تحذير: تحتوي الرسالة على حرق لأحداث الفيلم
عزيزي ترومان بيربانك، أو دعني أقول عزيزنا ترومان، لم أحب التلفزيون قط، ولم يستهوني أبدًا. لم أفهم لماذا يتسمر الناس أمام هذا الجهاز ساعات وسنوات وأعمارًا كاملة. كنت أجلس أمامه مضطرًا حتى أكون مع عائلتي، ففي عصرنا هذا لا يمكنك الجلوس مع نفسك بسلام فحسب، عليك أن تبقى مشغولًا دائمًا، حتى لا تطاردك الوحوش الداخلية. العائلات الآن يا ترومان لا تجلس مع بعضها البعض، بل يمضون بعض الوقت معًا، وشتان بين هذا وذاك.
في أحد الأيام كان صوت التلفزيون مرتفعًا في المنزل، كنت في المطبخ أبحث عن شيء ما لأشربه، ثم ذهبت إلى غرفة الجلوس وكان الجميع حاضرًا، سألتهم ماذا تتابعون الليلة؟ فقالوا إنه برنامج جديد وفريد من نوعه ولم يسبق لأي أحد من قبل أن فكر في مثله، هذا البرنامج سيغير مفهوم التلفزيون إلى الأبد، ويدعى «The Truman Show»، وهو من إخراج العبقري كريستوف.
لم أسمع بكريستوف هذا من قبل، فجلست معهم وبدأت المشاهدة، وبعد 30 عامًا ما زلت أشاهدك. ترومان، أنت آدم على أرض التلفزيون الاصطناعية، لقد شاهد المليارات ولادتك، وخطواتك الأولى، شاهدنا جميعًا ضحكاتك وأنت طفل، شاهدناك تبكي وتلعب بالرمال وتذهب إلى الحديقة، شاهدنا تبديل أسنانك اللبنية. نحن نعرفك، في الحقيقة نحن من ربيناك، واشترينا كل المنتجات التي ظهرت في عالمك. ترومان، أنت أشبه بالنبي في عصرنا هذا، الكل يدرس كل خطوة تخطوها، وكل كلمة وكل حرف تنطقه، نحن المشاهدون الذين نتسمر كل ليلة لنشاهد حياتك التي يقرر فيها كريستوف كل شيء، ضمن سيناريو طويل وطويل.
دعني أخبرك أنني أحببتك، منذ البداية وأحببت الإطلالة التي تمتلكها، رغم أن كل ما عشته كان سيناريو مكتوبًا ومحددًا. ورغم غباء زوجتك ميريل وتفاهة صديقة مارلون، فإنك كنت حقيقيًا، كنت الأذكى في هذا البرنامج، أذكى من معماري المصفوفة التي سجنك فيها كريستوف، الذي أتى بك من رحم أمك وحدد كل ما ستفعله في حياتك منذ أولى لحظاتها، ومحاولته قتلك في النهاية، فقد تفوقت علينا جميعًا. ونيابة عن الجميع، أعتذر لك.
لا توجد كمية من الأعذار تكفي لتغفر لنا هذه المسرحية التافهة التي وضعناك فيها، كنت بالنسبة لنا مجرد منتَج آخر، وكل ما هو في مدينة «سي هيفن» الصناعية مجرد منتجات تعود أرباحها لبعض الرأسماليين السفلة الذين يربحون على حساب وجودك. للأسف نحن نعيش في مسرحية كبيرة، أكبر من تلك التي تعيش فيها أنت. أريدك أن تعلم أنه خلال مشاهدتي للبرنامج حتى حلقته الأخيرة، كنت في كثير من الأحيان أغلي من الداخل، كان الجميع هكذا. مستغرقون وهم يشاهدون إنسانًا يُعذب دون أن يدري، يشاهدون إنسانًا يُخدع على الهواء مباشرة 24 ساعة، يشاهدون يا ترومان غرق المركب عندما كنت تبحر مع والدك، حتى يخلقوا فاجعة في حياتك، ويتحكموا بك من خلالها.
أريدك أن تعلم يا ترومان أنني لم أوافق على هذا ابدًا، البرنامج كله غير أخلاقي، وقد دخلت في نقاشات حامية مع بعض الحمقى المهووسين بالتلفزيون، الذين يرون أنه من المعقول والطبيعي أن يعذب شخص ما من أجل ترفيه الملايين وتحقيق الأرباح. ولم لا يا ترومان، ونحن في عصر كراهية الذات والحياة، حيث الكل عدمي ويريد أن يموت، والكل يكتفي بالأكل والشرب والمتعة والترفيه. هذه هي الحياة خارج الاستوديو يا ترومان.
كنت أعلم في داخلي أنك ستفوز في النهاية، لأنك مستكشف، لست شخصًا عاديًا يرضى بالواقع فقط لأنه المتاح أمامه، كريستوف كان ساذجًا، كان لديه من الغرور ما يكفي لأن يتجرأ على تحديد ما يجب عليك أن تخوضه وما يجب عليك تجنبه، نحن البشر نمتلك ذلك النوع من الغرور الذي نغلفه ببعض الحجج الساذجة.
لقد تعلمت منك يا ترومان أن الإنسان عليه أن يعيش كل شيء، يعيش الأمان والخطر، الخير والشر، الجيد والرديء، الأبيض والأسود، الليل والنهار، الحب والغدر، الصحراء والمحيط. على الإنسان أن يعيش، وأنت يا ترومان بفضولك وفطنتك استطعت أن تعلم أن هناك شيئًا ما غير صحيح في هذه المصفوفة الرديئة، وأن على الإنسان أن يتجاوز السياج، حتى لو كان عاليًا، على الإنسان أن يكون ساعيًا، ويخوض الدرب الصعب، وعلى الأبطال أن يخوضوا هذا الدرب رغم الألم. ربما لم يكونوا ليخوضوه في المقام الأول لو كان سهلًا.
أتعلم يا ترومان ما أكثر شيء أزعجني في برنامجك؟ الإعلانات، خصوصًا عندما تنظر زوجتك إلى الكاميرا المخفية وتتلو ذلك المونولوج حول المنتج الذي تحمله بيدها. للأسف يا ترومان عالمك الاصطناعي مليء بالبلاهة، حاول كريستوف تجميله قدر الإمكان، حاول أن يُظهر لك أن مجرد العيش في فقاعة مريحة وآمنة سيشفي فضولك للعالم، وأن هذا هو الواقع فقط ولا وجود لغيره، الواقع الذي فرضه عليك وحرمك من القدرة على التفكير في احتمالية وجود واقع آخر مختلف.
هذه هي الديكتاتورية بعينها يا ترومان، كريستوف مثله مثل ستالين وغيرهم من الحمقى الديكتاتوريين الذين يعتقدون أن بإمكانهم اختصار الكون والوجود من خلال البروباغاندا ووهم حرية الاختيار وإبقاء الجماهير في حالة انشغال دائمة، حتى لا يتساءلوا عن حقيقة الواقع الذي يعيشون فيه. تعلمنا منك يا ترومان ألا نثق بالفقاعة دائمًا.
لا أخفي عليك، لقد انهمرت من عيني دموع انتصار وحزن عندما واجهتَ العاصفة الوجودية إياها، وانطلقت على يختك الصغير لتستكشف واقعك، وتبحث عن الحقيقة التي يحاول الجميع إخفاءها، الحقيقة التي تآمرنا جميعًا على إخفاءها عنك حتى نشاهد التلفزيون من أجل الترفيه. لا يوجد اعتذار كافٍ لك يا ترومان، لقد فعلنا بك أمرًا فظيعًا ومؤلمًا.
أريد أن أشكرك على أصالتك، وعلى كل ما فعلته أمام الكاميرات لثلاثين عامًا، كنت أنت الحقيقي الوحيد ونحن جميعًا كومبارسات في قصة حياتك. عندما طرقتَ السماء أخيرًا وعرفت الحقيقة، انزاح عن قلبي عبء ثقيل. تعلمتُ منك يا ترومان أن الحقيقة، والحقيقة فحسب مهما كانت بشعة ومؤلمة ومخالفة لكل ما نعرفه، هي ما يجب أن نسعى إليه.
انطلق الأن وأهلًا بك إلى عالمنا، إنه ليس الأفضل، لكنه عكس ما أخبرك به كريستوف، هو عالم حقيقي بجماله وبشاعته. شكرًا على كل شيء، على هذه اليوميات الرائعة والدروس القيمة التي قدمتها لنا.
ترومان بيربانك، صباح الخير، وفي حال لم ترني.. مساء الخير، وتصبح على خير.