ربما لا ينقل الفن الواقع كما هو، لكنه بالتأكيد يتأثر به ويحاكيه ويعكس قضاياه مهما تكن طريقة الطرح جادة أو ساخرة، مبتذلة أو راقية.
الفن الكويتي، بمسرحه وأعماله التلفزيونية وأغانيه، تجده متأثرًا بتقلبات الواقع الكويتي وتحولاته وبروز قضاياه، مثل قضية البدون، التي تُعد إحدى أهم القضايا الدولية للكويت.
من هم البدون؟
تذكر «مجموعة 29»، المختصة بحقوق البدون، أن قضية عديمي الجنسية نشأت بالمرسوم الأميري رقم 15 لسنة 1959 بشأن قانون الجنسية الكويتية، وقد اتبعت لجان التجنيس في ذلك الوقت آلية لاستحقاق الجنسية لم تكن لها ضوابط محددة ومعلومة لدى الجميع، من ضمن شروطها إثبات فترة الوجود في الكويت من خلال الوثائق وشهادة الشهود، ولم تراعِ تلك السياسة طبيعة وظروف سكان أهل البادية الذين يشكلون نسبة كبيرة من فئة البدون، ولا يملك كثير منهم مستندات ووثائق ثبوتية، إضافة إلى أسباب أخرى كعيشهم في مناطق بعيدة، وعدم معرفتهم بوجود لجان التجنيس، وإهمال كثير منهم وعدم اهتمامهم بالتسجيل في تلك اللجان، وعدم توعيتهم بأهمية الحصول على الجنسية وقيمة المواطنة ومميزاتها.
لذا سمحت الدولة لفئة البدون، التي كانت تسميهم «بادية الكويت»، بالإقامة القانونية عن طريق استثنائهم من إجراءات الإقامة في المرسوم الأميري رقم 17 لسنة 1959 بشأن إقامة الأجانب، وقد ألغي هذا في مرسوم 1987.
كان عام 1987 نقطة تحول في التعامل مع فئة البدون، فقد كانت الدولة قبل ذلك التاريخ تعترف بهم وتضيفهم ضمن الإحصاء الرسمي لأعداد الكويتيين، وكانت تمنحهم حقوقًا مشابهة لحقوق المواطنين باستثناء حق التصويت في انتخابات مجلس الأمة.
في الفترة بين 1959 و1986 كان أبناء البادية وفئات أخرى من البدون (تنتمي أصولهم المختلفة إلى نفس أصول المواطنين) يُمنحون تسهيلات خاصة لحاجة الدولة لهم في مجالات كثيرة، أهمها المجال العسكري، وكانوا يتمتعون بحقوق التعليم والرعاية الصحية والحقوق الوظيفية حتى عام 1987، حين غيرت الدولة سياستها معهم، واتخذت ضدهم إجراءات تضييقية لتعديل أوضاعهم، فمنعت عنهم تلك الحقوق المدنية والإنسانية الأساسية، وحرمتهم من حق التعليم والتطبيب والتوظيف وإصدار شهادات الزواج والميلاد والوفاة، واستُثنِيَ من تلك السياسات التضييقية العاملون في القطاعات الأمنية.
اقرأ أيضًا: بين المنح والسحب.. هل الجنسية حق المواطن أم الدولة؟
انعكاس فني
منذ نشأة القضية حتى عام 1987 لم تكن قضية البدون محورية في المجتمع الكويتي، بل كانت مسألة هامشية، ولم يكن مصطلح «بدون» منتشرًا وقتئذ، لأن المنتمين إلى هذه الفئة كانوا يحصلون على حقوقهم الأساسية عدا الجنسية والسياسة، ولذلك، ورغم بحثي في الأعمال الفنية الكويتية في تلك الفترة، فإني لم أجد في أيٍّ منها استخدامًا لمصطلح بدون.
لكن في مسلسل «العتاوية» عام 1980، وفي مشهد الانتخابات، يبرر أحد مؤيدي «المرشح يكيكي» عدم تصويته بأنه لا يملك جنسية، ولم يستخدم مصطلح «بدون» كانعكاس طبيعي لعدم طفو القضية على سطح القضايا المجتمعية في تلك الفترة، حتى تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1991، حين تصاعد التضييق على فئة البدون، وشمل ذلك جميع عديمي الجنسية حتى المنتمين إلى القطاعات الأمنية.
انعكس ذلك على الفن بدوره، فبدأ تناول القضية عبر «إفيهات» مسرحية ساخرة بدأت بمسرحية «سيف العرب» في 1992، التي تناولت موضوع الغزو العراقي، وفيها يذكر الفنان عبد الحسين عبد الرضا مصطلح «بدون» في مشهد يتحدث عن العاملين في السلك العسكري، شاهده هنا.
يقول المخرج والكاتب المسرحي بدر المحارب إن «العمق الإنساني لقضية البدون جاء بعد تحرير الكويت بسبب مشاركة بعض البدون في عملية التحرير والمقاومة، والقضية انتشرت عالميًّا، وصار لها ذكر في وسائل الإعلام العالمية للمرة الأولى من بعد التحرير، ما انعكس على المسرح».
يوضح المحارب لـ«منشور» أنه لو كان عبد الحسين عبد الرضا قد قال الإفيه الذي قاله في مسرحية «سيف العرب» حول البدون في مسرحية أخرى قبل التسعينيات، لم يكن أحد ليهتم أو ليضحك لأنها لم تكن مشكلة معروفة: «أعتقد أن هذا الإفيه لم يكن واردًا في النص الأصلي للمسرحية بسبب الرقابة، وتناول عبد الحسين له كان خروجًا عن النص».
تطرقت مسرحية «الحكومة أبخص»، لملفات التجنيس ومشكلة تعامل اللجان مع البدون وهي المسرحية الوحيدة التي كان محورها الأساسي قضية البدون.
يضيف تقرير «مجموعة 29» أن تداعيات معاناة البدون الإنسانية والاجتماعية تفاقمت، وأصبحت تشكل ضغطًا على المجتمع والبرلمان والحكومات المتعاقبة، فأنشئت اللجنة المركزية لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية في عام 1993، وكان من مهامها تنفيذ ومتابعة القرارات والتوجيهات التي يعتمدها مجلس الوزراء بشأن المقيمين في البلاد بصورة غير قانونية.
وبسبب إخفاق اللجنة في حل القضية في الموعد المحدد لها، بحسب المجموعة، أنشئت اللجنة التنفيذية لشؤون المقيمين بصورة غير قانونية برئاسة وزير الداخلية في 1996 لتضفي عليها مهام تنفيذية، إلا إن تلك اللجنة اعتمدت الأسلوب الأمني في الضغط والتضييق بدلًا من إيجاد حلول إنسانية عادلة.
في هذه الفترة صار تناول الإنتاج المسرحي للقضية أكثر وضوحًا وجرأة، لأنها صارت مشكلة حقيقية على سطح المشكلات في الكويت، وجاء تناولها في المسرحيتين السياسيتين «انتخبوا أم علي» عام 1993 و«الحكومة أبخص» عام 1998.
تذكر مسرحية «انتخبوا أم علي» البدون في عدة أجزاء منها بطريقة ساخرة ومباشرة، خصوصًا مشهد «الجمعية»، الذي احتوى على سرد واضح لما آل إليه حال الكويتيات المتزوجات من بدون ومشكلاتهم المالية بعد فقدان البدون لوظائفهم عقب التحرير. وذكر الفنان محمد العجيمي جوازات مادة 17 بشكل عابر (شاهده هنا)، وهي جوازات السفر المؤقتة التي يحصل عليها بعض المواطنين من فئة البدون.
أما مسرحية «الحكومة أبخص»، فقد كانت أكثر الأعمال الفنية وضوحًا ومباشرة في طرح قضية البدون والأكثر جرأة، فقد تطرقت لملفات التجنيس ومشكلة تعامل اللجان مع البدون وغيرها من المشكلات، وهي المسرحية الوحيدة التي كان محورها الأساسي قضية البدون، وهذا أهم مشاهدها.
يقول مخرجها ومؤلفها بدر المحارب إن الرقابة في فترة ما بعد التحرير كانت أقل تشددًا وأكثر تساهلًا، رغم ذلك كان هناك تردد في إجازة النص، ورُفِضَ ثلاث مرات قبل أن يُقبل، وحاولت الرقابة أن تغير فيه من قضية البدون إلى قضية التجنيس بشكل عام، لكنها أجازته في النهاية: «وقفتُ أيضًا عندها رقابة العرض التي يختلف دورها عن دور رقابة النص، وهي الرقابة التي تحضر العروض المسرحية لمراقبة ما يجري في العرض».
يشير المحارب إلى أنه لا وجود لنص أو كتب أو قرارات رسمية تمنع التطرق لقضية البدون، لكنها تعليمات شفهية ينفذها المسؤولون.
اقرأ أيضًا: بداية عظيمة ونتائج مؤسفة: التدهور التراجيدي للمسرح الكويتي
بدون: الألفية والتطبيع
أثَّر تناول قضية البدون بالشكل الطبيعي في الوعي الجمعي، ورسَّخ وجودها في أذهان الأفراد عوضًا عن التغاضي عنها لخلق حالة وهمية تدفع لتجاوزها وكأنها ليست موجودة.
«هناك ضباط تمادوا في امتهان كرامات الناس، وأوصلوا سمعة اللجنة التنفيذية إلى الحضيض». العميد فيصل نواف الصباح، نائب أمين سر اللجنة التنفيذية للمقيمين بصورة غير قانونية، في تصريح له لجريدة «الرأي» عام 2006.
هذا ما تميزت به الألفية، إذ صارت الكويت تواجه قضية البدون باعتبارها قضيتها الكبرى التي تسبب لها كثيرًا من الإحراجات والأسئلة في المحافل الدولية.
وتعامل الفن أيضًا مع القضية بهذا الشكل باعتبار وجودها حقيقة يجب الانتباه إليها، تعامل معها بطبيعية كجزء لا يتجزأ من القضايا الكويتية، ومن أمثلة ذلك مسلسل «ثمن عمري» في 2002، الذي أدى فيه أحمد السلمان شخصية الرجل البدون الذي يعيش في حالة اجتماعية واقتصادية سيئة، رغم عدم التركيز على مسألة الجنسية ربما بسبب التوجهات السياسية للكاتبة، ولم تتجاوز الكوميديا هذا الموضوع، بل وقفت عنده ساخرة في مسرحية «ما يصح إلا الصحيح» في مشهد البدون لطارق العلي.
ثم في 2004، تمحورت قصة المسلسل الكويتي «وبعد» حول «فارس»، الذي يؤدي دوره خالد أمين، وصديقه «أحمد إيراج»، الشاب البدون الذي يحاول بناء حياته والتغلب على العراقيل للنجاح والتمكن من الزواج ممن يحب. وفي 2008، أنتج حمد بدر فيلمًا بعنوان «كيوت»، يصرخ أحد أبطاله «أنا بدون، أنا بدون» في مشهد درامي ساخر.
أثَّر تناول القضية بهذا الشكل الطبيعي في الوعي الجمعي، ورسَّخ وجودها في أذهان الأفراد عوضًا عن التغاضي عنها لخلق حالة وهمية تدفع لتجاوزها وكأنها ليست موجودة في الواقع، ولا تتحكم بحيوات كثير من الأشخاص، وهي طريقة لمواجهة العزل الاجتماعي.
تُعد هذه الفترة هي الهدوء الذي سبق العاصفة منذ بداية العقد الثاني من الألفية.
عنق الزجاجة
حوكم نحو 180 من البدون بناء على اتهامات مثل المشاركة في تجمهر غير قانوني ومقاومة وتهديد الشرطة بعد المشاركة في تظاهرات.
في 2010، أُنشئ الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع «المقيمين بصورة غير قانونية»، وبدأت معه سياسات تضييقية أكبر من القيود الأمنية، تمنع بعض البدون من تجديد أي أوراق رسمية، وتحرم بعض الأطفال من التعليم، وتسهل تزوير الجوازات تحت ذريعة تعديل الأوضاع، ما أنتج فئة جديدة تسمى «بدون البدون»، وتعقدت الأوضاع أكثر بسبب محاولات الجهاز للضغط على البدون بحجة دفعهم لإظهار جنسياتهم الحقيقية في مقابل عدم قدرتهم على التوجه للقضاء.
إثر تداعي الأوضاع بهذا الشكل، والوضع السياسي المحلي والإقليمي، خرج عدد من أبناء فئة البدون في تظاهرات واعتصامات في منطقة تيماء في الجهراء للمطالبة بحقوقهم وتحسين أوضاعهم، وكان فضُّها باستخدام العنف.
تذكر منظمة «هيومن رايتس ووتش» في تقرير لها أن «قوات الأمن ضربت متظاهرين من البدون، واحتجزت عشرات منهم في أثناء قمعها لتظاهرات سلمية».
يوضح التقرير أن محتجزين من البدون تعرضوا للأذى البدني رهن الاحتجاز. وفي إحدى الحالات، فرقت قوات الأمن بالقوة نحو 300 متظاهر في تيماء شمال غربي مدينة الكويت، وقبضت على 14 شخصًا.
تنقل المنظمة تأكيد وزارة الداخلية أن المتظاهرين ارتكبوا «أعمالًا مخزية»، مثل محاولة إحراق إطارات وقطع الطرق. وتنقل كذلك عن نشطاء حقوقيين كويتيين أن المظاهرة كانت سلمية.
وفقًا للتقرير، حوكم نحو 180 من البدون وأصحاب الجنسية الكويتية بناء على اتهامات مثل المشاركة في تجمهر غير قانوني ومقاومة وإهانة وتهديد الشرطة وتدمير ممتلكات الشرطة، وذلك من واقع مشاركتهم في تظاهرات في عامي 2011 و2012.
وبالرغم من تصاعد القضية إلى درجات العنف وبلاغات عن التعذيب والإضراب عن الطعام، فإن الفن أشاح بوجهه عن هذا التصعيد الخطير في مسار القضية، واكتفى باستخدام نفس النبرة التي يتحدث فيها وكأن شيئًا لم يكن.
ربما تعود أسباب هذا التغافل إلى الخوف من الرقابة، أو عدم رغبة كثير من الفنانين الذين تجمعهم مصالح مع الحكومة في دخول صراع ومواجهة معها لأجل قضية قد تخسر، فكان خيار الانفصال عن الواقع، واستمر طرح القضية على ذات النسق.
في عام 2011، أنتُجِت أغنية عُرِضت على يوتيوب بعنوان «قالوا بدون»، من كلمات الشاعرة سعدية مفرِّح. وفي ذات العام عُرِض مسلسل «بوكريم برقبته سبع حريم» من بطولة سعد الفرج، الذي أدى دور رجل عجوز بدون يتذوق مرارة الحياة والفقر لأجل بناته، وذلك دون التطرق بشكل مباشر إلى كونه من فئة البدون خوفًا من منع الرقابة.
يتضح التراجع أكثر، إذ لم يُكتفَ بالتضييق على البدون، بل كان هناك تضييق على الأعمال الفنية التي تناصر قضاياهم، وواجه بعضها الحذف مثل مسلسل «العافور» في 2014، في مشهد وحيد يتحدث فيه عبد الحسين عبد الرضا عن أحقية البدون في التوظيف، ما حدا بتلفزيون الدولة الرسمي إلى حذف المشهد من المسلسل خلال عرضه.
ظل المسرح يتعامل مع القضية بشكل ساخر لا يخرج عن مجموعة من الإفيهات، كما في مسرحية «كشتة» المعروضة عام 2015، بطولة حسن البلام وأحمد العونان، والأخير ينتمي إلى فئة البدون، وتحدث عنها في هذا المشهد.
وأصدر أحد الموسيقيين المستقلين، وهو زاهد سلطان، أغنية في ذات العام تحمل اسم «بدون»، لم تلاقِ صدى كبيرًا حينئذ.
وأخيرًا في 2016 أدى بشار الشطي دور الشاب البدون في مسلسل «حكايات» دون توضيح وتركيز على ذلك، وفي ذات العام عُرض المسلسل الشهير «ساق البامبو»، الذي أدى فيه الفنان فيصل العميري دور رجل بدون تمنعه العنصرية من الزواج ممن يحب، وهو عمل مقتبس عن الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية للروائي الكويتي سعود السنعوسي.
تعرَّض المسلسل بدوره للمنع من التصوير في الكويت بتهم الإساءة إليها، وكان لافتًا لعدد من المشاهدين حذف الرقابة مقاطع من المسلسل في أثناء عرضه على القنوات الكويتية، مع أنه عُرِضَ في القنوات الخليجية الأخرى دون حذف، بسبب عدم رغبة السلطات في الكويت في التطرق إلى هذا الأمر.
هذه المسيرة التي سارت فيها قضية البدون داخل الأعمال الفنية تدل على محاولة الفن لأن يكون مرآة للواقع، لكن هذه المرآة سحرية في بعض الأحيان، تريد أن تخبرنا بأننا أجمل مَن في العالم بدلًا من إظهار بشاعة الحقيقة وتعريتها. الفن الجبان والفن الخائف والفن ذو المصلحة والفن المنفصل عن الناس والفن الساذج، كل هذا ليس فنًّا، ولن يكون. نريد فنًّا يشاغب وقت التضييق، ويقاوم وقت المنع، ويعكر صفو المملوءة كروشهم، ويقف في صف المضطهَدين والمهدورة حقوقهم.