا في عيون الآخرين، تمامًا كما تركت ابنها يحقق حلمه حتى لو بدا الغناء أمرًا غريبًا في عينيها.
شارك الفيلم في مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الجونة السينمائي 2021، وحازت الممثلة السعودية عائشة الرفاعي على تنويه خاص عن تمثيلها لدور الأم في الفيلم.