فيلم «Locke»: هل لرذيلة واحدة أن تمحو كل الفضائل؟

لقطة من فيلم «Locke» - الصورة: IM Global

لؤي طارق
نشر في 2018/07/08

«الفرق بين مرة واحدة وأبدًا هو كل شيء في هذا العالم. الفرق بين مرة واحدة وأبدًا هو الفرق بين الخير والشر، آيفِن».

كان هذا رد «كاترينا»، على زوجها «آيفِن»، عندما اعترف لها بخيانته. مرة واحدة فقط، رذيلة واحدة وقع «آيفِن» فريسة للضعف أمامها، لكن هل لرذيلة واحدة أن تمحو كل الفضائل السابقة؟ هل تُبنَى الثقة في أعوام عدة لتُهدَم في ثوانٍ؟

هذا ما يتمحوَر حوله فيلم «لوك» بالنسبة إليَّ. فهو يناقش سؤالًا فلسفيًّا حول مسألة الأخلاق. إنه لا يتساءل عن منبع الأخلاق، ولا عن حقيقتها، لكن عن العلاقة العكسية بين الفضائل الكثيرة والرذيلة الواحدة الطارئة.

بطل الفيلم «آيفِن لوك» شخصية متفردة ذات أبعاد نفسية غنية. في بداية الفيلم نجده ترك موقع البناء الذي يعمل فيه مهندسًا مَدنيًّا، يستقل سيارته الفارهة، ما يعطينا الشعور بأنه شخص على درجة من رغد العيش. وفي مشهد شديد الأهمية يقف آيفِن في إحدى الإشارات بين مفترق طرق، اختياره إشارة اليسار يوحي إلينا أن هذا هو الاتجاه الذي سيسلك، لكن بعد لحظة من التفكير والتردد يختار التوجه في الناحية الأخرى، وهنا يبدأ كل شيء.

تبدأ رحلة مدتها ساعة ونصف الساعة (زمن الفيلم) إلى لندن. رحلة سيصبح بعدها آيفِن شخصًا مختلفًا بحق، رحلة قد تكلفه أكثر من سعر البنزين المستهلَك من مُحَرِك سيارته.

خان آيفِن زوجته مع «بيثان» لمرة واحدة تسببت في أن تحبَل، واضطر للاتجاه إلى لندن، حيث ستضع بيثان مولودهما الذي قرر المجيء مبكرًا.

الفيلم ينتمي إلى أفلام الموقع الواحد. فنحن طوال الفيلم لا نرى شيئًا سوى آيفِن وهو يقود سيارته، ومن خلال عدد من المكالمات الهاتفية، نعرف كثيرًا عن حقيقة رحلته وشخصه.

نكتشف أنه مهندس مدني، زواجه سعيد، لديه ولدان، وهذا الزواج عمره ما يقرب من 15 عامًا. هو في وظيفته منذ نحو تسع سنوات، وهذه الأرقام غاية في الأهمية دراميًّا، لكن يشاء كاتب الفيلم ومخرجه «ستيفن نايت» أن يُعرِّفنا على آيفِن فقط في هذه الليلة، إذ يجِد نفسه في وضع صعب.

نكتشف مع نهاية الفصل الأول من الفيلم أن بطلنا خان زوجته مع إحدى الزميلات «بيثان» لمرة واحدة فقط تسببت في أن تحبَل هذه السيدة، ونعرف الآن أن آيفِن اضطر بشكل فجائي إلى أن يتجه إلى لندن، حيث المستشفى الذي ستضع فيه بيثان مولودهما الذي قرر المجيء في وقت مبكر.

حتى تكتمل مآساة بطلنا، فهذه الليلة تحديدًا كانت تسبق افتتاح مشروع بنائي ضخم يوجِب على آيفِن، كمشرف على هذا المشروع، أن يكون موجودًا في الافتتاح ويتحقق من أن كل شيء على ما يرام.

هنا يوقن المشاهد أن قرار آيفِن كان صعبًا، وقد يودي بكل شيء عكَف البطل على بنائه لسنوات عدة.

البحث عن حلول

نحن لا نشاهد فيلمًا يسرد لنا أحداثًا، بل إن الأحداث قد وقعتْ بالفعل، ونحن نرى نتيجتها وأثرها في حياة آيفن.

هناك جرأة شديدة في تناول هذه القصة. فإذا كانت صناعة أفلام الأكشن والخيال العلمي ذات التكلفة الباهظة مُخاطَرة وشجاعة، فصناعة فيلم مماثل لفيلمنا هذا هو شجاعة ومخاطرة أيضًا. فأفلام الموقِع الواحد تحتاج إلى أدوات سينمائية متعددة لتناول الحبكة على عكس المتوقَّع.

فأنت لا تُريد أن يَمل المشاهد من فيلمك، رغم أن رد الفعل الطبيعي هو أن يمل المرء مشاهدة شخص واحد فقط، في مكان واحد فقط، دون أحداث حقيقية، أو تحركات في حيز الزمان والمكان.

لكن فيلمنا نجح في تحقيق هذا الغموض، أو هذا الشيء أيًّا يكن اسمه الذي يجعلك كمشاهد تستمر في المشاهدة وأنت مسلوب الإرادة. فمن خلال المكالمات التي تدور بين آيفن وعدد من الأشخاص، وهو يقود سيارته على الطريق السريع المؤدي إلى لندن، لا نكتشف فقط أبعاد شخصيته، وتفاصيل علاقته بمَن هُم في حياته من أشخاص، لكن أيضًا يُعَلِّب هذا الديالوغ المستمر دور البطل كما يحدث في المسرح.

فنحن هُنا لا نشاهد فيلمًا يسرد لنا أحداثًا، بل إن الأحداث قد وقعتْ بالفعل، ونحن نرى نتيجتها وأثرها في حياة آيفن. وهذا ما أعطى للفيلم نكهته الخاصة المختلفة عن بقية الأفلام من نفس النوعية، وبشكل عام.

نتعاطف مع آيفِن، ليس فقط بسبب الرسم المتقَن دراميًّا للشخصية، ولكن أيضًا بسبب التجسيد البارع لـ«توم هاردي».

في ما بعد، وفي لحظات نادرة، خلال رحلة آيفن، نجده يخاطب، بشكل هيستيري، شخصًا ما غير مرئي (لنا على الأقل)، يبدو أنه يجلس في الكرسي الخلفي لسيارة آيفِن، ويعرف المُشاهد من خلال الحوار الأحادي (مونولوغ) بين البطل وهذا الشخص الوهمي، أنه والد آيفِن. ونكتشف مع الوقت أن هذا الأب كان مُسيئًا، وأنه تسبب في ميلاد البطل، ثم تركه كي تعصف به الحياة وتتقاذفه أحداثها، وهذا ما يفسر كل شيء.

هذا يشرح لنا سبب اتخاذ آيفِن قرار خوض هذه الرحلة. هو لا يريد أن يفعل بابنه غير الشرعي ما فعله به أبوه، إنه يريد أن يكون له أب، وأن يضمه إلى عائلته، يريد أن يتسبب في مجيء طفل لهذا العالم القاسي، ثم يتهرَّب من مسؤوليته.

وعليه، يضطر إلى الاعتراف لزوجته هاتفيًّا بالرذيلة الواحدة التي ستَهدِم كل ما حاول بناءه من أسمنت يناطِح السماء على صعيد حياته المهنية، ومن ثقة ومودة بينه وبين زوجته. وهنا ينهار مجهود بذله على مدار أعوام بسبب لحظة نشوة لا تتعدى الثواني، فيخسر وظيفته لأنه ترك موقع البناء في ليلة كهذه، وتقرر زوجته، بعد أن تحاول ابتلاع صدمتها، أن تنفصل عنه تمامًا لأنه خانها.

في الحياة الواقعية، أو في الدراما، نكشتف المعدن الحقيقي للشخص، أو الشخصية، في أوقات الأزمات. فقط عندما تعاني الشخصية نعرف عنها أكثر مما نعرفه في وضعها العادي، ونشعر بحقيقية ما تمر به من مشاعر على إثر هذه المعاناة، وعندها لا نجد كمشاهدين بُدًّا من التعاطف مع هذه الشخصيات، فنحزن علها، ونتأسى لها، ولا نملك أن نمسك عن البكاء على ما نراه أحيانًا.

اقرأ أيضًا: «بلوكباستر» هوليوود: هل انتهى زمن الأفلام «المُشبعة»؟

في هذا الفيلم ما يحعلنا نتعاطف مع آيفِن، ليس فقط بسبب الرسم المتقَن دراميًّا للشخصية، ولكن أيضًا بسبب التجسيد البارع لـ«توم هاردي» في أدائه لهذه الشخصية صاحبة التركيبة النفسية المُعقَّدة.

كل ذلك نختبره، والبطل لا يفعل شيئًا سوى القيادة وإجراء مكالماته الهاتفية، إضافة إلى اللحظات التي تتخلل هذه المكالمات الهاتفية التي تتركنا وحدنا مع بطلنا، ولا صوت خارجيًّا سوى صوت أفكاره ومعاناته الداخلية.

أجِد أن حل المكالمات الهاتفية كان إبداعيًّا للغاية. فكما يجلس المعترِف خلف حاجز يفصل بينه وبين رجل الدين، نجد آيفِن كذلك المعترِف، نرى اختلاجات وجهه ودموعه تختلط في لوحة بصرية تُعرَض على الشاشة، ولا نرى كيف هم من يتحدثون إليه، ولا نعرف إلا ما يريدون هم أن نعرفه عن مشاعرهم، إلا من بعض التحولات التي تحدث في صوت كل واحد منهم.

كذلك آيفن، في مناطق عدة، يحاول إخفاء بعض المشاعر، فيقيم، أو على الأقل يحاول أن يقيم، حاجزًا بين ما يعتمل حقًّا في صدره ونبرة صوته.

على مدار هذه الرحلة العصيبة، وفي ظل هذه الليلة التي تقلب حياة بطلنا رأسًا على عقب، لا يملك المُشاهد سوى الإعجاب بمدى «براغماتية» بطل فيلمنا، فهو دائم البحث عن حلول، دائم التقبُّل لتبعات أفعاله، وهو شديد الاتساق مع ذاته، ومتقبِّل لنتيجة اختياراته كلها.

يظهر ذلك في حوار الشخصية، فقد ترددت كلمة «Practical» (عملي) أكثر من مرة على لسانه، وهذا يفسر الأمر كله، ويضعنا أيضًا في مفارقة. إذ يقول المُشاهد لنفسه: كان الأحرى بشخص عملي مثله أن يتجنب كل هذا الدمار، أن ينسى أمر السيدة والطفل، ويستمر في ممارسة حياته بشكل طبيعي. لكن يبدو أن هذا الـ«بارادوكس» خُلِق بسبب ما رآه من والده، فتغلبت العاطفة التي دفعته إلى أن يقوم بهذا العمل الذي سيراه بعضهم جنونيًّا، وسيراه الآخرون إنسانيًّا.

لكن لا شك أن الفيلم طرَح هذا التساؤل الفلسفي. وبالفعل، ففي حياة آيفِن هُدِم كل شيء، ومحيت كل فضائله الماضية بسبب رذيلة واحدة فقط.

مواضيع مشابهة