«لم يبقَ من الضحايا سوى جلاديهم.. بلاد كلها نكد في نكد».
بعد ستة أعوام من ترشحها في 2017 كأول كاتبة ليبية في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عن روايتها «زرايب العبيد» التي تحكي تاريخ العبودية في بلادها، تعود الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان بروايتها الأحدث «كونشيرتو قورينا إدواردو» الصادرة عن منشورات تكوين عام 2022، لتستأنف من حيث وقفت وتواصل المنافسة هذا العام.
الرواية حكاية إنسانية بلغة عادية مباشرة عن عائلة تشرذمت بفعل التحولات السياسية الكبرى، وربما الدينية أيضًا، التي شهدتها الأرض وعاشها الإنسان منذ الزحف الأخضر في السبعينيات ولمدة أربعة عقود. هي سردية تأريخ أدبي لليبيا حتى الثورة على القذافي في 2011، نطالعها من خلال عائلة كوزموبوليتانية تجمع بين الأصالة المحلية والجذور القريتلية (نسبة إلى جزيرة كريت)، والسفر والترحال إلى بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، غير أنها تفتقر للنفوذ القبلي حيث تعيش لأنها لا تنتمي إلى قبيلة.
يشكل الزمان والمكان محور الأحداث في النص، الذي هو حكي زمني متفرق جاء في 29 فصلًا وعبر 312 صفحة. هذا هو القدر الذي تعزف فيه التوأمتان معزوفتهما الموسيقية الحزينة عن ليبيا للابنة قورينا المقيمة في إيطاليا أملًا في عودتها ذات يوم. ويرجع الاسم إلى مدينة «قورينا» الأثرية التي أسسها الإغريق، وتُعرف أيضًا باسم «شحات» في شرقي ليبيا، والتي أدرجتها منظمة يونسكو ضمن قائمة التراث العالمي قبل عقود.
في العائلة، تبدو ظاهرة التوائم جلية. التوأمتان اللتان خرجتا إلى الدنيا عام 1977 شديدتا الشبه للناظرين، حتى في «التأتأة»، بما يجعلهما يتبادلان الأدوار أحيانًا ويتناوبان لإكمال ما بدأت الأخرى. يتبادلان حتى دور الراوي نفسه في الرواية الزمكانية فتختلط عليك القراءة. تزيدك الكاتبة من الإرباك بيتًا حين تتعرف في الفصول المتأخرة على اسمي التوأم الذي ذُكر أحدهما في الإهداء. عندها يُثار تساؤل عن حقيقة «ريم» ومدى معرفة الكاتبة بها، أم تُرى الإهداء حملها على سبيل التشويق الروائي فحسب؟
في العائلة النموذج لشعب يدفع ضرائب الحياة بأشكال متعددة، يدفن الأب ابنه ويشي بالآخر خوفًا عليه، فيما تدفن الأم ابنتها وتودع أُخريين آملة لهما في الحياة لكن القدر يسبقها بالكلمة، كما تفقد ابنًا للتطرف المسلح.
عواصف «القائد»
تسكن العائلة الثرية منطقة جليانة في مدينة بنغازي التي بنى فيها الجد عمارة على طراز يوناني فاخر، ومنطقة الفويهات التي شيد فيلاتها في الستينيات حين كانت أرضًا بكرًا تحولت مع الوقت من ضاحية جديدة أقرب إلى الغابة، إلى مقر عدد من السفارات والقنصليات الأجنبية. يرجع سبب تسميتها إلى «الفوهة» أي الحفرة في الأرض، حيث حفرت إبان فترة الاستعمار الإيطالي آبار في هذه المنطقة لتزويد المدينة بالمياه.
تمر العائلة بمحطات عدة في قالب التحولات السياسية التي تعصف بالبلاد، حتى تفتقر وتكون نموذجًا لعزيز قوم ذل، بفقد وإهانة أفراده تارة وبضيق العيش تارة أخرى.
في العائلة النموذج لشعب يدفع ضرائب الحياة بأشكال متعددة، يدفن الأب ابنه ويشي بالآخر خوفًا عليه، فيما تدفن الأم ابنتها وتودع أُخريين آملة لهما في الحياة لكن القدر يسبقها بالكلمة، كما تفقد ابنًا للتطرف المسلح.
بوتيرة صاخبة تستمر بثبات في النصف الأول، تبدأ الرواية من السبعينيات حين «ركبت ليبيا باصًا اشتراكيًّا مهترئًا وسلكت طريقًا مجهولة على يدي سائق أرعن لا يمكن الوثوق بسلامته العقلية». طال الزحف الأخضر مصنع العائلة للملابس الجاهزة، بل وزحف على كل أخضر حتى غدا الإفلاس واقعًا بين ليلة وضحاها.
صار الحق هو ما تقرره الدولة فالناس شركاء لا أجراء، سواسية في عصر الجماهير. وأصبح الناهبون لصوصًا بالقانون الذي جعل السرقة مُشرعنة. وفي إشارة ذكية، تلفت الكاتبة النظر إلى نهب ممتلكات اليهود على يد المتنفذين بعد رحيلهم عن ليبيا.
يلجأ الابن إلى الحيلة كي لا تسطو «الخردة البشرية الشرهة للنهب» أو «مجتمع البلاطجة الجدد» على مصنعه وتحوله «تشاركية» تكلفه حياته. يعود الجد صاحبًا لدكان أقمشة في سوق الجريد. تضم العائلة مسكنها للاستفادة من ريع الآخر. يترك الابن المدرسة ليعمل في الدكان بينما تتعلم «المتأتئة» الخياطة لتساعد في المصاريف. القصة ليبية النكهة لكن السيناريو ناصري بالأساس.
في الثمانينيات، نشهد أزمة نقل التلاميذ من المدارس إلى معسكرات التدريب في الصحراء تمهيدًا للقتال على الجبهة ضد تشاد. وتعيش العائلة عشرية الحصار السوداء إلى التسعينيات إثر أزمة لوكربي. تعاني من سياسة تقشف غدت معها الحياة عقابًا في ظل حصص شهرية من المؤن وسوق سوداء تسيطر عليها مافيا عسكرية تسرق الجمعيات الاستهلاكية، وتضرم النار فيها ثم يُقفل الحادث «تماس كهربائي». يختصر بعضًا من المأساة ما جاء على لسان الراوية: «أحد أولاد عمتي لا يعرف ما الموز لأنه ولد في الحقبة الخالية من الفاكهة».
في الفويهات، تتحول المساحات الخضراء إلى دكاكين للإيجار. للعائلة أيضًا نصيبها من ضحايا ليلة الحقن الغامضة أو ما عُرف لاحقًا بقضية أطفال الإيدز.
الأدب الليبي
الحضور الليبي النسائي في الجائزة العالمية للرواية العربية تمثله بن شتوان مرتين في القائمة القصيرة، إضافة إلى عائشة إبراهيم مرتين في القائمة الطويلة بروايتيها «حرب الغزالة» في 2020 و«صندوق الرمل» هذا العام وقبلها رزان مغربي بروايتها «نساء الريح» عام 2011، ولم يفز سوى الليبي محمد النعاس بالجائزة فعليا عام 2022 عن روايته «خبز على طاولة الخال ميلاد».
تقول بن شتوان في حوار لها قبل شهور مع تلفزيون بي بي سي العربية إنها تكتب بسقف حريات مرتفع وهي في إيطاليا، إلا أن الأهم من الحرية هو توفير الحماية لمن يمارسها وهو ما تحظى به هناك. في روايتها البوكرية السابقة «زرايب العبيد» نجدها قد استخدمت اسم عائلتها «بن شتوان» كلقب الشخصية الأساسية في الرواية. السبب في ذلك هو تحايل على الرقابة الاجتماعية وتجنبًا للمقاضاة إذا ما استخدمت اسمًا ليبيًّا آخر، وتقدم لاحقًا بدعوى ضدها، لما قد يحمله ذلك من اتهامات مبطنة باتخاذ عبيد.
قضية أخرى تتناولها بن شتوان من المهجر، وبعيدًا عن الرقابة الاجتماعية، هي قضية الزواج بين الأديان إذ تُضمِّن في روايتها علاقة حب بين بطلتها العربية المسلمة ورجل غربي مسيحي. البطلة كما رسمتها شخصية تلازمها التأتأة وما يجلبه ذلك عليها من سخرية وتنمر في مجتمعها العربي طيلة حياتها. أحلام كثيرة ربما عليها التخلي عنها أمام هذا العيب، منها الحب والزواج، فأي أمل في الزواج لمثلها؟ كان الجد هو من قدَّم لها دعمًا لا سقف له حتى قالت عنه: «كان جيشي الذي واجهت به الحياة». بموته تيتَّمت ثانية، لكن الدنيا جادت عليها بالبديل: إدواردو.
لماذا هو بالذات؟ «إدواردو فاجأني بسلوك مغاير لسلوك الرجال لدينا، يفضلون أنثى صامتة تسمع لهم فقط وإن تكلمت تضايقوا، وفتشوا في كلامها عمَّا يُحدِث مشكلة تجبرها على السكوت أو عدم تكرار ظاهرة التكلم ثانية. إدواردو أعطاني وقتًا للحديث وهو يعي أني متأتئة».
تقول عنه: «كان إدواردو الكراميلا التي نكهتني وحلت رضابي (لساني) وفكت عقدة لساني فابتلعتها بمهل، ومضيت لحياتي كي أعيشها»، أخفته عن أمها وأخيها خوفًا من ردة فعلهما إن علما أنه ليس على دينها.
بين حالي الشقيقين منعطفات عدة وانتكاسات نفسية. ما جمعهما كان الغضب الشديد من الجماهيرية الثورية أو من الله، قبل أن يمرّ كلٌ منهما بغسيل مخ ثوري أو ديني.
تحولات الشخوص
لا نشهد في شخصيات الـ«كونشيرتو» تحولات جذرية في التوأم الراوي، بل سيرة كل منهما تمضي بهدوء وربما بعض الرتابة حتى تكاد تشعر بأنهما غير فاعلتين في الأحداث، بل ترويانها على مسافة لا عن قرب. التحول كله نراه في شقيقيهما أيوب وأمينة اللذين مثَّلا بداية فقدان الوئام العائلي، إلى أن انتهى الأمر بالأسرة إلى وضع خريطة توزيع أفرادها على العالم طلبًا للنجاة.
أيوب غليظ الطباع مائل للعنف منذ الصغر، قيادته متهورة وسيارته ترجها الموسيقى الصاخبة، يسمع إلفيس بريسلي وبوب مارلي ويشاهد أفلام الويسترن، لكن ينتهي به الحال إلى حمل السلاح في الثورة ومبايعة التنظيم بعد أن لبس السروال القصير والجلابية البيضاء. تتحول العائلة بذلك إلى «عائلة أحد الإرهابيين الذين يتحدث الجميع عن فتكهم بالأبرياء».
العائلة نفسها تزوجت إحدى حفيداتها من رجل أعمال ينتمي للحرس الثوري فنبذته كأن لم يكن، كعائلات كثيرة في بلادنا العربية تجمع في أعضائها بين الخصوم المتحاربين لا المختلفين فحسب.
أما أمينة فمن عالم محجوب بين ضفاف المجلات الأجنبية وأشرطة الكاسيت والنكات المشفرة إلى جانب الموضة والعطور والأفلام، تركته وانتقلت إلى مربع الاتشاح بالسواد بقالبه النمطي المُنفِّر بعد إتمام عُمرتها الأولى، ثم تزوجت زواجًا عائليًا صار وقتها بعده مُقسمًا بين المخدع والمطبخ، وصارت ولَّادة.
بين حالي الشقيقين منعطفات عدة وانتكاسات نفسية. ما جمعهما كان الغضب الشديد من الجماهيرية الثورية أو من الله، قبل أن يمرّ كلٌ منهما بغسيل مخ ثوري أو ديني.
تُرجع بن شتوان، وهي أكاديمية تعيش في إيطاليا إلى جانب كونها كاتبة، هذا التحول إلى التشدد الديني الذي بدأ مع موجات الحج وتفشى معه القُبح في البلاد، لكن حجم التحول في الشخصيتين أكبر مما ذُكر بين طيات السطور التي لم تُمهِّد له كفاية وصنَّفته بحدة دون التعرض لعملية التحول ذاتها وتدرجاتها فجاء وكأنه وقع بين عشية وضحاها.
النص حوى بعض التكرار للمعلومات، وشخوصًا هامشية مُسمّاة دون داعٍ، وحشو لا طائل منه في النصف الثاني خصوصًا رُغم البداية القوية، كما أن بعض الأحداث لا يمكن للراوي التوأم أن يعرفها فقد جرت بعيدًا عنه مثل زواج الجد من فتاة ريفية في مصر دون أن يسافر أي منهما معه لكي يشهدا ما حدث.
في 2011، قامت الثورة في ليبيا وسرعان ما تحولت إلى حرب طالت، ذلك لأن الجيش يساوم بها سياسيًا ولا يريدها أن تنتهي، حسبما جاء في «كونشيرتو قورينا إدواردو».
«وأنَّى لثورة أن تنجح ونصف الشعب كلاب بوليسية للكلب الحاكم».
هذه المراجعة جزء من ملف جائزة البوكر العربية: «منشور» يراجع الكتب المرشحة في القائمة القصيرة.