في نقاش مع أحد أصدقائي المهتمين بالفن، تحدثنا عن موسيقى مسلسل «ليالي الحلمية»، وعن مدى تأثري بها وحبي لها، ومدى براعة مؤلفها في تصوير الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث المسلسل، وترجمته لحي الحلمية وأمثاله من أحياء القاهرة القديمة إلى جُمل موسيقية حية.
وجدت صديقي يوافقني الرأي، ويشيد بمدى براعة الموسيقار عمار الشريعي في صياغة تلك الموسيقى التي أثرت فيه هو الآخر. أخبرته بالطبع أنها ليست من تأليف الشريعي، وإنما للموسيقار ميشيل المصري. لكن لماذا عانى المصري على مدار حياته من إهمال وتهميش، بقصد أو دون قصد؟
عاش ميشيل المصري دون أن يلقى ما يستحقه من اهتمام وتقدير، سواء من المؤسسات الإعلامية أو الحكومية المختصة بالفن والثقافة.
ميشيل المصري: البداية
وُلد ميشيل المصري عام 1933 في القاهرة. بدأ بالرسم، ثم اتجه إلى الموسيقى. وبعد إتمامه المرحلة الثانوية عام 1948، التحق بمعهد «ليوناردو دافنشي للفنون الجميلة»، لكنه لم يكمل دراسته فيه، والتحق بعد عام واحد بمعهد «فؤاد الأول للموسيقي العربية».
كان التحاقه بالمعهدين دون علم والده الذي، رغم حبه الشديد للفنون، كان رافضًا لفكرة أن يكون ابنه فنانًا، بل أراده أن يصبح تاجرًا مثله، لأنه كان تاجر أقمشة شهيرًا في القاهرة.
رغم رفض والده أن يسلك طريق الفن، آمنت به أمه منذ البداية، لذلك كانت تساعده وتشجعه وتهيئ له الجو المناسب للمذاكرة والتمرين وقت غياب والده، الذي كان يخرج من البيت كثيرًا بسبب طبيعة عمله.
كان لميشيل في شبابه مجموعة من الأصدقاء، منهم بليغ حمدي وصلاح عرَّام ومحرم فؤاد، وغيرهم من الفنانين الذين أصبح لهم شأن كبير في الموسيقى بعد ذلك. لكنهم وقت أن تعرَّفوا إلى بعضهم، لم يكن أحد منهم قد شق طريقه الفني بعد. جمعت بينهم مدارسهم الثانوية وحي شبرا الذي كانوا يسكنونه. كانوا دائمًا يجتمعون في منزل المصري خلال غياب والده، يتدربون ويستمعون إلى إنتاجهم الموسيقي تحت رعاية والدة ميشيل.
العازف الأول
بدأ ميشيل المصري رحلته الاحترافية بالالتحاق بفرقة السيد محمد الموسيقية (الفرقة الكبيرة) عام 1953. بدأ فيها عازف كمان، ثم عازف كمان أول. في 1965 ترأس فرقة الفن الموسيقية، ثم سافر إلى إمارة الكويت (لم تكن قد أصبحت دولة بعد). كان له تأثير كبير في إثراء الحياة الموسيقية هناك حين أسس فرقة إذاعة الكويت عام 1959. كرَّمته دولة الكويت عام 2009 في ذكرى مرور 50 عامًا على تأسيس الفرقة.
مثلما أثرى وأثر في الحياة الموسيقية الكويتية، أثرت هي الأخرى فيه. إذ اطلع على موسيقى من نوع آخر، وعلى إيقاعات الخليج شديدة الجمال والتعقيد. أصبح خبيرًا بها، ما ساعده على العمل ملحنًا وموزعًا مع كبار مطربي الخليج، مثل محمد عبده وطلال مداح وغيرهما.
التحق بكثير من الفرق الموسيقية المهمة في جميع أنحاء المنطقة العربية، على رأسها فرقة الرحبانية، التي عمل معها عام 1968 عازف كمان أول. من أهم الأعمال التي عزف فيها مسرحية «الشخص»، ثم عاد لمصر عام 1969 للاستقرار.
في 1970، انضم ميشيل إلى الفرقة الماسية، وعمل معها عازف كمان أول وقائدًا لها في كثير من التسجيلات. كانت هذه إحدى أهم محطات مسيرة المصري الفنية، وإحدى أهم خطواته. لكن كان هناك خطوة لا تقل أهمية: العمل مع فرقة أم كلثوم.
ميشيل المصري في حضرة الست
كان ميشيل المصري يحب أم كلثوم ويقدر فنها. وما كان يمنعه من العمل معها خوفه من أن يغير نظرته إليها، بعد ما سمعه من بعض المحيطين بها عن أنها تعامل الموسيقيين بشكل سيئ ولا تقدرهم، وهذه محض شائعات كانوا يطلقونها كي لا يأخذ أحد مكانهم، الأمر الذي أدركه المصري متأخرًا.
طلبت أم كلثوم من ميشيل أكثر من مرة على مدار عدة سنوات أن يعمل في فرقتها، لكنه كان يرفض، إلى أن جاءه الموسيقار أحمد الحفناوي يطلب منه مقابلة أم كلثوم، فطلب أجرًا أعلى من كل أفراد الفرقة، وأعلى من الحفناوي نفسه، الأمر الذى قال عنه المصري بعد ذلك إنه كان خطأ، لكنه كان يريد أن يتهرب بأي طريقه. غير أن الحفناوى فاجأه بالموافقة على كل طلباته، فاضطر للموافقة.
في يومه الأول، دخل المصري على أم كلثوم خلال بروفة لها مع الموسيقار رياض السنباطي، وقدم لهما نفسه، فقالت له أم كلثوم: «ياسلام. 20 سنة مستنيينك؟».
التحق ميشيل بالفرقة عام 1971، أي قبل رحيل أم كلثوم بأربع سنوات فقط. عزف في حفلاتها الأخيرة أغنيات مثل «أغدًا ألقاك» و«من أجل عينيك» و«يا مسهرني» و«ليلة حب»، وحاز التقدير الذي يستحقه، ليتأكد بنفسه من كذب الشائعات التي كانت تُقال عن «الست».
مع بليغ وعبد الوهاب والطويل: التوزيع للكبار
عمل الموسيقار ميشيل المصري على توزيع ألحان كثير من الملحنين الكبار، مثل بليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد عبد الوهاب، ومن الأغنيات التي وزعها لعبد الوهاب «بعمري كله حبيتك» و«أنده عليك» و«في يوم وليلة»، والأخيرة غنتها وردة.
ساعدت موسيقى مسلسل «أولاد آدم» ميشيل على وضع تصور عام للشكل الذي سيقدم به مسلسلات كثيرة بعد ذلك.
يعتقد بعضهم أن ميشيل المصري هو واضع المقدمة الموسيقية لأغنية «قارئة الفنجان»، لكنه نفى ذلك، وأكد أن من لحَّن الأغنية كاملة وكتب مقدمتها الموسيقية هو محمد الموجي، وأنه فقط ساعده في إحدي الجلسات، ولفت نظره إلى جملة لحنية كان الموجي قد سجَّلها مسبقًا خلال محاولاته كتابة المقدمة.
من أهم أعمال المصري في التوزيع الموسيقي، ألبوم علي الحجار «اعذريني» عام 1981. وزعه كاملًا عدا أغنية «مش عابر سبيل». وظهر في هذا الألبوم حس ميشيل الدرامي المميز من خلال توزيعاته للأغاني وكأنها مشاهد سينمائية، باستخدامه الدقيق لآلات مثل الفلوت والكَوَلة في بعض الأغاني، واستخدام الوتريات بشكل عام في كل أغنيات الألبوم.
في عام 1970، بدأ ميشيل تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام، ومنها «أنا وزوجتى والسكرتيرة» و«لمن تشرق الشمس» و«وتمضي الأيام»، و«الغيرة القاتلة»، والأخير كان أول أفلام المخرج عاطف الطيب. وفي عام 1993، حصل المصري على جائزة أفضل موسيقى تصويرية من مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلم «131 أشغال».
في 1986، طلب منه الشاعر سيد حجاب أن يقابل فريق عمل مسلسل «أولاد آدم» لوضع الموسيقى التصويرية وتلحين أغنية التتر، التى كانت من تأليف سيد حجاب نفسه، وغناها علي الحجار، وأصبحت من أشهر أعمال ميشيل المصري، وساعدته على وضع تصور عام للشكل الفني الذي سيقدم به مسلسلات كثيرة بعد ذلك.
ليالي الحلمية: الأيقونة
نشأته في منطقة الأزهر ساعدت ميشيل على أن يُخرج العمل بهذا الصدق وتلك الدقة، إذ كان يقضي جميع عطلاته الدراسية في حي الحلمية والأحياء المجاورة، يساعد والده في إدارة محلات الأقمشة، ما جعله خبيرًا بتفاصيل الحي وكل ما يميزه. كان يعرف كيف يتكلمون وكيف «يمزِّكُون» بحسب تعبيره، ويعرف كيف يعزفون ويغنون فى الأفراح والمناسبات الأخرى، وكيف ينادون على بضائعهم. يعرف كل شيء عن ذلك الحي، لذلك خرج العمل كما يقولون «من القلب إلى القلب».
قد تظن أن ذلك العمل الخالد احتاج كثيرًا من الوقت كي يخرج بهذه الدقة، لكن كل ما استغرقه اللحن كان بضع دقائق، وكأنه قد أُوحِي إليه به ولم يؤلفه.
يحكي المصري أنه قبل يوم واحد من ميعاد عرض المسلسل، لم يكن قد وضع لحن التتر بعد. وفي ذلك اليوم، كان يقف مع طلابه في المعهد، ثم دخل إلى مكتبه وجلس لكتابة اللحن. فهو كما اعتاد، لا يدندن اللحن ولا يُخرجه على أي آلة موسيقية، بل إن عملية التأليف تحدث داخل عقله، ثم ينقلها إلى الورق (أي يكتبة على النوتة الموسيقية). كانت هذه الطريقة واحدة من سمات رواد المدرسة الكلاسيكية.
كتب المصري اللحن في دقائق، ثم ذهب إلى الاستوديو ووضع النوتات أمام العازفين، فعزفوها دون بروفات. ولما كان علي الحجار خارج البلاد، وهو من يُفترض أن يغني التتر، اتصل المصري بمحمد الحلو ليأتي إلى الاستوديو فورًا ويسجل الأغنية.
تأخذنا موسيقى المصري في جولة بحواري القاهرة القديمة، تُجلِسنا إلى مقاهيها، تقف بنا أمام معمارها العتيق، وكأنها المرادف الموسيقي للمقاهي والمعمار.
من أهم أعمال ميشيل المصري موسيقى مسلسل «الحاج متولي» عام 2001، الذي تُشعرك موسيقى مقدمته كأنك تحضر أحد الأفراح الشعبية المصرية. استخدم ميشيل إيقاع «الزفة البلدي»، يركز عليه حينًا، ويستبدل به إيقاع المقسوم حينًا آخر، إضافة إلى تنويعات إيقاعية مختلفة، وفي النهاية يختم المقطوعة بـ«زغرودة» تؤكد الجو العام الذي أراده المصري للمقطوعه.
صدر له ألبومان موسيقيان: الأول «روائع الموسيقار ميشيل المصري»، والثاني «ندى»، وضمَّا بعض أعماله الموسيقية التي ألفها للأفلام والمسلسلات، إضافة إلى قطع موسيقية أخرى، مثل «مشارق» و«مغارب» و«مشوار» و«ندى» و«ألف مبروك».
اشتهر ميشيل المصري بأسلوبه الفريد في التأليف الموسيقي والتلحين والتوزيع، وظهر ذلك بدايةً من «أولاد آدم» و«ليالى الحلمية»، مرورًا بـ«من الذي لا يحب فاطمة»، وصولًا إلى «الحاج متولي». أعمال تجلَّى فيها أسلوبه الذي يأخذنا في جولة بحواري القاهرة القديمة، يُجلِسنا إلى مقاهيها، يقف بنا أمام معمارها العتيق. كأن ألحانه المرادف الموسيقي لهذه المقاهي وهذا المعمار.
موسيقى كنسية: الفرصة الضائعة
في أحد اللقاءات التلفزيونية، يتحدث ميشيل مع محاوره عماد دبور عن الموسيقى الكنسية والقداسات، ومدى روعتها وروعة الأعمال التي استوحيت منها، مثل بعض أعمال الموسيقيين الكبار باخ وموتسارت وبيتهوفن، وغيرهم. وعندما سأله دبور عما إذا كان يفكر في أن يعطي شيئًا للألحان الكنسية، أخبره بأنه كان هناك مشروعًا لذلك بالفعل، لكن لم يحالفه الحظ لتنفيذه.
يقول المصري إنه كان يفكر فى إعادة كتابة القداسات الكنسية المصرية، لكن هذا العمل كان يحتاج إلى تفرغ تام لعدة سنوات، ولم يستطع تنفيذه بالطبع لأن دخله الوحيد كان يعتمد على عمله في الموسيقى موزعًا وملحنًا ومؤلفًا. كان يرى أن هذا المشروع يجب أن يكون بتكليف من الجهات المختصة في الدولة، وبذلك يمكنه التفرغ له تمامًا، لكن هذا لم يحدث، فضاعت علينا وعليه فرصة عمل فني كان سيضاف إلى تاريخه الحافل وتاريخ الموسيقى المصرية.
رحيل ميشيل المصري
في 30 يونيو 2018، رحل ميشيل المصري عن عالمنا في هدوء كما عاش في هدوء. كان حلمه الذي طالما ردده في كل لقاءاته أنه لا يريد شيئًا من الدنيا غير أن يرى الناس سعداء.