«طنِّش بلاش طَرشة، وصدّر الطرشة
مهي دنيا قَرَشانة، لِمَلْحِتك قارشة
الدنيا طايحة بي، أنا وإنتو يا صحابي
ولفين دي رايحة بي؟ المُلعَب الطايشة»
هكذا يغني الكفيف «عيد» (حسن حسني)، وقد اجتمع حوله أهل الحارة والثلاثي «أحمد» (فاروق الفيشاوي) و«عباس» (نجاح الموجي) و«سيد» (أشرف عبد الباقي)، في محاولة لتسجيل شريط تجريبي «ديمو» لتحقيق حلم الشيخ عيد من الشهرة.
يهم عيد بالغناء ويصحبه الثلاثي في العزف على مختلف أنواع الطبول التي اعتادوا أن يُحيُوا بها حفلات الزفاف، وتنهض الجميلة «سعاد» (بثينة رشوان) بعد أن وجدت الفرصة قد سنحت لإبهار أحمد، وشعرت بحاجة، غريزية على الأرجح، إلى الرقص، فيزداد الجمع «انبساطًا».
هكذا يصور المخرج المصري رضوان الكاشف العالم السُّفلي بعد يوم طويل من العمل أو الكسل، وقد ثبت كاميراته أعلى الغرفة لتصوير هذا الطاقم من المهمشين وأصحاب اليومية وهم يحظون بقدر ضئيل من الحرية. لا يلبث أن ينتهي عيد من الغناء حتى يتآمر الكون مع مصلحة الكهرباء، ويردهم جميعًا أكفاء.
ليه يا بنفسج: واقعية سحرية مصرية
يفتقد فيلم «ليه يا بنفسج» حبكة واضحة، أو ربما يفتقد حبكة واحدة، فرغم أن الجميع يتشارك المهزلة، نجد كل واحد منهم يتمسك بأهداف مختلفة.
لطالما ارتبط رضوان الكاشف بالواقعية السحرية في كتابات كثير من النقاد والسينمائيين. وبالرغم من نتاجه السينمائي الضئيل الذي لا يتعدى ثلاثة أفلام (ربما لدوافع لوجستية، أو الكسل، أو الإحباط)، استطاع أن يخلق عالمه الخاص بين كبار الفنانين.
فيلمه «ليه يا بنفسج» هو أول أعماله السينمائية، وهو بالتأكيد الأقرب إلى قلبي. تدور أحداثه حول الثلاثي المذكور، ويصعب في الحقيقة تحديد بطل بعينه للأحداث. قد يكون ذلك لتقارب أحجام الأدوار، لكن على الأرجح لأنهم جميعًا يتشاركون نفس المهزلة. من السهل التنبؤ بمصائرهم كأوباش يقطنون حارة وسط الآلاف من أشباهها، إلا أن جميعهم بالتأكيد «ينتظر الفرصة». تشاركهم المهزلة أيضًا مجموعة من الشخصيات الجانبية، مثل الشيخ الكفيف عيد، وصاحب عربة «الكارو» مسعود، والجميلة سعاد.
الحبكة؟ يفتقد الفيلم حبكة واضحة، أو ربما يفتقد حبكة واحدة، فرغم أن الجميع يتشارك المهزلة، نجد كل واحد منهم يتمسك بأهداف مختلفة. ينتظر أحمد أخاه الذي هرب من الحارة بمساعدة أعماله غير المشروعة (التي مكّنته من أن يصاحب علية القوم)، على أمل أن يساعده هو الآخر على النجاة، بينما عباس تبدو عليه القناعة بمكانته كسِكِّير بين العقلاء. وربالرغم من تعلق سيد بسعاد، تقع الفتاة في غرام أحمد.
يَحيَى الشيخ عيد على أمل تحقيق حلمه كمطرب مشهور، ويزور قبر العندليب من آنٍ إلى الآخر لينعاه ويتبرك بحضرته. أما صاحب «الكارو» مسعود فهو من ناحية يأمل أن لا يُزَج به مرة أخرى إلى السجن، ومن ناحية أخرى لديه أمل أكبر: أن يتفادى صغيره مصير إخوته رحمة الله عليهم.
رضوان الكاشف: إحباط المهمشين
توجه الكاشف بالعناية للطبقة الكادحة من المجتمع بكثير من الإحباط، فوجدت نفسي أتساءل إذا كانت مكانته من قلبي مدينة لذلك الإحباط.
الجو العام؟ الإحباط، لكنه ليس ذلك الإحباط الذي يدفعك إلى البكاء، بل الذي يتطلب منك الضحك.
لا يقتصر ذلك الإحباط على انقطاع الكهرباء، بل يتباهى في أسمَى صوره في مصائر هذه الشخصيات، سواء في إطار أحداث الفيلم أو في مصائر أشباههم من الملايين في بقعتنا من العالم. فمن المؤكد أن هذه الأُخُوّة التي تربط الثلاثي ستتهالك أمام ضغوط الحياة، وسيصبح من السهل الإيقاع بينهم رغم «كود» الأُخُوّة الذي يبدو للوهلة الأولى كالصلب. وبالتأكيد لن ينجح الشيخ عيد في تسجيل شريطه التجريبي، كما حدث بالفعل.
نحن أيضًا كمشاهدين نوقن تمام اليقين أن ابن مسعود سيلقى حتفه. نحن فقط في انتظار أن يُرينا الكاشف ذلك. ليس من الصعب تصور اعتراف سيد لسعاد بحبه لها، وليس صعبًا تصور إحباطه وغضبه عندما يكتشف الحقيقة. ربما لم يكن من المفترض أن يحظوا بأحلام من البداية، لكنهم في الحقيقة ليست لديهم هذه الرفاهية.
الكاشف اختار أن يتوجه بالعناية إلى الطبقة الكادحة من المجتمع كعديد من زملائه المخرجين، لكنه أيضًا اختار أن يتوجه بذلك مع كثير من الإحباط. أجد نفسي أتساءل بعد انتهائي من مشاهدة الفيلم إذا كانت مكانته من قلبي مدينة لذلك الإحباط الذي هو شغوف في تصويره.
هل الإحباط في بقعتنا هذه المليئة بالأوبئة المجتمعية يُعَد فضيلة في حد ذاته؟
لطالما مدح النقاد رضوان الكاشف وغيره من المخرجين الذين أصروا على تمكين الإحباط من صورهم، لكني أتساءل إذا كان هذا الإحباط هو في الواقع واجب على صانع الفيلم أو «الفنان» في العموم، حتى يعتلي مكانةً حَسنةً بين الفنانين، وحتى يلقى الاحترام من جمهوره.
فرقة الأصحاب
ستظل الفاجعة الأكبر في الفيلم هي تفكك الثلاثي، وانحدار كلٍّ منهم إلى أدنى البقاع ظُلمة.
لكن ما سر رابطة الأُخُوّة تلك، التي لا تقتصر على الثلاثي فقط، بل نجدها في اتجاهات كل شخصيات الفيلم؟ هل فقدان المال يجعلنا أكثر اهتمامًا بمعايير أخلاقية قد لا نتمسك بها في ظروف أخرى، أو ربما ظروف «أفضل»؟ هل معايير الصداقة تلك، التي كثيرًا ما نعتبرها مبتذَلة، هي مجرد لجوء من الأخ إلى أخيه عندما يفقد السبيل (أو بالأحرى السُّطلة، التي طالما تمثلت في الثراء أو المكانة الاجتماعية) لتحقيق ما يتمناه دون الحاجة إلى غيره؟ رابطة الصداقة بين الثلاثي بالتأكيد ليست مشهدًا جديدًا في السينما المصرية، لكنها الأولَى بالتحري.
هل اهتمامنا بعلاقاتنا الإنسانية ومفاهيمنا عن الأُخُوّة والصداقة يتطلب منا أن نفقد ما يُحصِّننا عن اختبارها، سواءً المال أو السلطة؟
ليس هذا بالضرورة مدحًا أو ذمًّا في أخلاق العالم السُّفلي، وهو بالتأكيد ليس ادعاءً مني أن الثراء أو السلطة يرتبطان بشكل مباشر بانحدار الأخلاق، لكنه تساؤل إنساني بحت عن هذا النمط الذي، على قدر استخفافنا به، نجده ملاذًا لنا عند الحاجة.
ليه يا بنفسج؟ تتحقق النبوءة وينحدر الثلاثي، كلٌّ منهم على حدة، إلى بؤرته المظلمة، ويضطرون إلى مواجه أنفسم قبل أن يتمكنوا من الاعتذار. تهرب سعاد بعدما أفنت ما تملكه من صبر. وبينما يختار رضوان الكاشف أن يعيد لَمّ شمل الثلاثي، لا يخبرنا ما حل بسعاد، ربما فقط كي يقتلني الفضول.