قَدِمت إلى القاهرة صغيرًا مع بداية المرحلة الجامعية، جئتها من قرية صغيرة فقيرة وأسرة متوسطة، محملًا بأحلام أوسع من «هناك». كنت أظن أن القاهرة المدينة الكبيرة الجميلة الملأى بالفن والإبداع والثقافة ستسع أحلامي. طحنتني القاهرة، كانت أكبر مما توقع شخص ضئيل مثلي، وقاسية بما يكفي على قروي ساذج لم يخبر الحياة إلا من خلال الترع والمصارف والغيطان والسدود، والطرق الترابية الموحلة من ليالي الشتاء المتخمة بالأمطار، وحكايات الأجداد الدافئة.
دخلتُ إلى عالم السياسة والعمل العام، رأيت عالمًا أوسع وأناسًا من طبقات مختلفة ذوي توجهات متباينة. أدركت موقعي الطبقي، أصبحت أكثر وعيًا بذاتي وأكثر بعدًا عنها في آن واحد، شعرت بما يمكن أن نطلق عليه «الاغتراب»، فلا أرى أنني أنتمي إلى «هنا» أو إلى «هناك». ناقمًا صرت على وضعي الاجتماعي وترتيبي في السلم الطبقي، كرهت عائلتي، تمنيت لو وُلدت لأسرة مختلفة، ربما أغنى أو أكثر تعلمًا وثقافة، أو حتى ربما ذات تاريخ نضالي كبير، أسرة برجوازية كتلك التي لرفاق النضال.
هذه كانت رحلتي مع ذاتي، أسئلتي الوجودية التي داعبت عقلي، من أكون؟ لماذا ولدت «هناك»؟ أين يجب أن أكون؟
طريقي للبحث عن نفسي كان يزداد صعوبة كلما صار وعيي أكثر حدة. رحلة طويلة بدأت من الحنق والكره وانتهت إلى التصالح بشكل غير كامل أو نهائي، تصالح مع الذات والعائلة، أصبحت المشاعر أقل حدة وصرت أكثر تفهمًا.
ما ساعدني في الوصول أنني أدركت في منتصف الرحلة أن الأمر أكبر مني ومن أبي وأمي وعائلتي، ليس العيب فينا، وإنما في شيء أكبر، عالم قائم على التراتبية الطبقية، طبقات أعلى وأخرى أدنى، أغنياء وفقراء، مستغِلون ومستغَلون، «هنا» و«هناك». إذًا، «العيب في السيستم يا بهايم»، كما قال «برايز» أحد شخصيات «فيلم ثقافي»، وليس في شيء آخر.
من هنا جاء اهتمامي بفيلم محمد رشاد التسجيلي «النسور الصغيرة»، فقد ظننت أن فيلم رشاد هو رحلته الشبيهة برحلتي للتصالح مع نفسه، رحلة خلاص ذاتية يخوضها من أجل أن يجيب أسئلته/أسئلتنا المؤرقة، رحلة الرضا عن الذات أو حتى استمرار الحنق عليها، إلا أنها في النهاية رحلة ذاتية تصاعدية تصل إلى شيء ما.
إلا أن ذلك لم يكن الفيلم الذي توقعت، فهو في الواقع فيلمان منفصلان، رحلة رشاد تلك مع والده ومع نفسه من ناحية، وفيلم آخر عن جيل السبعينيات وأبنائهم (النسور الصغيرة) من ناحية أخرى. ضاعت فكرة رشاد النابهة نتيجة معالجة لم تستطع أن تولِّف طبقات الفيلم المتعددة بشكل متناسق وسلس ومتصاعد دراميًّا، فأنت إن شاهدت الفيلم لن تستطيع أن تصل إلى مغزاه، فحواه، ماذا يريد أن يقول صانعه.
لا أستطيع أن أفصل بين الفيلم والسياق السياسي والاجتماعي في مصر الآن. وهنا سأناقش هذه النقطة من خلال محورين رئيسيين: الأول أنه (أقصد الفيلم) يأتي في سياق سياسي يبحث فيه الجميع عن قائد/مخلِّص/رمز/منقذ ينتشلنا من القاع الذي هوينا إليه. كان المقابل الدرامي لهذه الحالة في الفيلم هو «البحث عن أب»، محاولة التصالح معه بعد عذابات الحنق والكره والإنكار والتملص. هذا الأب ذكر، رجل، لا يصح أن يكون سيدة.
ليس لدى رشاد صراع مع والدته، لا نلحظ أي حنق تجاهها في ذكرياته عنها التي أتت في حواراته مع والده، وإنما ترتسم لها صورة مثالية مُصانة بعيدًا عن كل هذا الصراع، صورة تخبرنا كثيرًا عن وضع المرأة في العقل الجمعي قبل عقل رشاد ذاته. من نريد أن نتصالح معه، من نريد أن نخلقه من جديد هو الأب/الرمز الذكر المسيطر، محرك الأحداث ومحور الصراع.
انعكس هذا أيضًا على الجانب الآخر، المقابل الدرامي لوالد رشاد، الأب المثالي الذي كان يتمناه، وهو هنا جيل السبعينيات، المهندس سعيد أبو طالب والأستاذ محمود مرتضى، هو الآخر جيل الذكور (وفقًا للفيلم بالطبع)، حضور النساء فيه باهت، حضور في ذكريات الرجال فقط لا أكثر، حتى أن المشهد الذي ظهرت فيه الدكتورة منى مينا كانت في الخلفية تبحث عن هاتفها المحمول.
إعادة إحياء الأب أو التصالح معه عند رشاد استلزم بالضرورة حتى يكتمل أن يقابله قتل الآباء الآخرين. موت المقابل المقارن معنويًّا كان ضروريًّا لتتم العملية، الموت في مقابل الحياة، أو «لا بد ما يموت شيء عشان يحيا شيء»، كما قال صلاح جاهين في إحدى رباعياته.
بسام مرتضى نفذ المهمة. في أحد المونولوجات يتحول إلى راوٍ ثانٍ يلقي على المشاهدين جزءًا من نص كتبه في عام 2006، يقول فيه: «أنا ابنٌ لأب وأم من اليسار، وحاول غيرهما بعد ذلك أن يتبناني، وأن يرى نفسه ونضاله داخلي، فأنا ابن جيل السبعينيات من تربيت في أحضانه، وعلى قدمه، ومن أعطوني الهدايا، ومن علموني السياسية، لكني الآن أقف لأخلع عباءتي التي ظلت على كتفي، وأعتقد أنه حان الوقت لأتكلم، وأن يسمع الجميع».
يقطع بسام هنا مع والده وجيله السبعينياتي، يجافي تجربتهم، يقتل أباه معنويًّا. كان في هذا الموت حياة الأب على الجانب المقابل، اكتمال (بشكل أو بآخر) لرحلة الخلاص التي يقطعها رشاد.
قد يهمك أيضًا: دراما التصالح والاشتباك والهروب من أبي
رؤية رشاد كانت برجوازية صارخة، فهو لم يوجه قَطّ سهام نقده إلى النظام الذي هو أصل كل الشرور، بل إلى أبيه.
المحور الثاني ضِمن السياق السياسي أن هذا الفيلم صُنِعَ في لحظة هزيمة، من الواضح أن الفيلم أُنتج بعد 2013 خلال فترة حكم السيسي تحديدًا، لحظة هزيمة مروعة وثقيلة الوطء، انعكست هذه اللحظة على الفيلم بوضوح، إذ أنتجت رؤية عدمية لا معنى فيها لشيء، رؤية دونية للعمل السياسي والنضال، فلا فائدة مرتجاة منهما، ولا يجلبان سوى الهم والفقر وأوضاع أسوأ مما نحن فيه.
نجد المهندس سعيد أبو طالب نادمًا على جر زوج أخته، عبد الهادي شعلان، إلى سكة الشيوعية: «كان ماله هو والكلام ده؟ ما كنت أسيبه يعيش زي ما هو بعيد عن الكلام ده». ونجد محمود مرتضى نادمًا على أيامه التي أنفقها في العمل العام مقابل عدم الاهتمام بأسرته: «أنا مش إنسان، مِش كده؟»، يقول دامعًا، في الوقت الذي يحكي فيه ابن أخت أبو طالب عن اللحظات الأخيرة في حياة والده وهو يقول: «معلش يا بني، أنا ضيعتكوا».
لا يمكن أبدًا قراءة الفيلم إلا في سياق فهمنا للحظة الهزيمة التي نعيشها جميعًا، لحظة موت السياسة، وفقدان أي أمل في التغيير، والشعور الطاغي بالانسحاق أمام النظام.
نعود من جديد إلى رحلة رشاد للخلاص، رؤية رشاد كانت برجوازية صارخة، فهو لم يوجه قَطّ سهام نقده إلى النظام الذي هو أصل كل الشرور، بل وجهها إلى أبيه، ظل ناقمًا على أبيه حتى النهاية، فهو الأب الذي لا يعرف من الحياة سوى العمل والكد، أباه الذي «لا يذكر أغنية واحدة مفضلة لمحبوبته أم كلثوم»، والذي لم يشاهده ابنه ولو لمرة واحدة يستمع إليها.
لم يتفهم أن أباه قمع تفضيلاته ورغباته من أجلهم، من أجل العائلة، «في البيت التلفزيون مسيطر»، يقول الأب، الأب الذي رفض السفر إلى الخليج مفضلًا العمل في القطاع العام، ومنه إلى القطاع الخاص كي يبقى بجوار أبنائه حتى يكبروا أمام عينيه وفي حضنه.
لم يظهر والد رشاد خلال الفيلم كله سوى خلف «ترابيزة المكواة»، يعمل، رجل لا يعرف سوى العمل. ولم يطور رشاد فهمًا بأن النظام وحده من جعل أبيه على هذه الصورة، التي أظهرها ببراعة تحسب له.
الدراما سارت في خط مستقيم من أول الفيلم إلى آخره، لم نرَ تصاعدًا رغم توفر شروط هذا التصاعد.
يظل رشاد متمسكًا بتحميل والده المسؤولية حتى آخر مشاهد الفيلم، إذ يصطحبه إلى أحد المقاهي البرجوازية مذكرًا إياه بالمرة الوحيدة التي خرجا فيها معًا: «إنت عارف أنا جبتك هنا ليه؟ عشان المرة الوحيدة اللي خرجنا فيها كانت هنا، جينا أنا وإنت وعم شوقي، بس هُمّا لسبب ما مخلوناش نقعد». يتكلم رشاد موجهًا حديثه إلى أبيه الذي تظهر عليه علامات الخجل معلنًا نسيانه تلك الواقعة. يصر صانع العمل حتى النهاية على لوم والده، دون أن يفهم للحظة واحدة أن «العيب في السيستم»، وليس في عم رشاد.
خارجين من السينما كنا وقتما بادرتنا صديقة بسؤال عن عدم ضم صديق آخر إلى النسور الصغيرة، وهو ابن قيادي عمالي شيوعي من نفس الجيل تقريبًا، وكذا الوضع مع ابن الرفيق عبد الهادي شعلان الذي ظهر في أحد مشاهد الفيلم.
لم يفكر رشاد في مثل هذه الأسئلة، بالطبع ليس لنا أن نُملي على المخرج أسئلته، فهي تنبع منه ذاتيًّا، إلا أنها كاشفة عما فكر فيه، عن نظرته الضيقة للأمور. فجيل السبعينيات (هكذا بشكل مسطح) عنده هو النعيم المنشود في مقابل جحيم أسرته المعذب، لذا لم يقرأ تجربتهم بشكل نقدي، لم يحاول طرح أسئلة عن حدود التجربة، لم يحاول قراءتها ضمن سياقها السياسي والاجتماعي، لم يفكر في أنها كانت تجربة تخص شريحة محددة تتمثل في الطلاب البرجوازيين من هذا الجيل، وليس الجيل كله.
الدراما عند رشاد سارت في خط مستقيم من أول الفيلم إلى آخره، لم نرَ تصاعدًا فيها. ورغم توفر شروط هذا التصاعد، فإن المخرج أغفلها. كان من الممكن لـ«مونولج» بسام مرتضى المشار إليه آنفًا أن يكون نقطة تحول في الفيلم، إلا أن رشاد لم ينجح في استغلاله. كان يستطيع أن ينقلنا، ينقل الفيلم إلى مرحلة أخرى من الصراع بشكل مختلف، بين جيل السبعينيات وأبنائه.
معضلة رشاد الأساسية في تطوير دراما الفيلم أنه كان يمتلك أصواتًا معبرة، حَكْي مهم ومعبر، إلا أن الصورة خذلته في التعبير عن هذه الأصوات وتطوير فيلمه. رأينا بعد مونولوج بسام مشاهد دون مغزى لبسام مع والده، شاهدنا صورًا للمهندس سعيد أبو طالب يتمشى في ورشة أحد المصانع دون أن يؤدي أي عمل يذكر.
مقابلات الشخصيات هي الأخرى كانت نقطة ضعف، رأينا شخصيات تجلس أمام الكاميرا لتحكي. لم يُجرِ المخرج سوى مقابلة واحدة مع سلمى سعيد التي هي بطلة الفيلم، الكادر نفسه والجلسة نفسها، نسمع صوت رشاد في هذه المقابلة أكثر مما نسمع صوت سلمى، يحكي لها عن إعجابه بثقتها في نفسها وتردده في التقرب منها في السابق، بينما ترد هي بجمل قصيرة.
المقابلات بهذه الكيفية أكسبت «النسور الصغيرة» شكلًا تلفزيونيًّا صِرفًا. ألم يكن ممكنًا أن نرى سلمى تمارس نشاطًا ما، أو نرى بسام يعمل على أحد أفلامه، أو حتى يمارس نشاطًا شخصيًّا آخر غير الجلوس أمام الكاميرا والحديث؟