أنا اسمي امرأة: المعرض الفني لمها العساكر

التصميم: منشور

حسين سنا
نشر في 2022/06/29

من يمتلك الجسد؟ أهو صاحب الجسد، أم الدولة؟ أم العائلة، أم الجماعة التي يعيش في إطارها الفرد (بصفتها راعية له ومدافعة عن عرضه وشرفه وجسده حتى بعد مماته)؟

تتناقض إجابات هذه الأسئلة بحسب المرجعية الفكرية التي يلجأ إليها الفرد. ولأن الثقافة العربية المعاصرة في حالة انتقالية بين موروث تراكم عبر الأجيال، وجديد دخل عبر الانفتاح على العالم، فإن المرأة تشغل كذات وكموضوع مكانًا مركزيًا في الخطاب العربي المعاصر، وضمن إشكاليات الثقافة العربية في مدى مجاراتها لمتغيرات العصر، لأن المرأة تمثل من جهة قضية من قضايا الحرية والتحرر، ومن جهة أخرى يعكس «تحجيب» المرأة الفهم الديني الأصولي والتقاليد والعادات والموروث الأبوي. 

وباختلاف التصور والممارسة تتراوح مكانتها بين أسلوب عيش منفتح على العديد من مجالات الحياة، والتمسك بالموروث المقدس الذي يبقى عصيًا على متغيرات الزمن وراسخًا بثقل، ومقيدًا لمجالات المرأة ونطاقاتها في الحياة.

بين هذه الإشكاليات، تأتي الفنانة مها العساكر في معرض فني من تنسيق الفنان محمد قاسم، والذي افتتح مؤخرًا تحت عنوان «أنا اسمي امرأة»، لتصور مفهوم المرأة وفق الموروث، وتشير إلى اختزاله للجسد وتقييده لآفاق الحياة الرحبة، بشكل يقترح إعادة النظر في هذه القيم التقليدية، والتخلي عنها ربما، وذلك بالتمرد على امتهان جسد المرأة عبر تقييده، وتتقاطع أفكار المعرض بين البنائية والنسوية والسياسة الحيوية.

الجسد موضوع بيني (Interdisciplinary) في حقول المعرفة، ومقاربته قد تنطلق من مختلف المجالات كالسياسة والأحياء والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية غيرها، الأمر الذي يتيح تعدد التفسيرات للصور المعروضة في المعرض. وإذا كان الجسد هو الجانب العضوي من الوجود الإنساني، فإن التعاطي معه ينعكس على الجوانب المعنوية والمفاهيم والتصورات حول الجسد والمرأة. وفيما يلي مجموعة من العناصر والرمزيات التي تكرر عرضها في الصور.

الأسرة

تمثل مائدة الأسرة والتجمعات العائلية حول الطعام أحد أبرز التقاليد العائلية المستمرة إلى اليوم، وتتصف بالاستمرار والديمومة سواء كانت الوجبة العائلية يومية داخل المنزل أو أسبوعية بين أفراد الأسرة الممتدة/الأكبر عبر الزيارات الأسبوعية، أو حتى السنوية في الأعياد والمناسبات. 

تهيمن على المائدة أحاديث الأسرة وتعليقات العائلة الموافقة أو المعارضة للسلوكيات، سواء كانت تلك السلوكيات في المجتمع الخارجي أو سلوكيات أفراد الأسرة نفسها، كطريقة لباسهم أو حديثهم أو إنجازاتهم وإخفاقاتهم. كما تنقسم الأسرة في العادة بين جيلين، قديم عايش أعرافًا في السابق ويرى تلاشيها في الحاضر، وجديد يعيش حاضرًا منفصلًا عن الماضي ومتجاوزًا له. ولعل الاستقطاب الآخر الذي يحدث عادة هو بين فريق مؤيد ومعارض أيًا كانت الفئة العمرية المنتمى إليها. 

لذا كانت المائدة رمزًا أساسيًا في المعرض الفني، وخيط على منديل كل مقعد مثل شعبي يعكس تصورًا ما عن المرأة، فهي غير مؤتمنة، وهي مصدر البلاء والخراب، والخلاص منها بعدم إنجابها، أو بتزويجها أو وفاتها هو مصدر للفرح والراحة وخلاص من الهم. أما الرجل فهو خير في جميع الأحوال، لأن ظله خير من ظل حائط، وتتراوح الأمثال في مدى شعبيتها ورواجها، لكنها جميعًا حاضرة في التراث، ويبدو توارث القيم عبر الاجتماعات العائلية والتلاقي مع الجيل القديم من قنوات توريث هذه القيم.

جاء تنسيق المائدة بشكل يوحي أن تجمعًا عائليًا قد انتهى للتو، عبر بقايا طعام وفناجين نصف ممتلئة أو مقلوبة، وبخلاف ذلك بدا شكل المائدة أنيقًا لكنه مخيف في ذات الوقت، بشكل يشبه الموائد في أفلام الرعب أو الموائد في بريطانيا العصر الفيكتوري (الشبيه هو الآخر في ظروفه وطبقاته الاجتماعية بالمجتمع المحلي).

المرآة – المرأة

تبدو في المعرض الفني صورة لفتاة تمسك بمرآة تغطي وجهها، وفي المرآة نرى انعكاس ثمرة تحل ملامح وجه الفتاة، فالمرأة ثمرة في المنظور الذي تنتقده مها العساكر، ثمرة ينبغي تغطيتها وتغليفها، وثمرة تفسد إن لم يأخذها أحد، وثمرة تملكها الأسرة أو المجتمع المحيط بها، والذي بذل جهدًا في إنضاجها وتربيتها حتى «نضجت».

الثمرة

تتكرر في المعرض الفني رموز معبرة عن تصور المجتمع للمرأة، والتي تنتقد من خلالها مها العساكر القيم التقليدية، فالحديث في الخطاب التقليدي عن المرأة بوصفها «ثمرة العائلة» و«شرف العائلة» الذي يجب أن يدافع عنه، والعورة التي يجب أن تُستر، وهو اختزال (Reduction) للمرأة، وتحويلها من إنسان إلى شيء (Objectification).

ورغم أن نقد بعض التيارات التقليدية للحداثة يرتكز على اختزال الحداثة للمرأة وإهانتها وتحويلها إلى مجرد وسيلة تسويقية (عبر استعمال جسدها) في ترويج السلع، فإن النظرة المتحفظة وذات الطابع الأبوي الذكوري التي تتبناها هذه التيارات لجسد المرأة هي اختزال لجسدها كذلك، فالمرأة ليست ثمرة العائلة ولا ثمرة التربية الصالحة، «لأن الثمرة تؤكل، وإن تُركت على الرف دون أكل فإنها تتعفن».

حاجب/قيد 

يتخذ الحَجْب شكلًا مركبًا في الصور، فمثلًا يستر وجه الفتاة بالكامل غطاء شبيه بأغطية الطاولات التي تتوسط التجمعات العائلية، بشكل يحجب عن الفتاة الرؤية، ولا تستطيع أن تزيل الغطاء عن وجهها بسبب تقييد يديها إلى الخلف، فالنظرة للحياة من وراء حجاب نظرة مقيدة.

تتعدى قضية القيد المرأة بوصفها أنثى إلى كونها تمثيلًا للعدالة الاجتماعية بين الجنسين (طبقية جنسية)، وممثلًا للأقليات الجنسية، ومحورًا يعاد من خلاله النظر في أسس التراكم الأبوي (Patriarchy) الذي راكمه التاريخ عبر الأزمنة، ويتحد فيه الجسد المادي (جسد الفرد-الأنثى) في جسد معنوي جمعي (Collectivist) يوحد جميع النساء اللائي يشتركن في الارتباط بهذه القضية في امرأة واحدة وجسد واحد، وهو ما يبلور النسوية خلف معرض «أنا اسمي امرأة».

تتراكم قصص النساء مع تكرر القصص وتشابه السيناريوهات بشكل يوحدهن في صورة واحدة، يتحول فيها تكرار القصص والتجارب إلى نمط حياة ونموذج، تتشابه قصص النساء في هذا النموذج في أن نظراتهن جميعًا مقيدة أو محدودة أو حتى معدومة، فبعضهن تملأ أنظارهن الزهور/الحياة الزاهرة التي تغطي عليهن الآفاق، وأخريات «تلجم» أعينهن الكورسيه (المشد الأنثوي)، وأفضلهن حالًا يستطعن النظر من خلال فتحة ضيقة.

ديستوبيا: سوداوية وردية

معظم الصور كانت لمها العساكر كبورتريه شخصي يعكس تجاربها، وتبدو الأنثى أنيقة في بعض الصور، أو تسترها أثواب رثة في صور أخرى، وتظهر في صورة رافعة رأسها رغم أنها مقيدة، ولكنها لا تبتسم في أي صورة، فسواء كانت في قيود وأصفاد أو تحت حجب وأغطية أو كانت في كامل هندامها، تهيمن عليها مشاعر التعاسة والحزن والكآبة.

عند سؤال «منشور» لمها عن معاني معرضها، والذي عمل على تنسيقه الفنان محمد قاسم، قالت: «قسمنا المعرض إلى أربعة أقسام: جسد الأنثى، والصحة النفسية والعقلية ودور المجتمع، والهوية الأنثوية، والفضاء المحلي عبر مائدة الأسرة. أخذت تفاصيل المعرض الكثير من التفكير، وكانت هنالك حكاية خلف كل تفصيل، تركت للزوار حرية التعمق في المعروضات عبر إضافة رموز شريطية (بار كود) يدخلهم إلى روابط عبر الإنترنت تحمل مزيدًا من التفسير. أردت للأعمال أن تكون من زوايا مختلفة، فالصور بعضها التقط من الأمام أو من الأعلى أو الجانب، وبعض الأعمال كانت ملموسة وليست صورًا في أطر، أما النصوص فقد كانت من كتابة صديقة حولت أفكاري إلى شعر وترجمها صديق آخر إلى العربية. مائدة الأسرة مثلت الأقوال التي تبقى وتتناقل من الجدات إلى حفيداتهن، والمفارش والتطاريز التي بدت كلاسيكية وتقليدية حملت أمثالًا مستفزة، وقد طرزتها لأن التطريز من الحرف المتوقع من الأنثى أن تتقنها، ولأن التطاريز تبقى."اكسر للبنت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين"، قيل لي من أحد أفراد عائلتي، ومنه استطردت إلى بقية الأمثال الدارجة. استهدفت في هذا المعرض أن أشير إلى الهوس بالتحكم في جسد الأنثى، أما الأقمشة البيضاء فكانت إشارة إلى التوقع من النساء أن يكن نقيات وصافيات، كما في بعض الأعراف حين يلوح بالمناديل البيضاء وقد اتسخت بالدماء ليلة العرس دليلًا على شرف المرأة. ثمرات الفاكهة هي الرموز التقليدية التي وجدتها في الأدب حول جسد الأنثى، وكانت للحديث حول الجسد دون عري ولتخطي منع المعرض أو إغلاقه، فرمزت إلى جسدها ومعالمه بالرمانة والكمثرى وغيرها».

تختلف النظريات في تحديد الغاية من الفن، فالبعض يرى الغاية منه في الإدهاش على الدوام، وآخرون يرون غايته في إعادة طرح الأسئلة التي دفنتها الأجوبة، أو أن تتسق غاياته في إبلاغ رسالة السماء، أو أن يحرك الفن المشاعر.

أيًا كانت الغاية من الفن، فقد بدت المرئيات التي أُنتجت وعُرضت في هذا المعرض قادرة على تهييج مشاعر المشاهد، وإثارة مختلف ردود الأفعال المؤيدة والمعارضة. بدت الصور من النوع المستفز الذي لا يبقي جمهورًا دون استقطاب بين داعم ومحارب، ولعل من الصواب أن تبقى الأسئلة التي أثيرت معلقة على الأستار، تثير غبار العقول.

مواضيع مشابهة