هل سمعت النكتة التي تقول بأن شخصًا ما فتح التلفزيون على قناة الكويت، ففوجئت المذيعة وعدلت مكياجها؟ يتلقى تلفزيون الكويت الرسمي الكثير من هذا النوع من السخرية، مفادها أن أحدًا لا يشاهده الآن.
يدور عالميًا نقاش حول موت التلفزيون بعد وجود الإنترنت ومنصاته الإعلامية، لكن في الكويت يموت التلفزيون ليس لضعف المشاهدة فقط، بل لأسباب أخرى.
«يطلبون منا القطع من النسخ الأصلية، هذا محزن جدًا، وأحاول بقدر الإمكان ألا أفعل ذلك»، هذا ما قاله الموظف في وزارة الإعلام «عبد الله» (اسم مستعار) لـ«منشور» حول التعليمات التي يتلقاها من رؤسائه، في ما بات يُعرف في تلفزيون الكويت بسياسات الرقابة الجديدة.
تقتضي تلك السياسة قطع كل المشاهد المرفوضة رقابيًا لمبررات القيم المجتمعية، أو الدين، أو الصالح العام، من المواد الأرشيفية في تلفزيون الكويت، الأمر الذي تسبب في منع عرض كثير من الأعمال التلفزيونية والمسرحية الكويتية الخالدة على التلفزيون الرسمي، أو في أفضل الأحوال تعرضها لسكين الرقابة الجزار، الذي يتعدى في أحيان كثيرة على النسخ الأصلية، ما يعني حذف هذه المشاهد من الذاكرة والأرشيف إلى الأبد.
بينما ينشغل الرأي العام بما تفعله الرقابة على الكتب في الوزارة، لا يعلم كثيرون ما يجري في الرقابة على التلفزيون وتعاملها مع الإرث الفني للكويت، الذي أسهم بشكل رئيسي في تشكيل الثقافة الكويتية والخليجية. باتت أعمال مثل «باي باي لندن» والجلسات الغنائية التراثية وغيرها ممنوعة من العرض على تلفزيون الكويت بسبب المفاهيم الرقابية الجديدة التي يدفع بها مسؤولي الوزارة.
ما أسباب تلك التعليمات؟ وكيف يُطمس التراث الكويتي والخليجي على يد وزارة الإعلام، التي كانت يومًا ما مصدر إشعاع ثقافي وفني أسهم في خروج هذه الأعمال؟
مشرحة في وزارة الإعلام
على مر تاريخه، قدم تلفزيون الكويت أعمالًا لا تزال خالدة في تاريخ الفن الخليجي، من مسلسلات واسكتشات غنائية وبرامج تعليمية وتوعوية وجلسات غنائية شعبية، وكان أرشيف إذاعة وتلفزيون الكويت المرجع الرئيسي والوحيد لتلك الأعمال المهمة، حتى هذا اليوم.
الممثلون الذين أدينوا بتهمة الخيانة خلال الاحتلال، صدرت قرارات باقتطاع مشاهدهم من الأعمال الكويتية.
«سالم»، أحد موظفي الرقابة في وزارة الإعلام الذي اختار اسمًا مستعارًا، يحكي لـ«منشور» كيف تُجتزأ الأعمال التي تظهر فيها الممثلات بأردية قصيرة أو دون أكمام، وهي جزء كبير جدًا من الأعمال المنتجة في السبعينيات، إذ كانت تلك هي الملابس الدارجة في الكويت في ذلك الوقت، وكذلك تُقتطع أجزاء من أهم الأعمال الفنية لوجود ممثل يشرب الخمر، حتى لو كان الدور يذم شاربي الخمور.
يذكر سالم أن تعليمات المنع شفهية وليست مكتوبة، وتلك مشكلة تؤدي إلى تغيير القرارات بحسب تغير المسؤول، فما كان مسموحًا به قبل بضع سنوات لم يعد كذلك لوجود مسؤول جديد في الوزارة. «لا تُمنع الأعمال بالاسم. باي باي لندن مثلًا ليست ممنوعة، لكن كل عمل فيه شرب للخمور يجب حذفه. وكون شرب الخمر محور المسرحية وموجود في معظم مشاهدها، فليس بالإمكان تقطيعها وعرضها، إذ لن يفهم المشاهد منها شيئًا، لذلك فهي بمثابة الممنوعة».
يمتد القطع إلى الأعمال التي يؤدي فيها الفنان الراحل عبد العزيز النمش دور امرأة، أي معظم أدواره، إذ تُقطع ملامساته وقبلاته مع غيره من الرجال باعتباره يؤدي دور امرأة. والمفارقة، بحسب سالم، أن مَشاهد النمش التي تحتوي على تلامس وقبلات مع ممثلات من النساء وهو في دور امرأة تُحذف أيضًا، باعتباره في الحقيقة رجلًا.
يشير موظف الرقابة إلى أن المفارقة ذاتها تواجه الأعمال الفنية التي تتناول العراق، فالشرخ الذي أحدثه الاحتلال في العلاقات الاجتماعية والفنية بين الكويتيين والعراقيين حدا بتلفزيون الكويت لمنع أي عمل عراقي، وكذلك أي عمل كويتي أو خليجي يظهر فيه فنانون عراقيون، وحتى كل المشاهد التي تأتي على ذكر العراق بشكل حسن، وهو ما استمر بعد عودة العلاقات الكويتية العراقية، مثل مشهد الغناء العراقي في «بساط الفقر»، وعودة حسينوه من البصرة في «درب الزلق».
بعد عودة العلاقات صارت الكويت تمنع الأعمال الفنية التي تلت التحرير، مثل «طاح مخروش» و«مخروش طاح بكروش»، التي تتناول العراق بشكل ساخر أو مهاجم، أي إنها تمنع المدح والقدح معًا، دون أي اعتبار للأهمية والظروف التاريخية التي صاحبت تلك الأعمال.
أما الممثلون الذين أدينوا بتهمة الخيانة خلال الاحتلال، مثل زينب الضاحي ومسافر عبد الكريم، فصدرت قرارات باقتطاع مشاهدهم من الأعمال الكويتية.
عانت وزارة الإعلام من فقدان جزء كبير من كنوزها التراثية والفنية خلال الاحتلال.
«ناصر»، أحد العاملين في وزارة الإعلام، يؤكد اضطرارهم لمنع أعمال مهمة مثل مسلسل «الغرباء» (الذي يحكي للمفارقة عن احتلال غرباء لمدينة ما وكيف قاومهم أهلها) لوجود زينب الضاحي فيه، وحتى لو لم يكن دورها يشير إلى أي شيء عراقي، مثلما في مسلسل «على الدنيا السلام» (محظوظة ومبروكة): «يُطلب منا اقتطاع مشاهدها منه، رغم أن هذا يُخل بالتأكيد بسياق العمل، وهو أمر غير منطقي بالنسبة لكثير من العاملين في التلفزيون، وبالتالي نضطر لعدم عرض العمل كليًا أفضل من الضحك على المشاهد».
الارتباك وعدم المنطقية يتسيدان المشهد في إدارة وزارة الإعلام وتلفزيون الكويت، إذ نجد أن الفنان العراقي صالح حمد، المعروف بـ«مبيريج» والمدان بتهمة الخيانة، لم تُمنع أعماله أو تُقطع مشاهد منها على عكس الباقين، دون سبب واضح.
تعاني وزارة الإعلام من فقدان جزء كبير من كنوزها التراثية والفنية خلال الاحتلال، ونجحت في استرجاع جزء منها عام 2009 بعد عودة العلاقات الكويتية العراقية إثر سقوط نظام صدام حسين، لكن بقي جزء آخر من الأرشيف لم يُسترجع بعد. يقول ناصر: «لم نستعيد الجزء الأهم، أعمال ذات قيمة كبيرة أنتجها تلفزيون الكويت ولا يملك منها نسخًا، وهذا بالإضافة إلى المنع يُسهم في تدمير تراث التلفزيون وفقدانه».
«تعاملوا وكأنكم في السعودية»
خلال السبعينيات، أنتج تلفزيون الكويت عديدًا من الجلسات الغنائية الشهيرة التي لا تُنسى، شارك فيها الرجال والنساء غناءً وتصفيقًا ورقصًا، منها جلسة يذكرها كثيرون للفنانة ليلى عبد العزيز، غنت فيها أغنيتها الشهيرة «الأسمرانية»، إلا إن ناصر يلفت انتباهنا إلى أن الجلسة لم تُعرض على تلفزيون الكويت منذ سنوات لأنها ممنوعة من العرض.
هذه عبارة يُقصد بها الأعمال الفنية التي تحتوي على مشاهد يراها مسؤول الرقابة ليست محافظة بالقدر الكافي، ولا تتناسب مع القيم الدينية للمجتمع بحسب وجهة نظره. ولعل عبارة «وكأنكم في السعودية» تبدو طريفة في الوقت الذي تحاول فيه المملكة التخلص من النزعة التشددية التي أثقلت كاهلها لسنوات طويلة، بينما تحاول وزارة الإعلام في الكويت التمسك بما تحاول السعودية التخلص منه، رغم أن التراث الكويتي أكثر انفتاحًا.
ماذا لو عرضت عليكم من جديد؟
يتحدث كثيرون عن انحدار الإنتاج التلفزيوني في الكويت، وتكرار الأعمال المتشابهة المبتذلة التي لم يعد لها متابعون سوى فئة معينة سبَّب لها هذا النوع انحدارًا في الذوق.
في ندوة نظمتها جمعية المحامين الكويتية حول الرقابة، روت الكاتبة هبة حمادة تجربتها مع الرقيب: «لم يعد الأمر عند لجنة الرقابة متعلقًا فقط بالذوق العام أو سقف الحريات، وإنما بإعادة صياغة صورة الشخص الكويتي في الإعلام حتى تُقدم بأفضل أشكاله (...) يطلب الرقيب ألا يحتوي النص التلفزيوني المقدم إليه على أي شخصية سلبية ولديها مشكلة تشوه صورة الكويتيين، إذًا لو قدمت أمهات الأعمال الكويتية لرقابة اليوم سترفض، خالتي قماشة لن يُعرض بسبب عدم السماح بتجسيد شخصية امرأة كويتية مسنة تضع الكاميرات لمراقبة أبنائها، كانت الدراما الخليجية كلها ستخسر لو كان نص خالتي قماشة الذي وصل إلى المغرب وتونس قد عُرض على هذه الرقابة، ولن يُعرض رقية وسبيكة لتعرضه لفئة البدو في الكويت، ولا حتى درب الزلق الذي يصور شخصًا يعمل في الغش التجاري. كل هذه الأعمال لم تكن لتعرض لو كانت قد قدمت لرقابتنا اليوم».
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تجد الكثير من الانتقادات للأعمال الفنية التي تُتهم بتشويه صورة الشعب الكويتي، لكن ما معيار التشويه؟ وهل يجب على الرقابة أن تستمع للآراء على مواقع التواصل أم تنظر إلى القيمة الفنية بصفتها شخص متخصص؟
يذكر لنا سالم، مصدرنا في وزارة الإعلام، أن المسؤول في قسم التلفزيون متابع جيد لوسائل التواصل، يهرع لمنع أي عمل يقرأ أن أحدًا انتقده أو طالب بمنعه: «يخاف من كل شيء يمكن أن يُذكر فيه اسم الوزارة والتلفزيون».
المعيار الواضح لدى الرقابة هو الخوف من أي جدل، ومن أي رد فعل وانتقاد من الشارع أو بعض التيارات، والذي بدوره سينعكس على المنصب السياسي للمسؤول، وهو ما يتضح في قول إحدى عضوات الرقابة على الكتب (التي لا تختلف في نهجها عن رقابة المرئي والمسموع) ردًا على كاتبة تتظلم من منع كتابها: «دوري أن أحمي وزيري». فاستقرار الوزير في منصبه أهم من القيم الفنية والحفاظ على التاريخ الثقافي للدولة.
لا تتحكم الرقابة في ما يُنتج الآن فقط، بل في ما أنتج سابقًا. لا تشكل الرقابة الوعي القادم فقط، بل تتلاعب بالذاكرة. ووسط الانفتاح الذي يجتاح المنطقة، هل تتراجع الرقابة عن نهجها وتوقف العبث بالإرث الثقافي للكويت والخليج؟