«الثقافة هي روح المجتمع التي تنفخ الروح فيه، وفن المجتمع هو الأشد تعبيرًا عن هذه الروح» - الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو.
جمع مِيِحَد حمد بين الحضور الحي في الذاكرة الثقافية الشعبية لأبناء الإمارات والغياب الإعلامي، فهو مقل في الظهور إعلاميًا، ومقابلاته التلفزيونية والصحيفة تعد على أصابع اليد الواحدة، والمعلومات حول نشأته شحيحة جدًا.
ورغم ذلك، تشير الروايات المتداولة إلى أن ميحد حمد المهيري ولد في مدينة كلباء بإمارة الشارقة عام 1961، أي قبل 10 سنوات من تأسيس اتحاد الإمارات، وكان والده يعمل في إحدى مؤسسات الانتداب البريطاني في المنطقة، قبل أن تقرر الحكومة البريطانية الانسحاب من الخليج العربي (1968-1971).
بدأت مسيرة حمد الفنية مع السنوات الأولى من تأسيس دولة الإمارات، والتي كانت بدورها تسير سيرًا حثيثًا نحو ترسيخ دعائم مشروع الاتحاد وجمع كل أبناء الإمارات السبع حول هوية وطنية جامعة. ومع الحاجة إلى إيجاد معانٍ وخصائص وتصورات مشتركة داخل أطر الدولة الحديثة، حضرت أغاني ميحد لتكون أحد التعابير الفنية الشائعة وإحدى الأدوات المسهمة في صياغة المخيال الشعبي والدفع نحو الاندماج الثقافي وتعميق الانتماء الجماعي.
يسعى هذا المقال بدايةً إلى محاولة فهم أسباب ملامسة الأغنية وجدان الشعب دون سواها من التعابير الفنية الأخرى، وقدرتها التجديدية في إنتاج (وإعادة إنتاج) الوشائج الثقافية والاجتماعية التي تشكل الخلفية المرجعية لجماعة ما.
قد يكون أحد هذه الأسباب الأساسية هو أقدمية التعبير الغنائي. تؤكد الوثائق التاريخية والمرويات الشفهية أن هذا التعبير الفني ليس غريبًا على المنطقة، بل إن تاريخ الغناء والأهازيج الشعبية في الخليج العربي يعود إلى الوراء ردحًا طويلًا من الزمن، كأحد المكونات الاجتماعية والتعابير الثقافية السائدة.
الفن الشعبي الموغل في القدم
عرفت جميع التجمعات البشرية في المنطقة لونًا غنائيا مميزًا ومختلفًا في النغم والإيقاع عن الجماعات الأخرى، لونًا يعبر عن خصوصياتها وتراثها وتقاليدها ويؤسس لهويات مناطقية وقبلية محددة بروابط الجماعات وحدود الأمكنة.
ففي منطقة الساحل على وجه الخصوص، سادت أربعة أنواع رئيسية للفن الغنائي الشعبي: الغناء الجبلي والسهلي والبحري والصحراوي، ويتميز كل منها بطبيعة إيقاعاته وأهازيجه ومسمياته. أنشدت هذه الجماعات أهزوجاتها الشعبية في المناسبات المختلفة، وفي الحروب، وللاستعراض، وكذلك أثناء مواسم الغوص وصيد اللؤلؤ، ومواسم الحصاد والصيد بالصقور.
وفي البادية غنى البدو لإبلهم لحثها على المشي سريعًا، وللتخفيف من عناء السفر ومشقته. وقد وثق الرحالتان البريطاني ويلفرد ثيسيجر في كتابه الرمال العربية والنمساوي محمد أسد في كتابه الطريق إلى مكة ذكرياتهما وتأملاتهما حول فن الحداء والتغرودة (أغنيات ومواويل الصحراء ذات النغمة الواحدة والصوت الرتيب والإيقاع الطويل)، خلال عبورهما أجزاء من الربع الخالي في القرن الماضي.
الغناء إذًا فن شعبي موغل في القدم، عرفه العرب منذ العصور السالفة، ولذلك كان من السهل أن يتفاعل الأفراد مع التعبيرات الغنائية أكثر من أي تعبير فني آخر.
الثقافة النخبوية: المسرح نموذجًا
بقصد التمثيل لا الحصر، عرفت المنطقة الفن المسرحي في وقت مبكر كذلك، إذ تعيد الدراسات المسرحية تاريخ المسرح العربي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، عندما أسس اللبناني مارون النقاش (1817-1855) أول مسرح عربي في منزله ببيروت عام 1848، وذلك بعد عودته من إيطاليا التي قضى فيها قرابة العام تجول خلاله بين مسارح ميلانو ونابولي. شاهد النقاش أثناء هذه الرحلة العروض المسرحية الإيطالية والفرنسية والحفلات الغنائية الأوبرالية، فأعجب بها أيما إعجاب وعقد العزم على نقل هذه الفنون إلى البلاد العربية.
وفي منطقة الساحل المتصالح شهدت خمسينيات القرن الماضي الإرهاصات الأولى لنشأة المسرح الإماراتي، حين تبنت إدارة المدرسة القاسمية في إمارة الشارقة الفن المسرحي، وأسست أول فرقة للأداء التمثيلي عام 1953. انتعش خلال هذه الفترة النشاط المسرحي في عدد من المدارس والأندية الرياضية، والتي كانت بمثابة النواة الحقيقية لتشكل الفن المسرحي الإماراتي.
كُتب خلال تلك الفترة أيضًا عدد من النصوص المسرحية، وقد كتب الشيخ سلطان بن محمد القاسمي أول نص مسرحي إماراتي بعنوان نهاية صهيون، وهي المسرحية التي عرضت في نادي الشعب وأثارت حفيظة الحاكم العسكري البريطاني، فمنع عرضها وأمر بإغلاق المسرح. وفي الستينيات أثمر تطور الحراك المسرحي عن تكوين أول فرقة مسرحية على يد المخرج العراقي واثق السامرائي عام 1963، وبدعم من الشيخ صقر القاسمي حاكم الشارقة آنذاك، وهي الخطوة التي اعتبرها كثيرون البدايات الفعلية للمسيرة المسرحية في دولة الإمارات.
ورغم هذا التاريخ الحديث نسبيًا، ظل التعبير الفني المسرحي (وغيره من الأنشطة الفنية الأخرى) أقل تأثيرًا واستخدامًا من قبل أبناء الإمارات للتعبير عن مشاعرهم الإنسانية وحالاتهم الوجدانية. ويعود ذلك لعدة أسباب، منها حقيقة أن الأنشطة المسرحية هي أدوات وتعابير فنية وافدة جلبتها البرجوازية العربية المدينية الناشئة إلى المنطقة العربية، بعد ما احتكت بالحضارة الغربية وأتقنت لغاتها.
أيضًا لكون العرب أهل الشعر والقافية والوزن، فأسماعهم تطرب للكلام الموزون المقفى، وهو عكس ما يميز الأعمال المسرحية، التي يكثر فيها استخدام النصوص النثرية والصيغ التعبيرية الأخرى المتحررة من قيود القوافي والأوزان.
بالإضافة إلى الطابع النخبوي للفن المسرحي الإماراتي والعربي عمومًا من حيث المستوى والمحتوى والخطاب، فأغلب المسرحيين وجمهور العروض المسرحية من الفئات المثقفة والمتعلمة والطبقات الاجتماعية العليا، وهو ما أبقى الفن المسرحي محصورًا ضمن حيز ثقافي وتفاعلي محدود وبعيدًا عن الجماهير الشعبية.
هذا الواقع حال دون تحول المسرح الإماراتي إلى ثقافة شعبية، وكرس الحدود الفاصلة بين ما هو فن شعبي وما هو فن نخبوي معزول. من أجل ذلك كانت التعابير الغنائية ولا تزال هي فن المجتمع الإماراتي (والمجتمعات الخليجية عمومًا) الأكثر عمقًا وأصالةً.
ميحد حمد: النص الملتحم بالذاكرة الشعبية
لماذا يخص الإماراتيون على اختلاف مشاربهم أغنيات ميحد حمد بهذه الحفاوة البالغة؟ بإمكاننا إرجاع ذلك إلى عدد من الأسباب، منها اعتماد ميحد حمد على الشعر النبطي الشعبي في معظم أعماله طوال مسيرته الغنائية. كانت أغانيه تنهل من تراث الإمارات الغني والمتنوع، وتستثمر عمقه للتعبير عن مشاعر وآمال الشعب الإماراتي.
وشكلت كلمات أغنيات ميحد نصًا ملتحمًا ومتناسقًا مع ذاكرة وخيال أبناء المنطقة وتعبيرًا عن نمط حياتهم الاجتماعية، من خلال لغة شعرية مستقاة من موروثات الناس وواقعهم، وموضوعة في قوالب لحنية وإيقاعية قريبة من ذائقة الشعب وبنيته الذهنية والدلالية. تغنى ميحد بقصائد كثير من شعراء الإمارات والخليج، ومن بينهم فتاة العرب عوشة السويدي، إلى جوار راشد الخضر وعلي بن رحمة الشامسي والماجدي بن ظاهر ومانع سعيد العتيبة وقصائد الشيخين زايد آل نهيان ومحمد بن راشد آل مكتوم، ما أضاف بعدًا وطنيًا لأعماله الغنائية.
ومما يميز أعمال حمد الغنائية حفاظها على طابعها المحلي البسيط لحنًا وإيقاعًا، مستخدمًا (لا سيما في بداياته) آلة العود، إحدى الآلات الموسيقية الشعبية العتيقة، قبل أن يشرك بعض الآلات الأخرى الأكثر تطورًا في مرحلة لاحقة.
بالإضافة إلى النزعة التجاوزية التي اتسم بها معظم أعمال ميحد حمد الغنائية، وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان نسب أعماله إلى فئة غنائية شعبية محددة حصرًا، سواء كانت غناء جبليًا أو بحريًا أو سهليًا أو صحراويًا، وإنما قدمت أعماله لونًا غنائيًا شعبيًا متجددًا. وقد أسهمت هذه النزعة التجاوزية في صياغة هوية فنية شعبية لا تنتمي إلى لون غنائي محدد ولا قبيلة أو منطقة أو فئة ما، بل تجاوزت هذه التباينات القبلية والمناطقية والفئوية وتقاطعت معها في آن واحد، ما جعلها قريبة من كل فئات الشعب الواسعة والمتنوعة.
بهذه النزعة التجاوزية تمكن ميحد حمد من أن يمنح بصوته أبناء الإمارات على اختلافهم إحساسًا بوجود مشتركات ثقافية ولغوية، تربط بينهم عضويًا وتخلق شعورًا ووعيًا جمعيًا بالانتماء لتكتل جماعي يقع ضمن إطار جغرافي محدد وممتد من منطقة السلع إلى إمارة رأس الخيمة.
في هذا السياق، أسهمت أغاني ميحد حمد في إثراء المخزون الثقافي والتراثي، وخلقت عالمًا جماليًا وذاكرة شعبية جماعية ترافق أبناء الإمارات في التجمعات والمناسبات الاجتماعية المختلفة، كالأعياد والأيام الوطنية، مثل أغاني عيدك مبارك والله يا دار زايد وأحب البر والمزيون. وقد ساعد افتتاح محلات بيع الاسطوانات وتسجيل الأغاني (أشهرها محل تسجيلات الشعب) في منتصف السبعينيات على انتشار أغاني ميحد حمد المسجلة على أشرطة «الكاسيت» على نطاق واسع في كل مدن الدولة.
ليس ميحد حمد وحده، لكنه الأيقونة
الجدير بالذكر أن مسيرة ميحد حمد زامنتها في فترات مختلفة أسماء غنائية إمارتية لا تزال هي الأخرى حاضرة في الذاكرة الشعبية، منها على سبيل المثال علي بن روغة الزعابي ابن الجزيرة الحمراء التابعة لإمارة رأس الخيمة. ولد بن روغة عام 1940، وقدم مجموعة من الأغاني الشعبية مثل تريد الهوى لك وبندب نسيم الصبايا، قبل أن يقرر اعتزال الفن وترك الغناء في الثمانينيات.
إلى جانب الفنان جابر جاسم المريخي الذي اكتسبت أعماله شهرة خليجية واسعة، كأغنية سيدي يا سيد ساداتي وأغنية غزيل فله. وقد تكون هذه الشهرة راجعة إلى ظروف نشأته، فقد ولد عام 1952 في جزيرة دلما قبالة سواحل إمارة أبو ظبي، ثم انتقل مع عائلته إلى إمارة قطر، التي استقر فيها وبدأ مسيرته الغنائية في مدارسها وعلى خشبات مسارحها. وفي منتصف السبعينيات سافر المريخي إلى القاهرة لدراسة الفن والالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى، وهناك تعرف إلى كثير من الفنانين المصريين وتأثر بهم.
هناك العديد من الفنانين الإماراتيين الذين بزغ نجمهم في عقود ماضية وخفت بعدها، إلا أن نجم ميحد حمد وبشهادة الإماراتيين أنفسهم لا يزال ولعقود طويلة بازغًا في سماء البلاد، ومتفردًا عن مجايليه ولاحقيه. لقد تضافرت هذه العوامل مجتمعة التي ذكرناها لتجعل من ميحد حمد أيقونة الأغنية الإماراتية، وجديرًا بأن ينال لقب فنان الإمارات الأول عن جدارة واستحقاق.
أحب الإماراتيون ميحد حمد كما أحب اللبنانيون الأخوين رحباني وفيروز، والمصريون أشعار أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام وصوت أم كلثوم، والسعوديون طلال مداح ومحمد عبده، واليمنيون أبو بكر سالم وفيصل علوي، وكما أحب غيرهم من الشعوب رموز ورواد ثقافاتهم الشعبية والوطنية، الذين عبروا عن رؤية شعوبهم للعالم وأيقظوا خيالاتهم ومنحوهم شعورًا بالانتماء للجماعة والمكان.