محمد هشام المغربي: شاعر بين العتبات والصيحة

الصورة: AlJarida - التصميم: منشور

سعد الياسري
نشر في 2021/07/06

للشاعر الكويتي محمد هشام المغربي (1982) منزلة خاصة في الشعر الكويتي المعاصر، يدركها متابعو المشهد والحريصون على دراسة النص الشعري الكويتي من بعد العام 2000، إذ دخل الساحة الشعرية قبل عقدين من الزمان، مستمرًا حتى يومنا، بحصيلة ست مجموعات شعرية، بالإضافة إلى رواية واحدة.

الفتى على العتبات

شاعر ذو نص لافت، ومقدرة تتوخى المغامرة والحداثة بقدر ما تقتفي أثر الأوائل برصانة. أما لغته فلها ثوبها المنسوج بروية، بينما معجمه المعجون بالجديد والتراثي تنساب روحٌ من أطرافه ومطوية أسئلة إجابتها في المزيد من الأسئلة.

أصدر المغربي ديوانه الأول «على العتبات الأخيرة» في العام 2001، حين كان لا يزال فتى دون العشرين من عمره، وقد استعار في بعض نصوصه ميراث حسرات السياب (الأب) الذي سيعيش مع نصه طويلًا، وسيخاطبه مرارًا. لكنه، مذاك، اتكأ على لكنته الشاعرة الخاصة، ليأتي كما هنا قابضًا على لحظة الميقات العزيزة:

«الفجرُ أطلق ضوءَه السفاح يغتال الظلام.

وأنا يفاجئني وميض الصبح؛

والقمر الشحيب يكاد يهوي خائفًا،

مما يهيل عليه وجه الشمس مسموم السهام...

الصبح قام!»

بعد عام من ذلك، سيصدر الشاعر ديوانه الثاني «أخبئ وجهك فيَّ وأغفو» في العام 2004، وفيه يدرك صوته، ويبايع في مطلع العشرينيات من عمره شغف البدايات الذي ألح عليه، فكأنما هو ارتداد عنيف إلى أُولى الدهشات التي علقت بذهن الفتى الذي كانه:

«تعبٌ بقافيتي، ونورٌ وسط عينيكِ...

التقينا هكذا!

وانثالَ خيطٌ بين قلبينا،

فلا مِني ولا منكِ

البداية أزهرت»

وكذلك:

«أطوي قامة الدنيا إلى حيث البداية،

أكتفي بالهذي،

لكني أكيدٌ سوف أرجع»

سعاد: حطب القصائد

هناك ثيمة ما تحضر في كل أعمال المغربي رمزًا وتصريحًا، إنها سعاد أخته المتوفاة، والتي خصص لها ديوانه الثالث «خارج من سيرة الموت» في العام 2005.

تدور فكرة النصوص حول الموت حين يكون قسرًا، وحين يكون خيارًا تتخذه الإرادة الواعية. وحول الذاكرة التي تختزن تفاصيل الأموات وكلماتهم، تلك التفاصيل المحفورة في قلب الشاعر وجمجمته. بالإضافة إلى رؤية الشاعر لهذا الموت وطريقة تعايشه معه في مسالمة رغم الريبة والرهبة والفزع، كما كنت قد ذكرت في قراءة سابقة لهذا العمل الملحمي قبل 16 عامًا.

من بين أكثر لحظات هذا العمل رقة في تقديري، تلك الروح الشاعرة التي يخاطب بها أخته المتوفاة، تلك التي ربته وسهرت عليه:

«سعاد!

بُعيد شهرٍ سوف أصبح عائلًا...

أتصدقين!

صغيرُ حضنك سوف يغدو عائلًا؟»

بينما تزداد غربة الشاعر في ليلة زفافه وهو ينتظر أن تكون سعاد من بين الحاضرين، بل في طليعتهم، كما نطالع في هذا المدخل لأحد فصول الديوان:

«سعادٌ تقوم من أجداث موتاهم لتحضنني...

تُقبلني، وتصنع بُردةً من قلبها؛

بيضاء في عرسي»

«كالحب كالأطفال كالموتى»

في العام 2007، أصدر المغربي ديوانه الرابع والمهم في تجربته «هو المطر»، والذي حاز جائزة الدولة التشجيعية فرع الشعر للعام 2008. ورغم ابتعاد الشاعر عن حُمى الجوائز وهوس النجومية، فإن هذا كان تكريمًا في محله لعمل مفارق لما قبله دون شك، اشتغل عليه الشاعر لغةً وشكلًا ومفردات ودلالات، واشتبك فيه الشخصي بالعام والتأريخي بالراهن.

«هو المطر» عمل محدود الحجم والصفحات (70 صفحة من القطع الصغير)، لكنه كتلة من النص والإيقاع ارتكزت على معمار أنخاب عالية لا إلى السياب فقط، بل ومعه جيكور وبويب والفرات والبصرة وبغداد وأنشودة المطر وعبد الكريم قاسم، والكثير من التفاصيل العراقية التي نستقرئ علائقها في وجدان الشاعر. ولعله في بتقديري من أهم ما كتب محمد هشام المغربي حتى يومنا الحاضر. ويمكن لنا أن نقرأ من أجوائه:

«أماه،

خانَ النَّجمُ،

والأقدار باعتنا،

وسِرتُ على الفجيعة حاسر الرأس،

التفتُّ -هناك- يلسعني هجيرُ اليأس...

أصرخ في العيون: اللَّعن ألعنُكم!»

وكذلك:

«بيَ الأيامُ تطوي شوطها هذيًا،

تعيدُ ليَ المسافةُ باحتراق العمر.

أحبو في المَهَبِّ،

أصير فاختةً تَخبِّطُ في الدماء،

أصير فلاحًا على ماء الفرات،

[...]

أصير مومسَ شارع التعبى الحزانى»

وأيضًا:

«كنت مصلوبًا،

-وما صلبوهُ...-

يا صُبيرة الموتى؛

أنا في غيلة النيسان أهتفُ،

ثم أهتفُ،

لا ينادمني سوى أَرقي...

وكل نطيحة منهم»

ما بين فنين

جرب المغربي في العام 2007 لعبة السرد مع إصدار روائي وحيد هو «ساق العرش»، الذي لا أستطيع وضعه في أكثر من سياقه، وهو سياق شاعر أراد التجريب وقول ما لا تحتمله القصيدة. ثم توقف بعد ذلك قرابة سبعة أعوام كاملات قبل أن يصدر مختاراته في العام 2014 تحت عنوان «من سيرة البلبل الغريب»، ليتبعها بإصدار ديوانه الخامس «جرحين.. أورقنا معًا» في العام 2016، والذي أعُده عبارةً عن أرشيف نصوص ومقاطع وأعمال شعرية كُتبت بين الأعوام 2003 و2010، بكل ما تحتويه تلك الفترة من أحداث مفصلية على مستوى المنطقة.

يضم الديوان بعض النصوص الفارقة من قبيل «الرؤى الثلاث وتعويذة الشك: ص39»، ويحتفي بالشكل العمودي للقصيدة الشعرية، تلك التي هيمنت عليها روح غريبة هدها طول السفر، المُتعَبة بما أسماه نشيد البين:

«أعيدينا لحضنكِ إنَّ فينا

من الشوق التَّفجر والعتابِ

وإنَّ الذلَّ في بلدٍ عظيمٍ

أَمَضُّ -لُعنتُ- من حَزِّ الرقابِ»

روحٌ ستأتي مخذولةً تحت لواء «موال» يستدعي امرئ القيس:

«عليُّ مِن الخذلان بردة ممْرضٍ

وتحدونيَ الأسماءُ والبدنُ والورى

نزحتُ عن أرضٍ تهاوت رسومها

وفي الصدر غُصات الفؤاد فلا تُرى»

بينما تأخذ منعطفًا عاشقًا في «كتاب اللَّيلك»:

«عندي رسالاتُ الهوى ما استُكملتْ

في دارةِ الإيماضِ والنجوى أَلَقْ

كفراشةٍ -أنتِ الضياءُ يشدُّها-

بسطتْ لدى كفيكِ حبًا ما احترق»

لتقفز تلك الروح المتعبة من بعد ذلك إلى أجواء كأس تفيض، في نص «تداعيات الوهم في سلوة الجسد»، الذي لا يخلو من صراع ارتطامات الذات بالذاكرة والخيال:

«شَلَّ قلبي نوحُكَ

الآتي لمن تبكي؟ علاما؟

لا تقل: قلبي أحَبَّ

المستحيلاتِ فهاها

وارتقِ القلبَ وهاتِ

الكأسَ يا رأسَ الندامى»

«لا أقف لأي مُعلم»

في العام 2018، أصدر المغربي مجموعته الشعرية السادسة «أخذَته الصيحة»، وهي الأخيرة حتى الآن، وهو عمل فيه اشتغالٌ نثري ومغامرة جديدة، كأول نص يمكن له أن يمنحنا أفقًا عادلَا لقراءة قصيدة المغربي النثرية المؤتلفة في شذرات وفقرات تقول كما لا تقول، وتتضح مثلما تَخفى، كما تطول أحيانًا في مقام يستوجب القصر.

مستندةً بمرفقيها إلى لغة الشاعر وصوته الخاص، لتبقى تجربة دسمة من حيث تطور أدوات الشاعر الذي «لن يقف لأي مُعلم»، بل «سيرسم لوحة بيضاء ممهورةً بتوقيعه وسيسميها قلبه»، زاعمًا أن «الليل جاءه ثقيلُ الرأس».

في المشهد الأجيالي

ثمة الكثير مما يمكن قوله في تجربة الشاعر وما أنجزه أو ما حاول إنجازه، ولكن أهم ما يمكنني قوله: إن كان لا بد من مشهد أجيالي للشعر الفصيح في الكويت، فعلى رأس واحد من تلك الأجيال، وأعني جيل 2000 تحديدًا، سنقرأ اسم: محمد هشام المغربي.

مواضيع مشابهة