أجرى موقع «World of Reel» استفتاءً يخص أفضل أفلام العقد الأخير، شارك فيه 250 شخصًا، ما بين نقاد وصناع أفلام وأكاديميين وغيرهم، وأتى على رأس القائمة فيلم الأكشن «Mad Max: Fury Road» للمخرج «جورج ميلر»، متفوقًا على أفلام لمخرجين يحبهم النقاد مثل «تيرانس ماليك» و«بول توماس أندرسون».
هنا يأتي السؤال الملح: لماذا «ماد ماكس»؟ لماذا بعد أكثر من ثلاث سنوات على صدوره لا يزال الفيلم محل حديث العديد من المهتمين بالسينما؟ كيف استطاع فيلم أكشن قلب الموازين بهذا الشكل؟
«ماد ماكس» فيلم أكشن استثنائي، ويجب أن يكون القدوة والإلهام لأي فيلم أكشن، ومشاهد المطاردات فيه وصلت من الجنون درجة مرعبة، لكن تقنين «ماد ماكس» بهذا الإطار أمر غير عادل. أعتقد أنه يتخطى حدود كونه مجرد فيلم أكشن استثنائي، وربما هذا هو سبب تعلق الناس بالفيلم، كونه ثار على المعايير التقليدية التي يُقيم بناءً عليها، وقلب الصفحة بشكل كامل ليبدأ بكتابتها من جديد، وعلى طريقته الخاصة. «ماد ماكس» ينجح في توظيف الكثير من العناصر التي يصعب اجتماعها في فيلم واحد، وليس ذلك فحسب، بل ينجح في وقت قياسي، فالفيلم أشبه ما يكون بحقنة أدرينالين مكثفة قادرة على هز جسمك بشكل كامل ولمدة طويلة.
حرص المخرج جورج ميلر على سرد الفيلم بشكل بصري أكثر من أي شيء آخر.
لم أشاهد أي فيلم من أفلام «ماد ماكس» السابقة التي كانت من بطولة «ميل غيبسون»، وأعتقد أن ذلك جاء في صالحي لأنني لم أضع الفيلم في إطار المقارنات، وجعلني أركز بشكل كامل على المحتوى المقدم الأمامي، بدون أي أفكار جانبية قد تتسبب في تشتيتي. ولكن أكاد أجزم بأن التجربة لن تتغير بتغير المعطيات، فحتى لو شاهدت جميع الأفلام السابقة، سأستمر في التفكير بهذا الفيلم، سيظل الفيلم مستحوذًا على نسبة كبيرة من تفكيري، بل ربما ستزيد مكانته لديَّ نظرًا للتطور البصري والاستغلال المثالي للتكنولوجيا والمؤثرات العملية في صناعته.
حرص المخرج جورج ميلر على سرد الفيلم بشكل بصري أكثر من أي شيء آخر، «ماد ماكس» فيلم مفعم بالطاقة والحركة، وتلاحظ هذا الأمر منذ البداية. لا يتمهل ميلر في سرده للأحداث، بل يرميك في المعمعة مباشرةً، ولا يحرص على شرح جميع الجزئيات لك، كل ما تحتاجه هو فهم الصورة الكبيرة: نحن في عالم متهالك ومتشبع بالدمار، هناك طاغية يحكم هذا المكان، ويجمع أبطال القصة هدف واحد: الهروب من هذا الجحيم.
قرار ميلر برواية الفيلم بهذا الشكل البصري البحت هو قرار محفوف بالمخاطر، نحن في عصر ارتفعت فيه أهمية الحوارات بشكل كبير، وحتى أضخم أفلام الأكشن لا يخلو من حوارات كثيرة تشرح بالتفصيل ما يحصل للمشاهد أمام الشاشة، تسرد الحبكة ومسار الأحداث، وربما قد تخوض في ماضي بعض الشخصيات لإيصال الصورة الكاملة، وتوضيح الأبعاد الدرامية التي تتخللها، ولا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل قد يكون أمرًا ضروريًا لأفلام الأكشن الصيفية، فارتفاع درجة الغموض ووتيرة الهدوء والسرد الصامت قد ينفِّر المشاهدين الذين جاؤوا للفيلم خصيصًا حتى يسلموا عقولهم بالكامل للشاشة ولا يضطروا إلى التفكير بأي شيء.
المطاردات كأداة سردية
قبل فترة كنت أشاهد فيلم «Ant-Man and the Wasp»، وخلال مشهد مطاردته الكوميدي الشهير، لم أستطع منع نفسي من الشعور بالملل، مع أن المطاردة كانت في أواخر الفيلم وكان المحك عاليًا والضغط مرتفعًا. وقبلها بفترة كنت أشاهد «The Fast and the Furious»، واستمر أحد المطاردات بنفس الرتم لدرجة إحساسي بتصلب عيناي وشعوري بأنني لست واعيًا بل أحلم، وبطبيعة الحال، أحسست بالملل.
لم يحصل هذا الأمر مع «ماد ماكس»، بل على العكس تمامًا، في نهاية كل مطاردة كنت بالكاد التقط أنفاسي وأنا بكامل استعدادي لمطاردة أخرى جديدة لا تقل عن سابقتها جنونًا وحِدة، وأعتقد أنه يمكن تشريح هذا الأمر من زاويتين: أولاهما بصرية، والأخرى سردية.
من الناحية البصرية، اعتمد جورج ميلر في مطارداته على المؤثرات العملية واستغنى بشكل شبه كامل عن الغرافيكس، استعمل سيارات حقيقية في صحراء حقيقية ولم يصور في الاستوديو، ونتيجة ذلك كانت فورية وسريعة النجاح، فارتباط المشاهدين بما يحصل أمامهم كان ارتباطًا حقيقيًا، وتشبثوا بمقاعدهم بسبب واقعية ما يشاهدونه وجنونه على حد سواء. وكمشاهدين، لا يمكن أن نطلب أكثر مما شاهدناه في المطاردة الأولى في الفيلم، ضخامة تلك المطاردة وتوظيف العاصفة كجحيم حقيقي وخطر محدق بأبطال وأشرار القصة، تسببت تلك المطاردة في اندماجنا المباشر مع الفيلم وتجاهل الأسئلة الثانوية التي أجل الفيلم الإجابة عنها، أسئلة مثل «لماذا انقلبت فيوريوسا الآن على زعيمها؟» و«من هو ماكس؟».
الغوص لأجل الإجابة عن هذه الأسئلة في بداية الفيلم قد يقلل من ارتباط المشاهدين، وبداية بطيئة كهذه قد تكلف الفيلم الكثير، وهنا تأتي الزاوية السردية للمطاردات، فيستغني الفيلم عن مشاهد فلاش باك أو حوارات تشرح دوافع وتاريخ الشخصيات، وعوضًا عن ذلك يرميك وسط معمعة الأحداث، وتكتشف دوافع الشخصيات ومبرراتها بمرور الوقت وتوطد علاقات الشخصيات ببعضها بعضًا، متخليًا عن الطريقة المعتادة في رواية الأفلام، وخالقًا جوًا مشحونًا مترابطًا بشكل رهيب.
يبرع جورج ميلر في توظيف العواطف خلال مطارداته، مثل توطد علاقة ماكس بفيوريوسا من خلال مشاهد المطاردات ومساعدتهما لبعضهما بشكل متكرر، وكأنهما يتعرفان إلى أحدهما الآخر من خلال الشيء الوحيد الذي يتقنانه أكثر من أي شيء آخر: القتل.
يجب الثناء على أداء تشارليز ثيرون وتوم هاردي الصامت، فمن خلال تعابير الوجه في خضم القتال فقط نلاحظ التحول من مشاعر الكره وانعدام الثقة المتبادلة، إلى وجود ثقة نسبية مرتبطة بعدو مشترك.
مثال آخر هو نشوء علاقة بين نوكس فتى الحرب (نيكولاس هولت) ونوكس إحدى زوجات إيمورتان جو (كورتني إيتون). بدأ الفيلم وهدف فتى الحرب هو القبض على أبطال القصة، وانتهى به المطاف بالتضحية بنفسه لأجل ضمان هربهم، ولأنه بهذه التضحية يصل إلى الهدف السامي للموت الذي كان يحن إليه أكثر من أي شيء آخر.
توظيف الموسيقى والأصوات
استطاع ميلر إيجاد توافق عجيب جدًا بين الموسيقى والحركة في الفيلم، وعند إعادة المشاهدة، ستلاحظ كيف أنها أصبحت تُعرف بمقطوعاتها المرافقة. أحد أبرز الأمثلة هو مشهد المطاردة مع سائقي الدراجات النارية، فالهدوء الذي كان يسبقها، ولحظات التوتر التي سبقت الانفجار، ومن ثم انطلاق معزوفة «Brothers in Arms» مع بدايتها، أُعلن أول تعاون بين ماكس وفيوريوسا.
تبدأ المعزوفة بشكل صاخب للغاية، بل وغير متناسق، بشكل مشابه جدًا لبداية المطاردة الصعبة والمتعثرة لأبطال الفيلم، تُشعرك المعزوفة بمحدودية الخيارات وضيق سبل النجاة، ففي ذلك المشهد كان أبطال الفيلم مطارَدين من طرفين: سائقي الدراجات الراغبين في الوقود، وإيمورتان جو.
الموسيقى لم تكن النقطة السمعية الوحيدة التي أبهرنا بها الفيلم، ففي نهاية أولى المطاردات نتابع المشهد القتالي الرائع بين فيوريوسا وماكس ونوكس.
لكن بشكل تدريجي، وحين يبدأ التناسق في الظهور على أسلوب ماكس وفيوريوسا، يستطيع الاثنان إزالة المطاردين واحدًا تلو الآخر، وكأن محركًا بدأ في العمل أخيرًا. يبدأ الصخب في الانخفاض تدريجيًا، وتقل الآلات الموسيقية المستخدمة في العزف، ويصبح اللحن أكثر وضوحًا، أكثر ملحمية، لحنًا مناسبًا لرواية مشهد يظهر فيه البطلا وكأنهما من كوكب آخر، قادران على ثني جميع المعوقات لصالحهما.
الموسيقى لم تكن النقطة السمعية الوحيدة التي أبهرنا بها الفيلم، ففي نهاية أولى المطاردات نتابع المشهد القتالي الرائع بين فيوريوسا وماكس ونوكس، الذي يثبت الفيلم من خلاله أنه كما هو قادر على تنفيذ مشاهد الأكشن الضخمة والمكلفة، فهو قادر على تنفيذ مشاهد الأكشن القتالية في حيز أقل حجمًا وأكثر ضيقًا.
يتسم المشهد بالواقعية البحتة، فلم يكلف الفيلم نفسه عناء توفير أكثر الحركات القتالية جاذبية، بل أكثرها بدائية وعنفًا وقذارة. وبالرغم من تعدد العناصر المميزة في هذا المشهد، فإنه لا بد من تقديم إطراء خاص للتوزيع الصوتي فيه، لأنه مليء بالدماء والرصاص والرمال واللكمات، لكن ما يبقيك منجذبًا إليه فعلًا هو التركيز بالتفاصيل الصوتية التي قد تتجاهلها أفلام أخرى. صوت إطلاق النار، تعبئة وإعادة تعبئة الأسلحة، أصوات ارتطام الحديد والمعادن بالجسد البشري، وحتى صوت السلسلة المحيطة برقبة ماكس، والتي في كل مرة تغفل عنها يذكرك رنينها الحاد بوجودها.
ولا يتوقف هذا التركيز في ذلك المشهد وحسب، بل يستمر على مدار الفيلم، ويشتد عند العناصر النادرة في محيط الفيلم الصحراوي. فحينما تسمع خرير الماء على سبيل المثال، فأنت تسمعه بوضوح عالٍ لا يشوبه شيء، تأكيدًا لندرة الماء وأهميته في هذا العالم الديستوبي. وحين تغرق شخصية ما وسط الرمال، فأنت تسمع عزف الرمل وكأنك غارق بجانب هذه الشخصية.
الأداءات التمثيلية
أفلام الأكشن بطبيعتها ليست مكانًا للأداءات التمثيلية الرنانة، ويحصل من فترة لأخرى ظهور أداءات أيقونية في هذه الأفلام، لكن ذلك يحصل عادةً بسبب نجاح الفيلم والشخصيات، وهذا ليس انتقادًا للممثلين في «ماد ماكس»، لأنهم عملوا مع ما وُفر لهم من حوارات ومشاهد، ولكن لأن الفيلم أساسًا لم يمتلك متسعًا من الوقت لإعطاء المساحة اللازمة لممثليه، فمشاهد الحركة وتوضيح كل تفاصيل القصة أهم بكثير من لحظة درامية قد لا تقدم ولا تؤخر في نتيجة الفيلم النهائية.
بدايةً من نيكولاس هولت، الذي بدأ الفيلم شخصيةً ثانوية مهووسة بالقتل والدمار، ليقنعنا بأدائه إلى أي حد كانت شخصيته غارقة في جهل حاد، ويظهر كبطل في الفصل الأخير متصالحًا مع نهايته الحتمية، مُقبلًا على المجهول بصدر رحب ودون أي تردد. توم هاردي هو الآخر كان صاحب أقل عدد من الحوارات، وأكثر ما برع فيه في هذا الدور هو إيصال مشاعر الغضب التي تتدفق من عيني ماكس، وفي كل مرة كانت تسنح له فرصة للقتل، كان يستقبلها بذراعين مفتوحين، وكأنه يلوم كل من يقف في طريقه على ماضيه الأسود الذي يطارده في كل مناسبة.
نجومية الفيلم خطفتها الرائعة تشارليز ثيرون. فالتيمة الرئيسية لشخصية فيوريوسا تحكي عن الفرص الثانية، عن الحياة الجديدة.
تعرض الفيلم لبعض الانتقادات بسبب الغموض المفرط حول شخصية ماكس، لكني أعتقد أن هذا الغموض مفيد من الناحية التجارية للأفلام، بحيث تُركت مساحة لاستكشاف شخصية ماكس في أفلام مستقبلية. وهو غموض مفيد من الناحية السردية كذلك، لأنه لا يعطيك كل الإجابات الخاصة بهذه الشخصية، ولا تعلم لماذا يبدو في مشهد متمسكًا بالحياة أكثر من أي شيء آخر، ويُقبل على الموت في مشهد آخر. لا تعلم هل يبحث عن مستقبل جديد بعيدًا عن هذه البقعة من العالم، أم يريد الخلاص من العالم بأسره.
نجومية الفيلم خطفتها الرائعة تشارليز ثيرون. فالتيمة الرئيسية لشخصية فيوريوسا تحكي عن الفرص الثانية، عن الحياة الجديدة، فنراها تبذل كل ما في وسعها لمنح زوجات إيمورتان جو الحياة التي فقدنها ولم يذقنها يومًا، ونشاهد تحولات ثيرون في أدائها لهذه الشخصية، ونستكشفها تدريجيًا، من المحاربة الصلبة التي تقتل كل من يقف في طريقها بدم بارد، مرورًا بتكوين تحالف مع ماكس مبني على عدو مشترك، تحالف محفوف بالحذر من كل جوانبه، وصولًا إلى مشهد انهيارها البديع في الصحراء، والصرخة التي لم تكن تعبر عن حزنها فقط، بل عن فقدان الأمل، وانتهاء سبل النجاة، الصرخة التي كانت مفعمة بالذنب، ذنب قيادة من تعلقن بها إلى طريق مسدود ونهاية معتمة.