شالسالفة: ماذا تعرف عن الميتافيرس؟

الصورة: trendsactive- التصميم: منشور

محمد جمال
نشر في 2021/07/01

رغم أن التكنولوجيا دائمًا ما تفاجئنا بإبداعات لا يتوقعها أحد، فإن التطورات العظمى غالبًا ما يُتكهن بها قبل ظهورها بعقود. في عام 1945 مثلًا، كتب المخترع الأمريكي فانيفار بوش مقالًا يتخيل فيه جهازًا سماه ميمكس (Memex)، يمكن فيه تخزين كل الكتب والتسجيلات والمراسلات، وتوصيلهم ببعض ميكانيكيًا. كان هذا خيالًا علميًا من العيار الثقيل وقتها، لكنك الآن ربما تحمل أقرب شيء لهذا الميمكس في يدك وتقرأ عليه هذا الكلام.

من هذا المنطلق، ثمة إمكانية لاستشراف الخطوط العريضة التي تكاد تكون متفقًا عليها للتطور التقني، والإمكانية التقنية لإبداعه. غير أنه يظل من المستحيل التكهن بالشكل النهائي له، والمميزات التي سيوفرها بالتحديد، أو نوع النموذج الحاكم لمثل ذلك التطور، أو شكل خبرة استخدامه.

على غرار الميمكس الذي تخيله بوش، ثمة شبه إجماع على شكل مستقبل الإنترنت، مستقبل العالم: الميتافيرس (Metaverse).

ما هو الميتافيرس؟

تخيل أنك تمشي في الشارع، وخطر على بالك فجأة منتج تحتاج إليه. فورًا ينبثق أمامك متجر لبيع هذا المنتج بالذات، بكل أشكاله وتنويعاته وأسعاره. فتقف، وتختار واحدًا، وترسله إلى بيتك، وتتابع طريقك. تخيل رجلًا في المتجر يشتري بعض الطلبات، لكن زوجته في البيت تتذكر شيئًا لم تخبره به، فعلى الفور يقرأ الكمبيوتر المتصل بدماغها العنصر الجديد ويحدثه تلقائيًا في ذاكرة الزوج، ويأخذه إلى الرف الذي يُباع فيه.

أهلًا بك في الميتافيرس، الواقع الرقمي البديل، حيث يعيش الناس ويمرحون ويتقابلون، في المستقبل.

أول من اصطلح لفظ ميتافيرس كان كاتب الخيال العلمي نيل ستيبنسون في روايته «سنو كراش» عام 1992، والتي يتفاعل فيها البشر مع بعضهم في فضاء رقمي ثلاثي الأبعاد باستخدام أفاتارات (Avatars) لكل منهم، والميتافيرس هو ذلك الفضاء الرقمي الموازي للعالم الواقعي. لكن ستيبنسون لم يكن أول من تخيل مثل ذلك العالم، بل منذ بدء ظهور الإنترنت على استحياء في السبعينيات، ثمة تصور خيالي لعالم افتراضي جرافيكي موازي في أدبيات الخيال العلمي واستشراف المستقبل، على أنه خليفة الإنترنت.

ربما يكون الاتصال بالميتافيرس في المستقبل عن طريق شكلًا متطور من الهاتف أو الكمبيوتر، أو نظارة، أو حتى شريحة تُزرع في الدماغ على غرار شريحة إيلون ماسك.

لأن الميتافيرس لم يتحقق بالكامل بعد، فلا يوجد تعريف محدد لما سيكون عليه، وإنما عدة تصورات متكاملة أحيانًا ومتناقضة أحيانًا، للشكل الذي سيكون عليه عندما يتحقق، والكلمة النهائية ستكون للتطور التكنولوجي، وقبول المستخدمين له أو عزوفهم عنه. لحسن الحظ، ثمة تطبيقات حديثة بالفعل للشكل الذي قد يكون عليه الميتافيرس في المستقبل.

يكاد يكون من المُجمع عليه أن الميتافيرس سيكون فضاء جرافيكيًا حسيًا، ليس مثل الإنترنت تحتاج لتسجيل الدخول إليه، بل عبر التكنولوجيا المناسبة سنعيش فيه. نحتاج الآن ربما إلى معدات ثقيلة مثل خوذ ونظارات الواقع الافتراضي لتجربة ذلك، لكن يُفترض أن المستقبل يحمل لنا نظارات خفيفة ترتديها فيمتزج الميتافيرس والعالم العادي أمام عينيك. شاهد مثلًا مقطع الفيديو هذا بداية من الدقيقة الثانية، لرؤية أحد التخيلات لشكل الميتافيرس الممتزج بالعالم الواقعي.

وثمة تخيل آخر يعتمد على تطور قدرة أجهزة الكمبيوتر على قراءة الأفكار، بحيث تستطيع توصيل عقلك مباشرة بالأداة التي تصلك بالميتافيرس، فلا حاجة لضغط زر أو لمس شاشة أو حتى إيماءة يد.

أقول أداة، لأن التكهن بطبيعة الأداة أو الجهاز الذي سيكون وسيلة الاتصال بالميتافيرس صعب الآن، فربما سيكون شكلًا متطور من الهاتف أو الكمبيوتر، أو نظارة، أو حتى شريحة تُزرع في الدماغ على غرار شريحة إيلون ماسك. كل شيء ممكن، خاصة أن الحاجة إلى معدات كبيرة تحمل معالجًا وبطاقة رسوم وذاكرة في الأجهزة بين يدينا لم تعد ملحة، فسرعات الاتصال الفائقة التي سنصل إليها بتكنولوجيا الجيل الخامس ستوفر اتصالًا شبه لحظي بالتخزين السحابي، وستمكن المعالجات خارقة القوة وبطاقات الرسوم الهائلة في السيرفرات السحابية من المعالجة عن بعد في الوقت الفعلي تقريبًا.

الصورة: Getty

هذه بعض الخصائص التي تُجمع المناقشات حول شكل الميتافيرس أنها ستكون فيه:

  • ثابت، دائم، أي لا يحتاج إلى إعادة تشغيل ولا يتوقف أو ينتهي، بل يستمر دون نهاية.
  • مباشر، ومتزامن، مثل الحياة الواقعية، يعيش مستخدمه تجاربه في الوقت الفعلي.
  • له اقتصاد كامل متكامل مستقل، وبوسع الأفراد والمؤسسات أن يبدعوا ويمتلكوا ويستثمروا ويببيعوا فيه ويكسبوا، بنظام اقتصادي كامل داخل الميتافيرس، يعترف به الجميع ويستخدمونه.
  • يُكوِّن خبرة تمتد وتشمل العالمين الرقمي والمادي، والشبكات والتجارب الخاصة والعامة، والمنصات المفتوحة والمغلقة.
  • يسمح بقابلية توافق غير مسبوقة للبيانات والمحتويات والممتلكات الرقمية، عبر مختلف التجارب والمنصات. فمثلًا، النمط الذي تزين به سلاحك في لعبة Fortnite يمكنك استخدامه في لعبة Counter-Strike، أو أن تهديه لصديقك عبر فيسبوك. لو صممت سيارة في لعبة Rocket League، تستطيع أن تستخدمها في لعبة Roblox.

من يملك الميتافيرس؟

الصورة: Getty

نحتاج أن نسأل أولًا: من يملك الإنترنت؟ الإجابة: لا أحد، فنقطة تفوق الإنترنت الأساسية منذ ظهوره هي اللامركزية. ربما يكون الإنترنت هو جوجل أو فيسبوك بالنسبة لغير الخبراء، أو وي تشات في الصين، أو ما توفره تطبيقات المحمول، لكن الإنترنت في الواقع لا يملكه أحد.

الإنترنت الفعلي هو أجهزة خوادم عملاقة متناثرة في جميع أنحاء الأرض، يمتلكها عدد كبير من المؤسسات (بداية من الشركات الخاصة وحتى المدارس)، وتتواصل كلها مع بعضها ببروتوكولات معروفة للجميع، تجعل الإنترنت شبكة افتراضية لا مركزية عملاقة تشمل الجميع. لكن داخل الإنترنت توجد شركات عملاقة تقدم خدمات واسعة، ينغمس فيها المستخدم حتى ينسى أنها ليست إلا ركنًا من العالم فقط، فيحسبها العالم كله، مثل جوجل وفيسبوك ووي تشات.

من سيملك الميتافيرس إذًا؟ كثير من التصورات الشائعة تتخيل أو تتمنى فضاء سايبريًا مثل الإنترنت، لا يملكه أحد، لا قواعد له. للشركات والمؤسسات فيه أركان خاصة تبنيها كما يحلو لها، لكن للأفراد المستقلين أيضًا مكانهم المحفوظ الذي لا توجد سلطة مركزية عليه.

لكن تحقُّق لا مركزية الميتافيرس سيعتمد على التكنولوجيا ومدى إتاحتها، ومدى التكامل الذي سيوفره المطورون لها لما سينتجه منافسوهم.

على سبيل المثال، هناك بالفعل نماذج مصغرة محدودة لما قد يبدو عليه الميتافيرس المستقبلي، في منصات ألعاب مثل Fortnite وMinecraft وRoblox، وكل لعبة منها توفر فضاء جرافيكيًا ثلاثي الأبعاد يتحرك فيه الفرد باستخدام أفاتاره الخاص بحرية، وينشئ محتوى خاصًا به ومكانًا له وحده.

بينما تعمل الشركات الكبرى على بناء فضاءاتها الميتافيرسية المستقبلية، فإنها تعلم مقدمًا وبصورة جيدة المدى الذي قد تصل إليه التكنولوجيا، لو نجحت.

كل من هذه النماذج الثلاثة مملوك بالكامل للشركة المنتجة للعبة، وبالتالي فالتحكم الكامل في هذا الميتافيرس وقوانينه يعود إلى الشركة المالكة. لكن لو حدث واتفقت المنصات الثلاثة على توحيد التكنولوجيا بشكل ما، وفتح العوالم على بعضها بشكل يسمح للمستخدمين بالتنقل بين المنصات، سيكون لدينا ميتافيرس لا مركزي حر نسبيًا، إلا من القواعد التي ستتفق الشركات الثلاثة عليها.

ماذا إذًا لو صارت الشركات الثلاثة ثلاثمئة؟ أو ثلاثة آلاف؟ كلما زاد عدد الشركات أو الأفراد المالكة لتكنولوجيا الميتافيرس المشترك، قلت المركزية حتى تكاد تتلاشى، مثلما هو الحال مع الإنترنت الآن.

تقنيًا، حدوث ذلك ليس صعبًا، فالتطور التكنولوجي الحالي لمحركات الألعاب وبطاقات الرسوم والمعالجات وجيل الاتصالات الخامس، يخبرنا أن هذا التكامل ليس صعبًا أبدًا، على الأقل في المستقبل غير البعيد. لكن هل ستسمح الشركات المالكة للتكنولوجيا بحدوث هذا حقًا؟

ما هو مستقبل الميتافيرس؟

الصورة: Getty

في حالة الإنترنت، فرغم أن تطور الشبكة والتكنولوجيا الخاصة بها كان أمرًا متنبأ به من قبل، فإن النمو الاقتصادي غير المسبوق تاريخيًا المصاحب لهذا الاختراع والتغلغل المذهل له في كل مناحي الحياة، كان مفاجئًا للجميع. لم يدرك أحد أهمية الإنترنت الفعلية إلا بعدما ترسخت لا مركزية الإنترنت.

أما الآن، فبينما تعمل الشركات الكبرى على بناء فضاءاتها الميتافيرسية المستقبلية، فإنها تعلم مقدمًا وبصورة جيدة المدى الذي قد تصل إليه التكنولوجيا، لو نجحت. يصعب تخيل آبل مثلًا لو وصلت إلى تكنولوجيا ميتافيرس تتيحها لمستخدمي أجهزتها، وتسمح بتكامل تقنيتها مع الميتافيرس الذي وضع أساسه مارك زوكربيرغ، ناهيك بالسماح بالتكامل غير المحدود مع سيرفرات سحابية لجميع مستخدمي العالم.

وحدث ولا حرج عن البلاد، فالصين التي تعيش في ركن خاص بها من الإنترنت، لا تتوقع منها أن تشارك في ميتافيرس عالمي متكامل، بل غالبًا سيكون هناك ميتافيرس ويتشاتي صيني تحوم في سمائه عيون الأخ الأكبر. وماذا عن حكوماتنا العربية التي لم تتَح لها تكنولوجيا حجب مواقع الإنترنت كما ينبغي إلا في العقود الأخيرة، هل ستسمح بدخولنا ميتافيرس عالمية حرة؟ أم ربما هناك مَعامل بحث وتطوير لا نعلم عنها شيئًا في أقبية المؤسسات الأمنية، تتجهز للتحكم في وصولنا إلى تلك الأماكن أو بناء نسخ خاصة بنا.

بالطبع ستظل هناك دومًا مشروعات مفتوحة المصدر لبناء ميتافيرسات مفتوحة مجانية عامة لامركزية، وستظل تلك المشروعات تجذب ألمع العقول التقنية وربما كمًا لا بأس به من التمويل. لذا سيكون هناك دون شك ميتافيرس أو ميتافيرسات حرة تنافس تلك الخاصة المملوكة للشركات والدول، وتقدم إمكانية دخول واستخدام للجميع. والقرار في النهاية سيكون بين يدي المستخدمين، فالمكان الذي سيختاره عدد أكبر، سيذهب إليه الجميع في النهاية.

في الواقع، وبشكل شخصي، أكثر ما يشغلني الآن هو درجة تكيفنا، نحن أبناء الثمانينيات والتسعينيات، الجيل الأول من مستخدمي و«نيردات» الإنترنت. الميتافيرس لن يتحقق قبل عقد أو أكثر من الآن، أي أننا سنكون حينها في عمر آبائنا تقريبًا في بداية الإنترنت. أين سيكون موقعنا من المعادلة؟ هل سنكون الجيل القديم الصدئ غير القادر على التكيف، الذي يسخر منه الرواد الصغار؟ قلبي يقول لي لا، سنكون أهم المستخدمين وصناع القرار، لكن عقلي، الذي يعاني في استخدام كل تطبيق جوال جديد أكثر مما سبقه، يقول إننا هرمنا بالفعل وانتهى أمرنا. ربما يكون من الممتع، والمهم، الحديث عن الميتافيرس والنقاش بشكل جدي حول شكل المستقبل، حتى يسهم نقاشنا في تشكيله. إلا أنني أتمنى ألا يحدث، فليبق المستقبل مستقبلًا بعيدًا، وليظل العالم كما هو مثلما أخبره وأعرفه حتى أموت، لا تفضحوني أرجوكم أمام أبنائي.

مواضيع مشابهة