يمارس اﻷفراد على المستويين العلمي والشعبي النقد الاجتماعي والتطرق إلى القضايا المعاصرة لمجتمعاتهم، إما كتابة أو قولًا، جدًا أو سخرية. منهم من يقترح حلولًا، ومنهم من يكتفي بتسليط الضوء على تلك القضايا من منظوره الشخصي.
في الكويت، تعددت قنوات النقد الاجتماعي وتعدد ممارسوه، فهم إما مذيعون في قنوات فضائية يقفون أمام الكاميرا وتعلو أصواتهم بالسخط لدرجة عدم تدارك «ريموت» التلفزيون لتقليص الصوت سريعًا عند الضغط على الزر المخصص لذلك، أو عبر تويتر وسناب شات وإنستغرام، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.
يبرز النوع الساخر من النقاد الاجتماعيين، أو من يسمون بناشطي السوشيال ميديا، في التطبيقات التي تدعم تقنية الفيديو، ويكادون يتشابهون في سمات المقاطع التي يسجلونها، جميعهم تقريبًا يسجلون مقاطعهم وهم في سياراتهم، ومنهم من يجهد بتحريك رأسه حتى تظهر علامات سيارته الفارهة المنقوشة على المقاعد الجلدية، ويحركون أيديهم بعصبية، خاصة تلك التي عليها ساعة سويسرية فاخرة، متناولين ما يرون أنها قضايا مجتمعية وفق منظورهم الخاص، وبأسلوب قد يراه البعض ساخرًا أو مستفزًا لدى البعض اﻵخر.
في هذا الموضوع لسنا بصدد انتقاد هؤلاء النشطاء وآرائهم، لكننا سنتعرض إلى أدوات النقد الاجتماعي التي أصبحت محدودة: هاتف ذكي، وحساب على مواقع التواصل الاجتماعي، وجمهور إما مؤيد لتلك الطروحات أو معارض لها، لكنه يتابع وينشر ويعلق.
هؤلاء النشطاء (أو النقاد الاجتماعيين غير المختصين) سبقهم قبل سنوات نقاد اجتماعيون من نوع آخر، وأدوات مختلفة أكثر تعقيدًا: كلمات غنائية مكتوبة، وفرقة موسيقية كاملة، ومسرح وألحان. نقاد تغنوا بآرائهم الاجتماعية حيال قضايا برزت مع نشوء الدولة الكويتية الحديثة بعد الاستقلال تحديدًا، وتأسيس المسارح والسينمات، ودخول مفهوم الترفيه الذي صار من أساسيات اﻹنفاق الأسري كالغذاء والمسكن والدواء.
هؤلاء النقاد الاجتماعيون (الساخرون) هم فنانو ما يسمى بالمونولوج الغنائي، الذي شهد عصرًا ذهبيًا في أرجاء الوطن العربي لا الكويت وحسب، واحتلت أسماء مؤديه مكانة خاصة في قلوب الجماهير وذاكرتهم، حتى بعد اندثار فن المونولوج في سبعينيات القرن الماضي.
في هذا الموضوع سنستعرض ظروف ظهور فن المونولوج الغنائي في الكويت، وأهم فنانيه، والقضايا التي تناولها الشعراء والمؤدون، ونحاول تفسير أسباب اندثار المونولوج في الكويت، وهل تتشابه مع تلك التي في بقية الدول العربية أم لا.
ما المونولوج؟
يشير المؤرخ الفني وجيه ندى في مقال له إلى أن «أصل كلمة مونولوج (يعود) إلى اللاتينية القديمة، ومعناها الأداء المنفرد، والشق الأول من الكلمة مونو معناه مفرد، وتشير التسمية اصطلاحًا إلى أن النص عبارة عن مقطع واحد يؤديه فرد واحد». وطبقت تقنية المونولوج بداية في المسرح، وصولًا إلى الفن القصصي والروائي، ومنها إلى الغناء.
المونولوج في الغناء العربي
كتب الصحفي المصري هيثم أبو زيد عن بدايات المونولوج في الغناء العربي، وأنه أصبح أحد قوالبها في بدايات القرن العشرين، وتحديدا في عام 1920، حين قدم الفنان سيد درويش المونولوج ﻷول مرة وغنى «والله تستاهل يا قلبي» من كلمات أمين صدقي. ويذكر أبو زيد أن الملحن محمد القصبجي كان من أبرز ملحني المونولوج عبر ما قدمه مع الفنانة أم كلثوم، ومن أبرز أعمالهما «زارني طيفك» و«قلبك غدر بي» و«الحب كان من سنين»، وجميعها من كلمات الشاعر أحمد رامي.
بدأ المونولوج مع ظهور فن المسرح وانتشار صالات الغناء في مصر في بدايات القرن العشرين، عندما ظهرت الحاجة إلى تقديم شيء ساخر، فقرة ترفيهية بعيدة عن جدية المسرح والدراما.
أما سمات المونولوج الغنائي فكتبت المؤلفة المسرحية رشا عبد المنعم أن «المونولوج يتكون نظمًا من عدة أبيات تطول أو تقصر، سمتها الأساسية عدم تقسيم النص إلى مذهب ومقاطع حتى وإن اختلفت قوافيه، وتسترسل أبياته في نسيج واحد للنهاية، وبالتالي عدم العودة إلى المدخل لا نظمًا ولا غناء، وفي السياق تباينت أغراض شعر المونولوج بين الحب والوصف وغلب عليه الطابع الرومانسي». ولم تستمر الأجيال اللاحقة من الملحنين في تقديم المونولوج، بل اتجهوا لتقديم اﻷغنية الحديثة التي تقوم على تعدد الكوبليهات، حتى انحسر المونولوج الغنائي ذو المواضيع العاطفية ليتخذ شكلًا آخر في نهاية اﻷربعينيات.
من العاطفة إلى الفكاهة
يعتقد الصحفي المصري شريف حسن في مقاله على موقع «منشور» أن فنان المونولوج (أو المونولوجست) «بدأ مع ظهور فن المسرح وانتشار صالات الغناء في مصر في بدايات القرن العشرين، عندما ظهرت الحاجة إلى تقديم شيء ساخر، فقرة ترفيهية بعيدة عن جدية المسرح والدراما، وعن الغناء الطربي والتابلوهات الاستعراضية وفقرات الرقص، فكانت فقرة المونولوجست: شخص يقدم كوميديا مغنَّاة، يقف على المسرح بين الفصول ليقدم فقرته الخاصة من غناء ورقص». ويستعرض حسن أجيالًا مختلفة من فناني المونولوج، مثل سيد سليمان ونعمات المليجي وإسماعيل يس وشكوكو وغيرهم.
ويبدو أن لتأسيس المحطات اﻹذاعية وانتشار المسارح ودور السينما في البلدان العربية الدور اﻷهم في ازدهار فن المونولوج، فأسماء مثل عزيز علي في العراق وسلامة اﻷغواني في سوريا وعمار الزعني في لبنان لم تكن لتظهر ويعرفها الجمهور لولا وجود اﻹذاعة وصالات الترفيه، التي صارت من سمات المدن الحديثة، ومنها مدينة الكويت الحديثة، التي تبدلت اﻷحوال فيها بعد تصدير النفط وتثمين المنازل القديمة، وتحول بيوت الطين إلى بنايات سمنتية، والطرق الترابية إلى شوارع أسفلتية، وتأسيس دور السينما الضخمة بعد أن كانت العروض السينمائية تقتصر على بيوت الموسرين، وبناء المسارح الحديثة بعد أن كانت المدارس هي المباني الوحيدة التي تتوفر فيها قاعات للمسرح.
المونولوج في الكويت
طرأت تحولات سريعة على المجتمع الكويتي منذ أوائل الخمسينيات، وتعرفت اﻷسر الكويتية إلى أنماط حديثة من الاستهلاك والعيش، وصار الترفيه جزءًا أساسيًا من نفقات الفرد الكويتي، وأدرك أبرز رجالات اﻷعمال في الكويت هذه التحولات وواكبوها بتأسيس شركات مثل شركة السينما الوطنية الكويتية في عام 1954، وتأسيس صالات للسينما بدأت بسينما الشرقية في العام نفسه، مرورا بصالات أخرى كحولي الصيفي والحمراء واﻷندلس، وكانت اﻷخيرة تحديدًا أشهرها لعدم الاكتفاء بعرض اﻷفلام السينمائية فحسب، بل واستضافة كبار الفنانين في الوطن العربي كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وناظم الغزالي وغيرهم الكثير، ومنهم بالطبع فنانو المونولوج المصريين مثل سيد الملاح وشكوكو.
كان للحضور الطاغي لفناني المونولوج المصريين اﻷثر اﻷكبر في اهتمام الكتاب والموسيقيين الكويتيين بالمونولوج، وخصوصًا ممن نشطوا في الأندية الصيفية ومراكز الشباب والكشافة. ومن الحركة الكشفية برز اسم عبد الجبار مزعل (والد الفنان خالد الرندي عضو فرقة «ميامي») بوصفه أول من كتب المونولوجات الغنائية لصالح الفنان الناشئ آنذاك محمد الويس. ومن الحركة الكشفية برز اسم الفنان أحمد القطامي، الذي سجل أول أعماله في المونولوج للإذاعة الكويتية عام 1966، ومن كلماتها التي نظمها عبد الجبار مزعل:
«شفت المودة وشكل المودة
صغير ولابس له عقال
الغترة فوق منسفة
والقحفية أم دينار»
برزت أسماء أخرى لاحقًا في مجالي كتابة المونولوج وتلحينه، وسُجلت أعمالهم لصالح التلفزيون واﻹذاعة وعُرضت على المسارح وسينما اﻷندلس، ومن أشهرها «شيلي قشج» التي كتبها ولحنها ثامر السيار وأداها محمد الويس، ومونولوج «التليفون» الذي أداه أحمد القطامي وكتب كلماته الشاعر يوسف الشراح.
حاول العديد من النقاد والمهتمين تفسير أسباب تدهور مكانة المونولوج، ومنها ابتعاد الفنانين عنه وموت رواده الذين لم يستطع أحد سد مكانهم.
جذب قالب المونولوج العديد من الكتاب الغنائيين والملحنين والمطربين في بداية مشوارهم الفني، لما له من شعبية بين الجمهور وتوافر اﻹمكانيات، مثل أحمد العامر وأحمد القلاف في الغناء، وفايق عبد الجليل وعبد اللطيف البناي وعبد الرحمن النجار في الكتابة، وغنام الديكان ويوسف المهنا في التلحين.
كانت السمة الغالبة لهذه اﻷعمال تناول القضايا الاجتماعية التي رافقت تحولات المجتمع الكويتي بعد النفط، كغلاء المهور والعلاقة بين الزوجين والمعاكسات التليفونية، وقدمها كتاب وملحنون ومغنون بكلمات خفيفة الظل وألحان حيوية وأداء سلس، فاستطاعت المونولوجات أن تحتل شعبية كبيرة بين الجمهور الذي كان يحرص على سماعها في المسارح واﻹذاعة والتلفزيون، ولا يزال بعضها يُردد ويُسمع الآن مثل «شيلي قشج» و«فار الفرارة».
خفوت المونولوج
تزامن اندثار المونولوج في الكويت مع مصر صاحبة الريادة العربية، وحاول العديد من النقاد والمهتمين تفسير أسباب تدهور مكانته، ومنها ابتعاد الفنانين عنه وموت رواده الذين لم يستطع أحد سد مكانهم.
في الكويت، يمكننا تفسير أسباب اندثار المونولوج بتوجه وانشغال فنانيه بمشروعات أخرى، مثل توجه أحمد العامر إلى الإخراج اﻹذاعي، ومحمد الويس إلى التلفزيون، وفايق عبد الجليل وعبد اللطيف البناي إلى كتابة الاسكتشات الغنائية واﻷغنيات العاطفية، وغنام الديكان ويوسف المهنا إلى التعاون مع المطربين الذين لا يؤدون المونولوج.
ولعل من أبرز التفسيرات التي شرحت اندثار المونولوج ما قاله محمد الويس في أحد اللقاءات الصحفية، من أن الجمهور صار ينظر إلى المونولوجست باعتباره «مهرجًا» وليس فنانًا. وعلى هذا نتساءل: هل لا زال الويس عند رأيه بخصوص هذا القالب الذي تناول مشكلات اجتماعية وقضايا سياسية بشكل يستوعبه الجمهور، مقارنة بمن ذكرناهم في بداية الموضوع؟