سسسسسسس طح، اقرأ عزيزي القارئ هذه الأحرف بصوتٍ عالٍ، حتمًا ستتذكر صوت الصفعة في الأفلام المصرية. هذا الصوت الذي يضحكني جدًا في مشهد محمود عبد العزيز في فيلم «البحر بيضحك ليه» وهو في طريقه للعمل، يدخل إلى عمله ويصفع جميع الممثلين في المشهد حتى من لا علاقة لهم بشيء، إلى أن يصل للمسؤول وتكون هنا الصفعة الكبرى دون أن يقول أي كلمة. كذلك ستتذكر أفلام عادل إمام ومشاهد «اللي يحب النبي يضرب».
كون الكوميديا في الأساس تحتوي على عنصر المبالغة، فمن المهم جدًا أن يضفَى الحس الفكاهي، وما يجعله مضحكًا هو أن يصدر الصوت بشكل مبالغ فيه.
الأفلام والأعمال التلفزيونية مجملًا تعتمد وبشكل كبير على فكرة المؤثرات الصوتية، كصوت خرير الماء، أو هزيم الرعد، أو هبوب الريح، وحتى حركات الممثلين وتفاعلهم مع بعض واصطدامهم بالأشياء والحوادث وغيرها، هي فعليًا عنصر مهم جدًا يضيف إلى هذه الأعمال واقعية أكثر في الإخراج.
أما العنصر الصوتي الآخر الذي تعتمد عليه الأفلام في التعبير وتعزيز الأفكار والأحاسيس فهو الموسيقى التصويرية، وهي موسيقى تُكتب خصيصًا للعمل التلفزيوني أو السينمائي أو المسرحي، بحيث تناسب هذا العمل بكل عناصره (ضع خطين تحت كل عناصره)، وتكون مرتبطة بحقبة زمنية محددة جدًا وليست مؤثرًا صوتيًا فحسب.
«الموسيقى موجودة وغير موجودة»
تاريخيًا، دخلت الموسيقى التصويرية مبكرًا مع صناعة الأفلام منذ بدايتها في فترة الأفلام الصامتة. فكانت البداية بأن عرض الفيلم يجاوره عازف بيانو يعزف أي موسيقى فقط لملء الفراغ. وبعد ذلك تطورت الحالة إلى أن عازف البيانو يرتجل الموسيقى لحظيًا، لكن بشكل مرتبط بالفيلم الذي يُعرض ويعبر عن حالة المشاهد.
في المشهد العاطفي الرومانسي أو الحزين تكون الموسيقى بطيئة، وغالبًا باستعمال السلالم الصغيرة التي تعكس المشاعر الرومانسية الداخلية، ومشاهد المطاردة بإيقاع سريع، وظهور الأشرار بتآلفات غير مريحة نوعًا ما، وظهور الأبطال بموسيقى ترفع الهمم، وغالبًا باستعمال السلالم الكبيرة.
وعلى الرغم من توسع الفرق الموسيقية والأوركسترا التي تسجل الأعمال والتأثير النفسي للموسيقى التصويرية، فإن هذه القواعد الأولية ما زالت هي الأسس التي تُستعمل في الأفلام إلى اليوم. هذه القواعد التي يحددها المؤلف الموسيقي الأمريكي آرون كوبلاند كالتالي:
- أن تخلق الموسيقى جوًا عامًا مقنعًا للمكان والزمان.
- أن تؤكد الانفعالات النفسية، والأفكار الداخلية الصامتة، والمخاطر القادمة أو المحيطة والتي لا تظهر على الشاشة.
- أن تخلق حالة استمرارية، فإذا كانت المشاهد مرتبطة بالمعنى تُستخدم موسيقى واحدة لمشاهد مختلفة بنفس المعنى لتحديد ذلك.
- أن تعطي إحساسًا بالنهاية، وغالبًا تستخدم في نهاية الفيلم أو نهاية حدث كبير فيه.
- أن تملأ الفراغ. ورغم أن هذه الحالة كغاية قد يُنظر إليها على أنها بسيطة، لكنها بالنسبة لكوبلاند هي الأصعب. ففي هذا النوع لا بد أن تكون الموسيقى موجودة وغير موجودة، أن يشعر بها المشاهد دون أن يعي أنه يسمعها، وهذا التوازن صعب جدًا في التأليف.
دفعة القاهرة: خارج القواعد، داخل الصندوق
إذا اتجهنا إلى الأعمال العالمية سنرى بوضوح أن هذه القواعد صارمة جدًا ولا يقبل أي مخرج الخروج عنها. منطقيًا، لو طرحنا سؤال: هل من الممكن أن يقبل أي مخرج محترف أن تكون الموسيقى التصويرية لا تعبر عن الزمان والمكان الصحيحين لفيلمه؟ حتمًا ستكون الإجابة «لا» كبيرة، وبشكل درامي أقولها مع تقسيمة كمنجة حزينة كالتي صدعوا رؤوسنا بها في المسلسلات الخليجية.
القواعد مهمة جدًا، وقد قُننت بشكل علمي بتخصصات مختلفة كعلم النفس والموسيقى والتاريخ والأنثروبولوجيا وغيرها، فإذا التزم بها المؤلف سيقدم عملًا موسيقيًا يناسب العمل المصور.
إذا اتجهنا للأعمال الخليجية والمسلسلات على وجه الخصوص وتابعناها من حيث الموسيقى التصويرية، سنرى شيئًا مختلفًا تمامًا. ولكي أكون موضوعيًا هنا سأضع أمثلة وأحللها وفق القواعد التي ذكرتها سلفًا.
اخترت مسلسلين خليجيين هما «دفعة القاهرة» و«سما عالية»، كونهما يشتركان في عناصر كثيرة كالمكان والحقبة الزمنية، وأيضًا الانفعالات النفسية والبعد الثقافي للشخصيات.
كمقدمة عزيزي القارئ، ولكي لا أضيف نوعًا من التشويق في الكتابة لأبين أنني كاتب جيد، رغم أن التشويق عنصر مهم وأنا أعتقد أنني كاتب جيد، سأختصر الحالة وأقول إن الوضع الموسيقي في المسلسلات الخليجية خلال 20 عاما مضت مأساوي إلى حد الضحك.
في مسلسل «دفعة القاهرة» للكاتبة هبة مشاري حمادة والمخرج علي العلي، تدور القصة حول طلبة كويتيين يسافرون إلى القاهرة في بعثة حكومية للدراسة الجامعية. إذًا هناك مكانان في الحكاية، الكويت ومصر، والزمن هو منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فهل حققت الموسيقى التصويرية العناصر التي تعزز أبعاد العمل؟ الإجابة بالنسبة إلي هي لا كبيرة، وبشكل درامي أيضًا أقولها مع تقسيمة كمنجة حزينة كالتي صدعوا رؤوسنا بها في هذه المسلسلات.
في تأليفه للموسيقى ابتعد الحلواني عن المقامات الشرقية التي كانت سائدة جدًا في تلك الحقبة، كالبيات والرست والهزام وغيرها.
المؤلف الموسيقي المصري مصطفى الحلواني لم يعطِ في رأيي أي اهتمام لعنصر المكان، فألف موسيقى لا علاقة لها بالكويت ولا تعكس أي ثقافة كويتية ولا حتى مصرية، ولم تحضر روح تلك الحقبة المليئة حقيقةً بالفنون الكويتية التراثية وعظمة الموسيقى المصرية حينها.
لم يهتم الحلواني بعنصر الزمن، بل استخدم آلة البيانو كآلة رئيسية في أغلب مقاطع العزف المنفرد، في زمن كان وجود البيانو في الموسيقى العربية شيئًا مستجدًا وخجولًا جدًا، بل أن أم كلثوم كانت ترفضه إلى الستينيات، حتى اقتنعت بدخوله في أغنية «أراك عصي الدمع».
في تأليفه للموسيقى ابتعد الحلواني عن المقامات الشرقية التي كانت سائدة جدًا في تلك الحقبة، كالبيات والرست والهزام وغيرها، وهي مقامات لا تُستخدم في الأيام الحالية لحالتها الطربية العالية لوجود نغمة «النصف بيمول» فيها، فكيف يعطي أي إيحاء تاريخي أو جغرافي إذا لم ينطلق من هذا ولا ذاك؟ لقد أفقد العمل أهم عنصر فيه وهو الموسيقى المناسبة له، والمصيبة الأكبر تتجلى حين أطرح السؤال الذي طرحته في البداية: كيف قبل المخرج علي العلي بهذا؟
سما عالية: الجمال الذي لا نحتاجه
كان مسلسل سما عالية للكاتب صالح النبهان والكاتبة شيخة العامر وإخراج محمد دحام الشمري، بالنسبة لي من حيث الموسيقى التصويرية حالة غريبة جدًا جعلتني احتار في ما أكتب. بحثت وحصلت على كل الموسيقى التي أُلفت للعمل، وقاربت 18 دقيقة متواصلة من تأليف إبراهيم شامل.
ويا عيني على كم الجمال والإبداع في الموسيقى، لا أبالغ إذا قلت إنها ثلث ساعة من الجمال المبهر، تأليف رائع استمتعت به بكل المقاييس يجعلني أقول إن المؤلف إبراهيم شامل عبقري جدًا.
لكن وبكل موضوعية أيضًا رغم كم الجمال فيها، لم تحقق أي عنصر من عناصر العمل، لا المكان ولا الزمان ولا البعد الثقافي، ولا شيء يمت بصلة للعمل. وهنا يحضرني ما قاله المؤلف الموسيقي جيمس هورنر في حديث لـTed Talk، وهو مؤلف موسيقى تصويرية لأفلام عديدة أشهرها وأهمها Braveheart وTitanic، إذ قال إن «هذا المجال لا يسعك فيه أن تطلق العنان لمخيلتك أبدًا، فأنت محكوم بعناصر كثير جدًا، فهو أقل نوع من الفنون يبدع فيه الفنان وفق مخيلته وإحساسه».
لكن يبدو لي أن المؤلف الرائع إبراهيم شامل حقيقةً لم يعطِ أي اهتمام للمحتوى، وأطلق العنان لخياله وإحساسه، فالمسألة أبدًا ليست مزاجية بل تحتكم لأسس كثيرة كما وضحنا. وحتى إن كان العمل جميلًا ورائعًا من كل النواحي الموسيقية، تبقى مسألة كونه مناسبًا أو غير مناسب هي الأهم والمعيار الرئيسي، فلن يكون مناسبًا إن لم يحقق العناصر الأساسية للعمل.
ما قد يصيبني بانسداد الشريان الأبهر هو معرفتي أن العمل سُجل بعزف أوركسترا براغ الفيلهارموني، وهو ما يجعلني أكثف اللوم على المخرج محمد دحّام الشمري، فعمل تاريخي تدور أحداثه في أواخر الأربعينيات، هويته كويتية مصرية، تسجله أوركسترا غربية كلاسيكية؟ وإن كانت الغاية إنتاج مسلسل قابل أن يُصدر للعالمية، يا سيدي العالمية ليست بالإقحام هكذا.
فلو أتى مؤلف غربي بثقافة غربية وله مؤلفات كلاسيكية عالمية، بل لو أتى موزارت بعظمته، سيترك قواعد موسيقاه الكلاسيكية لأنه سيعي جيدًا أنها غير مناسبة هنا، وسيدرس الحالة الكويتية والمصرية ويؤلف موسيقى تناسب العمل بقواعد وإحساس القصة بكل زواياها. العالمية ليست بالجلوس في مقابلات تلفزيونية وذكر أن عملنا بمستوى عالمي لأننا استخدمنا الكاميرات التي تستخدم في هوليوود. السؤال هو: ماذا فعلت بها؟ لقد سجلنا الموسيقى في أوركسترا براغ، فماذا ألفتم من موسيقى هنا؟
العالمية أن نقدم شيئًا يحقق مستوى العمق الفني الذي وصلوا إليه بإنتاجهم، فإن كانت بيدكم كل هذه الإمكانيات المادية لإنتاج الموسيقى، كان يمكن فعليًا أن يخرج لنا عمل موسيقي مناسب.
فكرة شراء تقسيمة كمان حزينة تصلح لكل مشاهد البكاء والخذلان والحب وسرقة الشركة ومنو ياينا هالحزة، لم تعد أمرًا يمر مرور الكرام.
في نقاش بيني وبين مصطفى الحلواني مؤلف موسيقى دفعة القاهرة على تويتر، رد علي بسؤال بعد انتقاد عابر جدًا كتبته حول موسيقاه في المسلسل، جعلني أفهم حجم الفجوة في حين قال: «تحبّها إزاي؟». كان سؤالًا صادمًا جدًا، وأول إجابة خطرت على عقلي، وكان من المفترض أن أقولها، كانت «بدون طماطم لو سمحت».
فكرة أن يعتقد أنني مزاجي لم أتقبل العمل وانتقدته عشوائيًا، وهو على علم بأني موسيقي، يبين أن هناك غيابًا معرفيًا كبيرًا في الأسس والقواعد البديهية، وليس فقط التفصيلية.
رسالة إلى الأعزاء المخرجين والمؤلفين الموسيقيين في المسلسلات الخليجية، لنجعل التأليف للموسيقى التصويرية وفق أطر العمل نفسه وعناصر القصة. ففكرة شراء تقسيمة كمان حزينة تصلح لكل مشاهد البكاء والخذلان والحب وسرقة الشركة ومنو ياينا هالحزة، لم تعد أمرًا يمر مرور الكرام.
لنحترم إيماننا بالموسيقى كحالة وجدانية راقية وليست حالة لتعبئة الفراغات، لنحترم المشاهد ونؤكد أن الموسيقى التصويرية ليست مجرد مؤثر صوتي، أو بتعبير آخر: «الموسيقى التصويرية ليست كصوت صفعات محمود عبد العزيز وهو ذاهب إلى العمل».