مع استمرار وزارة الإعلام الكويتية في تضييق الخناق على الأعمال الأدبية والفكرية في السنوات الماضية، مُنع عدد كبير من أهم الإنتاجات العالمية، وطال ذلك حتى كلاسيكيات القرون الماضية، مثل روايات دوستويفسكي وفيكتور هوغو وماركيز.
ما لم ينجُ منه عمالقة الأدب لم ينجُ منه الأدباء الشباب في الكويت، إذ منعت الوزارة روايات عديدة منها «طعم الذئب» لعبد الله البصيص، و«لا تقصص رؤياك» لعبد الوهاب الحمادي، و«فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي.
تعددت الأسباب المعلنة من الوزارة حول منع كل رواية وكتاب، إلا أن رواية السنعوسي، التي تناولت فكرة خيالية حول حرب أهلية تحدث في كويت المستقبل بين الشيعة والسنة، حصلت على اهتمام أكبر حين قرر الكاتب تحريك دعوى قضائية ضد وزير الإعلام ووكيل وزارة الاعلام بصفتيهما، فوكَّل المحاميين فهد البسام وبسام العسعوسي في رفع دعوى قضائية عام 2017، كان فحواها إلغاء القرار الإداري المفضي إلى منع الرواية من التداول في السوق الكويتية.
على هذا، أصدرت محكمة أول درجة حكمًا يمكن وصفه بالتاريخي، وأيدته محكمة الاستئناف الإدارية في جلستها في 22 إبريل 2019، قضت فيه بإلغاء القرار وفسح العمل وجواز تداوله.
ورغم هذه الخطوة المتقدمة للقضاء الكويتي، فإن الحكم شابه بعض الإشكاليات التي سنتناولها بشيء من التفصيل.
إعادة الاعتبار للدستور
يتفق جميع شُرّاح القانون الدستوري في الكويت، على اختلاف أيديولوجياتهم المعرفية، على أن الدستور قد أقر جملة من الحقوق التي تمثل حالة تقدمية في ما يتصل بحرية التعبير، إلا أنه ونتيجة لعوامل عدة كان أبرزها الانقلاب الأول على الدستور عام 1976 والثاني عام 1986، وكذلك الصعود الطاغي للجماعات المناهضة لحرية التعبير (إسلاميين وسلطويين)، حدثت انتكاسة لحرية التعبير والإبداع في الكويت، وبالضرورة طال ذلك الأعمال الأدبية.
أعاد الحكم الاعتبار للمادة 36 من الدستور الكويتي، التي نصت على أن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة.
لكن مع صدور الحكم، يمكننا أن نعتبر أن المحكمة أعادت الاعتبار لجملة من الاتجاهات المعتبرة لصيانة حرية التعبير والإبداع في الكويت، وتمثَّل ذلك في ذهابها إلى تأكيد أن القضاء هو المرجعية في تحديد ماهية الإساءة في ما تذهب إليه ما أسمته «الآراء القاسية»، وفي ذلك ترسيخ لمبدأ اللجوء إلى القضاء حماية من الجهات الإدارية.
كذلك، أعاد الحكم الاعتبار للمادة 36 من الدستور الكويتي، التي نصت على أن «... لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة»، وهذا ما ترسخ أولًا بتأكيدها حرية الرأي ومناقشته حتى وإن كان هذا الرأي مخالفًا لجمهور الفقهاء، وثانيًا برفضها تقييد حرية الرأي بتشريعات تمثل أغلالًا على ممارستها، أو بفرض جزاءات تهدف إلى قمعها.
من المستجدات التي أفضى إليها الحكم إقراره بـ«فنية العمل الروائي»، مما ترتب عليه عدم جواز مناقشة الرواية إلا من خلال المنظور الفني، وأيضًا ترتب عليه عدم مؤاخذة الكاتب عما ذكره من أقوال على لسان شخوص الرواية، والتي رأت فيها جهة الإدارة (وزارة الإعلام) أقوالًا تنال من ثوابت الدين. بل العكس، فقد رأت المحكمة في ما ورد أنه بيان لواقع ترسخ خطأً لدى قلة رسخت في أذهانهم هذه المغالطات.
وفي ذات السياق، أقرت المحكمة قبول العبارات الصادرة عن بعض شخصيات الرواية (الأطفال) والتي كانت ذات طابع شكلي/استفساري، خصوصًا أنها صدرت عن طفل صغير قيد التكوين والتشكيل النفسي، حين سأل والدته: «يمه الله شيعي ولا سني؟».
أما ما يتصل بالعبارات التي احتوت على بعض الشتائم والسباب بين الطائفتين المتقاتلتين، فقد استكملت المحكمة ما رسخته آنفًا بأن وضعتها ضمن السياق الفني للعمل، ورأت أنها لم ترد في نصرة فريق دون آخر، بل كان مؤداها التنفير منها ونبذها، وأكدت عدم جواز اجتزائها من سياقها العام، ووجوب ربطها بسلفها وخلفها حتى لا تتفكك وتتقطع أوصال الفكرة التي أرادها المؤلف.
إشكاليات الحكم
تكمن الاشكالية الأولى في أن الحكم، رغم أنه يمثل سابقة في انتصاره للأدب والفنون، قد شابه الغموض أحيانًا والاستغراب أحيانًا أخرى.
على سبيل المثال، اتخذت المحكمة موقفًا سلبيًا ضمنيًا من الكوميديا، وأوردت في حكمها أنه «… فطالما التزم [الكاتب] العبارة الملائمة والألفاظ المناسبة ولم يلجأ إلى أسلوب التهكم والسخرية، أو يستعمل عبارات توحي لقارئه بمدلول يختلف أو غير ملائم، أو أقسى من القدر المحدود الذي يقتضيه عرض الواقعة أو التعليق عليها».
اعتبرت المحكمة أن لا عصمة على الآراء والأفكار سوى ما أفرزه المجتمع من «تقاليد وثوابت»، كون «الحريات التي كفلها الدستور ليست مطلقة».
من المسلمات في عالم الفنون أن السخرية /الكوميديا مجال رئيسي في التعاطي مع الواقع، وفي جانب منها هي ملزَمة أحيانًا بتقديم مبالغات في تشريحها للأحداث والشخصيات، فكيف لعمل خالد كمسرحية «الزعيم» لعادل إمام أن يحصد ما حصده لولا السخرية والتهكم من أحوال الزعماء والرؤساء؟ وكيف سيكون مصير «إسكتشات» الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف لولا المبالغات؟ لذلك نرى أن المحكمة جانبها الصواب بجعلها القضاء هو المرجعية في مدى ملائمة العبارات للصالح العام.
أما الإشكالية الثانية فقد وردت في معرض دفاع المحكمة عن حرية التعبير، إلا إنها أردفت هذا الدفاع بقولها إنه لا عصمة على الآراء والأفكار سوى ما أفرزه المجتمع من «تقاليد وثوابت»، كون «الحريات التي كفلها الدستور ليست مطلقة». وكذلك ما قضت به المحكمة بجواز تجاوز حرية التعبير للحد المألوف، طالما كان هذا التجاوز لا ينال من ثوابت الأمة وعقيدتها.
يبدو لنا في هذا السياق أن المحكمة تفترض وجود ثوابت متفق عليها وراسخة لدى أطياف المجتمع ومكوناته كلها، من الطوائف والفرق التي تشملها، وكذلك التيارات الفكرية والسياسية، وهو ما يجافي الواقع ويخالفه، فالمتمعن في أحوال هؤلاء يجد اختلافًا يصل إلى حد التصادم.
على سبيل المثال، ما هو مسلَّم به من تنافر في الثوابت المتصلة بالعقيدة بين الطائفتين السنية والشيعية، تجعل كل منها نقيضة للآخر وفي أحيان لاغية وجوده (ولو كان هذا الإلغاء معنويًا)، ابتداءً بقضية الخلافة وانتهاءً بتسبيل اليدين أو تكتيفها خلال الصلاة.
لا يقف الخلاف هنا وحسب، بل ينسحب كذلك على المذاهب داخل تلك الطوائف. فخلاف الأشاعرة/السلفية في قضايا تمثل جوهر العقيدة (مثل مسألة التجسيم وتأويل القرآن) يعيد الاعتبار للسؤال القديم المتجدد: هل هناك ثوابت فعلًا يمكن الاتكاء عليها بجعلها فيصلًا في أمور تخضع لمتغيرات دائمة؟
وينسحب الأمر كذلك على القيم المجتمعية، فالمتابع للصراع المتجدد دائمًا حول قضايا الحريات الشخصية (مثل التعليم المشترك واللباس المحتشم وقانون التشبه بالجنس الآخر وتنظيم الحفلات الغنائية، إلخ) بين المدنيين وخصومهم الإسلاميين سيرى السؤال مُلحًا، وقد يكون مدخلًا لدراسات أكاديمية جدية في علم اجتماع القانون، لنحت مفاهيم وتصورات جديدة حول عبارات مثل «القيم المجتمعية» و«الثوابت المجتمعية».
تشاؤم العقل و واقع التشاؤم
يحكي المفكر الراحل سلامة كيلة أن الفيلسوف الإيطالي غرامشي عُرف، إلى جانب تنظيراته حول «المثقف العضوي»، بفكرة تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، التي تعني أن تحليل الواقع علميًا يفضي إلى التشاؤم، لكن لا بد من أن نحافظ على تفاؤل الإرادة، أي الإرادة في التغيير.
لكن الواقع البيروقراطي وبنيته يدفعك إلى التسليم بالتشاؤم والإيمان به، فصدور مثل هذا الحكم الذي وصفناه بالتاريخي قد لا ينعكس بالضرورة على أداء إدارة الرقابة في وزارة الإعلام بإعادة تقييم الأسس التي على أساسها تُفسح وتُمنع الكتب والأعمال الفنية، فطبيعة هذه الأعمال تخضع بالدرجة الأولى لمزاجية الرقيب، وهذه المزاجية تنطلق من عدم قدرته على مقاومة الضغوط السياسية والاجتماعية التي تصيبه جراء فسح الكتب.
ولا يمكن إغفال العامل المادي، أي المميزات المالية التي يحظى بها أعضاء لجنة الرقابة إزاء المجازر السنوية التي يرتكبونها بحق الكتب والكُتاب، فجزء لا يستهان به من هؤلاء الأعضاء من خارج رحم وزارة الإعلام (بحسب إجابة غير منشورة لوزير الاعلام بالوكالة آنذاك على سؤال النائبة صفاء الهاشم، بتاريخ 27 مارس 2017) وبعضهم تُبين سيرته الذاتية (الواردة في نص الاجابة) أن طائفته فقط كانت شفيعة له لتوكيله بهذه الاعمال، ولا يحظى تاريخه بأي تفاعل مع الشأن الثقافي، لا سلبًا ولا إيجابًا.
ربما يكون المخرج الوحيد الذي قد نرى من خلاله بصيص الأمل المفقود هو تقديم تشريع جديد يلغي دور وزارة الإعلام في الرقابة على الكتب، وتوكيل هذه المهمة إلى السلطة القضائية، للفصل في مدى احتواء الكتاب على إساءات وتسببه بالضرر من عدمه، هديًا بما جاء في الحكم محل المناقشة.