يعتلي ما يشبه سدًّا، بينما الضباب الصباحي يلف الأشجار ويغطي سطح ما يبدو كنهر، مالئًا فضاء المكان ليحيله إلى لون رمادي كثيف. ثَمة من هو واقف، عيناه شاردتان تجاه الأفق الممتد، حيث تتشقق رمادية الضباب على تكاثفه، ويظهر ثلاث هيئات مهيبة تسبح في السماء.
لم تكن الهيئات تسبح تجاهه، هو الواقف فوق جسد هذا السد، بل كانت تسبح أمامه كأنها على خشبة مسرح. وبتمهل كأنها ناعسة، كانت الهيئات الثلاث تقطع جسد السماء، وها نحن نتلمَّس المشهد معه: حوتان كبيران، أحدهما يتقدم الآخر، وصغيرهما بينهما. وهو واقف، فوق السد، يتتبع تمزيقهم هشاشة الأفق دون جهد.
يبدو المشهد أقرب إلى وصف حلم، لكنه بالفعل وصف لواحدة من صور الفوتوغرافي التشيكي «مارتن فلاش» (Martin Vlach) الذي يُظهر في مجموعاته الفوتوغرافية انشغالًا بتيمات تُلامس العزلة، وتحاول الإمساك بضبابية إدراك الوجود. انشغال يجعل صوره تُقارب الهيئة التي تتكون عليها أحلامنا، أو بالأحرى ما يبقى من هذه الأحلام بعد أن نفيق.
ضبابية الفضاء المكاني أكثر ما يحضر في فوتوغرافيا مارتن فلاش. ضباب يشبه مناخ الأحلام أو الغابات مع ولادة صباحاتها في الشتاء. ثَمة إيهام وإرباك لما يحمله مفهوم السماء/الأفق الضبابي في فوتوغرافيا فلاش. إيهام يستجلب معه حضور عناصر غرائبية أو سيريالية بالنسبة إلى ذلك الفضاء الذي توضع فيه.
في إحدى صوره، نجد حوتًا يخرج من الضباب الذي يلف غابة كثيفة، بالطريقة نفسها التي يصعد بها إلى سطح مياه المحيط، ضاربًا إياها بظهره ورأسه تباعًا، يراقبه من حقل قريب أجرد شخصان وكلبهما.
لا مفر إذًا من أن يتسلل شيء من الارتباك والتساؤل في محاولة فهم الطريقة التي يدمج بها فلاش المكونات داخل أُطره الفوتوغرافية. مشوِّشًا الحدود بين فضاء الغابة وفضاء المحيط، يحضر الضباب كنسيج لا يمكن تحييده عن المشهد، بل يكاد المشهد لا يكون على ما هو عليه لولا هذا الضباب.
يعيش مارتن فلاش في قرية صغيرة قرب العاصمة التشيكية براغ. قال لي في واحد من حواراتنا القليلة عبر البريد الإلكتروني، المتَّسِمة باقتضاب واضح في ردوده، إنه علَّم نفسه التصوير، واضطر إلى ذلك بعدما دخل امتحان القبول في مدرسة التصوير الفوتوغرافي ولم يجتزه.
يضيف: دخلت امتحان القبول مرتين، لأكون صادقًا، وفي كلتيهما لم أنجح.
تظهر صور كثيرة من مجموعاته الفوتوغرافية بالأبيض والأسود. يجد في ذلك شيئًا من البساطة والخلود لن يغيِّره الوقت، بعكس الحال مع الصور الملونة.
يعرف أنه لن يستطيع أن يلتقط صورة مثالية، أي الصورة التي لن تحتاج بعد التقاطها إلى تعديل، فيعمل على خلق شيء من مجموع صوره. من هنا تتخلق الثيمات التي تحضر في مجموعاته الفوتوغرافية. يفسر هذا المنطق شيئًا من حضور البُعد الغرائبي في عمله. مزيج هي إذًا، هذه الفوتوغرافيا، من ارتباك الممارسة ومحاولة العثور على طرق لمداراة العيوب وخصوصية الحلول التي تتفتق عنها مخيلته.
صور ملبدة بالضباب، يظهر فيها العالم منسحبة معالمه، يغلِّفه اللاوضوح، واللامسار، واللاوجهة. حضور سحيق للفضاء الموحش، يحيط بعزلة الكائن، وسط حيرته و«ضبابية» الرؤية لوجوده، أو مساره.
يمكن تلمُّس هذا الإيهام باضمحلال ملامح العالم كنتيجة لحضور الضباب، أو من بين جنبات الحركة الهادئة المتمهِّلة للحيتان في أروقة سمائه، أو من قلب حالة المراقبة/الانتظار/التحديق التي تحضر عند العنصر البشري في صوره. أيٌّ من التأويلات الثلاثة يمكن أن تجعلنا نرى الصورة نفسها بطرق مغايرة. لكن الحاضر دومًا، في أيٍّ من التأويلات، هو هذا الشيء الذي يشي خفوتًا باضمحلال العالم.
حتى إن التحديق فيه، هذا العالم/المشهد، لا يبدو حزينًا على نحو انفعالي متهيج، بل أقرب إلى أن يكون ميلانخوليا، سوداويًّا، يدرك طبيعته ويتسق معها، بل كأنه يرتديها دون حاجة لبذل جهد.
يمسك مارتن فلاش بشيء من كوابيسنا، حيث المناخات هنا تختلط فيها الأحلام بالهواجس. يظهر هذا أحيانًا في حضور أناس يسقطون من السماء، كما يحدث حين يحلم المرء بأنه يسقط في قاع بئر أو من فوق مرتفع إلى عمق فوهة ما.
يظهر هذا أيضًا في حضور مجموعة من الناس لهم الهيئة نفسها، يشغلون الفضاء المكاني نفسه، كأن الواحد يكرر ذاته، يكرر نفسه في عدة أمكنة أو احتمالات. يبدو وقوفهم هكذا أشبه بمن يتأملون عبور إنسان إلى ما بعد الحياة، مراقبة انتقال بين عالمين، حيث الانتظار والهدوء الأشبه بذلك الذي يمكن أن يكون تحت مخدِّر، يحيط كهالة بلغة الجسد.
لا توجد معلومات متاحة على الإنترنت عن سن فلاش، أو كم من الوقت مارس الفوتوغرافيا.
خلال مراسلاتنا المتقطعة، لم يخبرني بكثير من المعلومات. كل ما عرفته أن الذي يظهر في الصورة يراقب الحيتان من فوق ما يبدو سدًّا، أو ذلك الذي في صورة يتكرر فيها الشخص نفسه، هو مارتن فلاش.
في 2017، توقف فلاش عن التقاط الصور، حذف كل حساباته على تمبلر وفليكر وإنستغرام. لم يعد هناك من وسيلة للوصول إلى صوره إلا من خلال المواقع المهتمة بالفوتوغرافيا، والتي عُرض بعض منها كإشارة لتجربة فوتوغرافية ذات حساسية وإدراك مغاير للأشياء.
بعدما احترت في سبب حذف مدوناته وما عليها من بيانات، كتبت إليه سائلًا إن كان هذا يتعلق بمشكلات تقنية أو ما شابه ذلك، فجاء رده في الليلة نفسها:
«لا، لم يكن بسبب مشكلات تقنية. كان قرارًا مني. السبب الذي جعلني أحذف صفحاتي أني منذ فترة ليست بالقليلة لم أعد أشعر برغبة في الإمساك بالكاميرا، أو بدء مجموعة فوتوغرافية جديدة. شعرت أني قلت كل ما كنت أود أن أقوله، ولم تعد تأتيني الحاجة المُلحة لالتقاط الصور، وما ينتابني من مشاعر تصاحب هذا الفعل. لذا، بحذف صفحاتي، حاولت أن أقطع اتصالي بهذه الصور.
كانت فترة عظيمة من حياتي، لكني لا أستطيع أن أبقى هكذا إلى الأبد».
عدت لأسأله إن كان ثمة مسار آخر قرر أن يسير فيه بعيدًا عن التصوير، أم لا تزال الأمور «ضبابية»؟
لكن مارتن فلاش لم يجب، على الأقل حتى الآن.