تحمل التجارب الإبداعية الأولى عادة الكثير من سمات أصحابها وأدواتهم، التي غالبًا ما تكون أساس نضج المشروع بعد ذلك، وامتداده في اتجاهات شتى، أو حتى ارتداده ونكوصه عن مواصلة المشوار. لهذا أجدني متحفزًا لكل كتاب أول وأنا أتلمس تلك السمات الأعلى صوتًا. هذا ما حدث معي وأنا أقرأ رواية «في بيوت الآخرين» للكويتية ريم الهاجري، الصادرة عن دار «نوفا بلس» في نحو 160 صفحة.
السمة التي استوقفتني على الفور كانت تلك القدرة على اللعب بالكلمات وتحميلها مساحة للتحليق والتأويل، ابتداء من العنوان «في بيوت الآخرين»، رغم أن كل الحكايات تدور في بيت بطلة الحكاية، لكن انكفاءها النفسي وتغوُّل الجميع في حياتها يجعل الأمر يبدو وكأنها في غير مكانها، بل هي بكل كيانها في مكان يخص غيرها. لهذا ترِد جملة متأخرة تكشف أكثر عن هذا المنحى: «إنه لمن المؤسف حقًا أن يمتلك الإنسان بيتًا، ثم لا يكون هذا البيت دار سكينة».
خفة الأدوات وسمات في لعبة «الغميضة»
تستهل الهاجري روايتها بفصل تمهيدي يحكي قصة اختباء الطفلة «غزوة»، بينما كانت تلعب «الغميضة» رفقة أقاربها، لكنها وعلى خلاف قانون اللعبة، تختبئ أكثر من اللازم. اختبأت حتى انقلبت اللعبة إلى حالة رعب، والكل يبحث عن الطفلة راجيًا ألا يكون سوءًا قد أصابها.
وحين تخرج من مخبأها تجد الظلام قد حل والنسوة يُحطن بأمها الساهمة في ذعر، والتي رغم ذلك سيكون بمقدورها مباغتة طفلتها بصفعة ستكون مفتتحًا للعلاقة الملتبسة بينهما. لم تكن الغميضة إذًا سوى الطريقة التي ستواجه بها البطلة خصومها بعد ذلك: «أختبئ من الخوف والسأم.. وأمي التي تقرر في حياتي أكثر مما أفعل أنا».
تبدو حكايات البيوت التي توردها ريم مألوفة بعض الشيء، غير أن المختلف هنا قدرتها على صبغها بذاتية ما.
تتمثل السمة الثالثة في السخرية الناعمة لكن اللاذعة في الآن نفسه والمبنية على المفارقة، فالساردة عين على حياتها من الخارج، تنقل ما يجري قبل أن ترتد تتأمله من الداخل، وتلتقط كيف تبدو الأمور متناقضة وباعثة على التبسم بمرارة. وهي إذ تفعل ذلك تفيض بالفهم لنفسها قبل الآخرين، وإن بدا ذلك متأخرًا على الدوام: «كل ما أردتُ قوله لم يصل جيدًا.. لقد تجاوز مقصده وجلس في مكان ليس له.. أنا لم أقف يومًا على أرض وسط. كنت أتخبط دائمًا ما بين الحدود العليا للأشياء. حد الغضب أو حد اللامبالاة، حد الحب أو حد الكراهية».
سيلحظ القارئ كيف أنه قد تبدو حكايات البيوت التي توردها ريم مألوفة بعض الشيء، غير أن المختلف هنا قدرتها على صبغها بذاتية ما، بحيث تحمل شيئًا من فرادة تعيدها طازجة، وهذه سمة أخرى لهذا الكتاب الأول.
وثمة سمة تفصح عن نفسها مبكرًا، وهي تلك اللغة المقتصدة الملائمة لمواضعها، والمتحكمة في الإيقاع في الآن نفسه، خاصة حين تمر الدارجة بخفة فتمنح الموقف أثاثه الكامل، أو حين ترد العبارات المتأملة البليغة من قبيل: «صباح ما ينهض في القلب قبل أن ينهض الإنسان من فراشه».
هذه السمات تجعل من كتاب ريم الهاجري الثاني عملًا منتظرًا، لأرى كيف ستشتغل على أدواتها وتضيف إليها، بعد أن تكون التجربة قد تقدمت خطوة إلى الأمام وتجاوزت الطبيعة الخاصة للكتاب الأول، سواء في ما يخص الكاتب نفسه أو طريقة التلقي لدى القراء عادة.