ميحانة ميحانة: رحلة في حياة وفن ناظم الغزالي

فيصل خاجة
نشر في 2016/04/07

لم يستسلم لظروف نشأته الصعبة، ولا لكونه يتيمًا، كما لم يستسلم لتوقّفه في التعليم النظامي عند المرحلة المتوسطة، بل راح يقرأ كل ما يصادفه، وينمّي في الوقت ذاته ميوله الفنية، متخطيًا عقبة تلو أخرى، بطموح لا محدود، وعناد لا يلين، حتى أصبح سفيرًا للأغنية العراقية، بموهبة تخطّت حدود الزمان والمكان.

النشأة

وُلد ناظم الغزالي سنة 1921 في منطقة الحيدر خانة بالعاصمة العراقية بغداد، وسط ظروف عائلية ومادية صعبة، فقد خرج إلى الحياة يتيم الأب، وحينما أبصرت عيناه النور، اكتشف أن والدته ضريرة، وبالكاد تمكّن من إكمال دراسته الابتدائية والمتوسطة، ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، وتتلمذ على يد مؤسس المسرح العراقي حقي الشبلي، رغم المعارضة الشديدة من أسرته المحافظة، ومن عمّه تحديدًا الذي قال له يومًا «عائلتي لا يوجد فيها قراقوز!» كناية عن امتهان الفن!

شاهد الدقيقة الرابعة من المقابلة

ورغم تنبؤ الفنان المسرحي الكبير حقي الشبلي له، بأن يكون ممثلًا واعدًا، يمتلك مقومات النجومية، فإن الظروف المادية القاسية التي تردد بسببها كثيرًا في الالتحاق بالمعهد، عادت لتجبره على تركه، ليعمل مراقبًا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة بغداد، خلال الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعه من المواظبة على تتبع الفن والقراءة فيه، حتى إذا ما أتيحت له العودة مجددًا بعد تحسن نسبي في وضعه المادي، عاد بهمّة ونشاط، مدعومين بموهبة تفور في صدره راغبة في أن تملأ الأسماع.

في «مجنون ليلى» أظهر نبوغًا مبكرًا في إدراك معاني الشعر وارتباط الغناء بالدراما

وعند بلوغ «ناظم» عامه الحادي والعشرين، تحديدًا في عام 1942، شارك في مسرحية بعنوان مجنون ليلى لأحمد شوقي، وغنّى فيها أنشودة الحادي «مَن يقود الجِمال في القافلة» من ألحانه، ليترجم من خلالها نبوغًا مبكرًا في إدراك معاني الشعر وارتباط الغناء بالمشهد الدرامي، «من مقام الهزام» ويطلق عليه في العراق «مقام الركباني».

أغنية هلا هلا هيا

هلا هيّا اطوى الفلا طيّا

وقربي الحيّا للنازح الصبِّ

جلاجلٌ في البيدْ شجيّةُ الترديدْ

كرنّة الغِّريدْ في الفَنن الرَّطب

أناح أم غنّى أم للحمَى حنّا

جُلَيجلٌ رنّا في شُعَب القلب

هلّا هلا سيري وامضي بتيسير

طيري بنا طيري للماء والعشب

طيري اسبقي الليلا وأدركي الغَيلا

العهدَ من ليلى ومنزلَ الحبِّ

بالله يا حادي فتِّشْ بتوباد

فالقلب في الوادي والعقلُ في الشِّعب

يا قمرا يبدو مَطلعُهُ نجدُ

قد صنع الوجدُ ما شاء بالركب

لم يتزوج سليمة مراد

maxresdefault-8

في عام 1948 تقدم إلى اختبار الإذاعة والتليفزيون ليتم اعتماده مطربًا مع انضمامه لفرقة الموشحات، بقيادة الفنان السوري الشيخ علي الدرويش الحلبي «1884 – 1952» الذي يعدّ الأب الروحي لكثير من الفنانين، ومنهم محمد عبد الوهاب، حسب شهادته الصوتية في الفيديو التالي:

نبذة عن الفنان علي الدرويش

وعند بلوغه سنة الثلاثين عام 1952، بدأ ناظم الغزالي بنشر سلسلة من المقالات في مجلة النديم الأدبية، جُمعت لاحقًا في كتاب اسمه «طبقات العازفين والموسيقيين من عام 1900 إلى 1962»، في الإنترنت صفحات منه، إلا أن النسخة الكاملة ليست متوافرة، وفيها يبدي رأيه الفني في مختلف الفنانين، وما يقدمونه من أعمال.

كشف الملحن الرئيسي لناظم أنه لم يتزوّج سليمة مراد لكنهما عاشا كالأزواج

بعدها في سنة 1953، ارتبط بالفنانة الشهيرة «سليمة باشا»، قبل أن تُجرّد من اللقب لاحقًا بفضل الثورة البائسة، لتعود سليمة مراد، أستخدم هنا مصطلح «ارتبط» وليس «تزوج» مثلما تذكر غالبية المراجع المتاحة مع الأسف، ظنًا منها أنها تجمّل تاريخ هذا النجم البارع، وأستند في ادّعائي هذا على مقابلة أُجريت مع قائد فرقة ناظم الغزالي، وهو «ناظم نعيم» (1925 – الآن) والملحن الرئيسي له، منتصف الستينيات، بعد وفاة ناظم الغزالي بسنوات قليلة، والذي قال بوضوح إنه لم يتزوّجها، ولكنهما عاشا كالأزواج!

قد يهمك أيضًا: أصوات نسوية متمردة فوق مسرح الموسيقى المستقلة

دويتو بين ناظم وسليمة في أغنية جان القلب ساليك

جلسة خاصة للثنائي، وكان الشراب حاضرًا!

ويمكن القول إن هذا الارتباط انعكس بشكل إيجابي فنيًا على ناظم، فنشط بشكل هائل، ليتجاوز رصيد أغانيه المسجلة الـ 200 أغنية، خلال السنوات العشرة ما بين 1953 و1963، والتي تفاوتت شكلًا ومضمونًا.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الأغنية البغدادية «وليست العراقية» السابقة لعهد ناظم الغزالي، كانت أكثر تقليدية، بحيث يؤدى المقام وفق أنماط محددة، وكانت لناظم تجارب في بداياته لتأدية المقام التقليدي، ومن ثمّ اتجه إلى الأغنية الحديثة المتحرّرة من القيود التقليدية من حيث المقام والأداء والآلات والكلمات.

اقرأ أيضًا: كيف يُستهلك الكحول في الدول العربية التي تمنعه؟

لماذا تميّز عن غيره؟

10861046_10152952618042048_6043518563540167355_o

قبل إعطاء بعض الأمثلة على أعماله، يجب التنويه ببعض أهم أسباب تميّزه وتفوقه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

  1. صوته كان بطبقة «تينور»، وهي طبقة رفيعة تُشتهر غالبًا بحدّتها، وتميز في هذه الطبقة على وجه الخصوص بصفاء ووضوح كبيرين، جعل أداءه محببًا للأسماع.
  2. النطق الصحيح والصريح لمفردات الشعر.
  3. اطّلاعه على الأدب وحسن اختياره الكلمات الغنائية، ما يجعل أداءه التعبيري أكثر صدقًا وتأثيرًا.
  4. اطّلاعه على التراث الموسيقي والغنائي، واستفادته منه في تنويع موهبته وأدائه.

أمثلة متنوعة لأعمال ناظم الغزالي

nathem-alghazali-010-960x900_c-2

مثال 1: المقام التقليدي

مقام مدمي - يا دمعة العين

يقال إن أساس تسمية هذا المقام بالمدمي، لأنه يدمي القلب، موسيقيًا ينتمي إلى مقام الحجاز، لكن له اشتراطات أخرى مثل ضرورة وجود الإيقاع غير الملازم للغناء، في حين أن الجمل الموسيقية «اللزمات» تؤدي بالاجتماع، مع ضرورة أدائه بمصاحبة شعر من نوع «الزهيري» ويبدأ هذا المقام بلفظة «أي ولك يابه».

*مقام المدمي من ابتكارات أسرة (عبد الباقي الحكيمي البغدادي) والتي كانت تمارس مهنة الطبابة مع الموسيقى في القرن الثامن عشر.

للشاعر المعاصر عريان السيد خلف

يا دمعة العــين هــلي بكل وكت وانــــسلي

ويا روحـــي ذوبي على فراكَـ الولف وانسلي

آنه شمعتي انطـفت جانت ضيه وونسه لي

وأيـــــام الأفــــراح بـــــدلها زمــــــاني بــألم

كـــثرت جروحك يكَــلبي حرت شداوي وألم

درسي صــــفه بهالأتى ودروس غيـري بلم

نشــــرح بالأحـــزان عـــن ذكراكم وانسلي

مثال 2: قالب جديد

يا تين يا توت يا رمان يا عنب

شكل جديد للأغنية ما بين موال وجملة موسيقية متكرّرة، بتناوب مستمر، وهي من أشعار حافظ جميل ١٩٠٨-١٩٨٤، وقد انتقى ناظم التالي من أبياتها:

يا تين يا توت يا رمان يا عنبُ

يا خَير ما أجْنَت الأغصان والكُثـُبُ

يا مشتهَى كلِّ نفسٍ مسَّها السَّغَب

يـا بُـرْءَ كلِّ فؤادٍ شبَّـهُ الوَصَبُ

***

يا تينُ سَقيًا لِزاهي فَرعك الخَضِلِ

يـا وارفَ الظلِّ بينَ الجِـيدِ والمُقَلِ

هفَـا لكَ التوتُ فاغمُر فـاهُ بالقُبَـلِ

فالكَـرْمُ نشوانُ والرمـَّانُ في شُغُـلِ

**

يا تينُ زِدْني على الأكدار أكدارا

ولا تَـزدْني تَعِـلاّتٍ وأعـذارا

هَبْـني هَزارًا وهَبْ خدَّيْـكَ نُوَّارا

فهل يَضِيرُكَ طيرٌ شَمَّ أزهارا

***

نـاداكِ بِـالتـِّين يـا لَيـْلَى مُنـادِيـكِ

والتِّينُ بَعضُ جَنَى الأَطياب مِن فِيكِ

لو كان يُجْدي الفِدا في عَطْفِ أهْليكِ

لَرُحْتُ بـالرُّوحِ أفـْديـهم وأَفـْديـكِ

***

كتَمْتُ حُبَّكِ عن أهلي ولو عرَفوا

شـدَدْتُ رَحْـلي إلى بغـدادَ لا أقِفُ

هَذِي دُمُوعي على الخدَّيْنِ تنذرِفُ

يا مُنْيةَ القَلْبِ هل وَصْلٌ وأنصرِفُ؟

مثال 3: أغنية عصرية

أحبك وأنا أريد أنساك

تماشيًا مع موجة العصر والأغنية السريعة (آنذاك)، ولكم الحكم عليها!

هل رحل ناظم أم قُتل؟

maxresdefault-5

في لغة القانون، هناك دلائل وهناك قرائن، أنا أزعم أن وفاته لم تكن طبيعية استنادًا إلى قرائن لا دلائل، وهذا ادّعاء شخصي، لا أستطيع تأكيده أو نفيه، ولكن بالاطلاع على 5 معطيات، أترك لكم الرأي:

  1. ميله الشيوعي وغناؤه وتمجيده مرارًا للزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم في أواخر الخمسينيات، إذ لم يغنِّ للملكية.
  2. مطالبة عبد الكريم قاسم بضم الكويت 1961.
  3. الثورة المضادة لقاسم 1963 وإعدامه وإعدام عدد كبير من الشيوعيين.
  4. غناؤه في عام 1963 بمناسبة استقلال الكويت في مسرح سينما الأندلس شهر يونيو، وهو ما تعارض مع مطالبة قاسم بضم الكويت.
  5. وفاة ناظم الغزالي بعمر صغيرة، 42 عامًا، دون سبب واضح. قيل إن سكتة قلبية أودت به خلال حلاقته لحيته في المنزل، في غياب سليمة مراد، فور عودته من رحلته الفنية إلى لبنان والكويت 1963.

على الرغم من قِصر الفترة التي عاشها الاستثنائي، ناظم الغزالي فإن مسيرته كانت زاخرة، وما سبق مجرّد تمهيد لتناول حصيلة هذا الفنان متدفق العطاء، على أمل بالإبحار في جوانب أخرى من كواليس حياته,

مواضيع مشابهة