قبل شهرين ونيف، وتحديدًا في 26 أبريل، مرت ذكرى عقد كامل على ترجُّل المفكر وعالم الاجتماع خلدون النقيب عام 2011 عن عالمنا، بالتزامن مع ثورات الربيع العربي التي انطلقت من سيدي بوزيد في تونس ديسمبر 2010 وانتقلت إلى مختلف العواصم العربية، وتوق شعوبها إلى الحرية والديمقراطية، التي لطالما انشغل بالكتابة حولهما وسخر لهما جهده وناضل من أجلها في سنوات مبكرة من حياته، وحتى الساعات الأخيرة قبل رحيله، تاركًا خلفه مسيرة عمرها 70 عامًا، زاخرة بالإنتاج المعرفي الرصين الذي يحفر بعمق في جذور المسائل العربية، دون أن يمنحه القدر وقتًا أكبر لرؤية مآلات المشهد العربي، الذي أُسدل الستار على أحد فصوله التي سبق وأن تنبأ بها، وتبقت نبوءته بحتمية التغيير على امتداد هذه المنطقة من البحر إلى البحر.
الولادة والنشأة في زمان ومكان مضطربيْن
في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وفي خضم اشتعال الحرب العالمية الثانية، وُلد خلدون النقيب في مدينة البصرة جنوب العراق بتاريخ 16 سبتمبر 1941. وما انسحب من تأثيرات أعنف حروب التاريخ البشري على العالم برمته انسحب على نشأته، وما تلاها من أحداث متسارعة بدأت مع الحرب على فلسطين عام 1948، مرورًا بتوالي الانقلابات العسكرية في المحيط العربي في الخمسينيات، والحوارات التي كانت تدور في بيئته حول هذا كله شكلت وعيه الأول.
بالإضافة إلى انحداره من أسرة النقيب أحمد الرفاعي، التي يعود نسبها إلى الحسين بن علي وتعتبر إحدى كبار الأسر الإقطاعية في العراق، والتي انقسمت إلى فرعين أحدهما استقر طويلًا في العراق والثاني انتقل إلى الكويت أواخر القرن التاسع عشر/بدايات القرن العشرين، وهو فرع السيد خلف جد خلدون النقيب، وجده من أمه هو السيد طالب النقيب ذو الميول العروبية، الذي تولى ولاية الإحساء بتفويض من الدولة العثمانية.
بسبب مواقف السيد طالب من الاحتلال البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، تعرض للنفي لسنوات في بومباي، وعاد لاحقًا إلى البصرة مع اندلاع ثورة العشرين عام 1920 في العراق، وأصبح أول وزير للداخلية في أول حكومة عراقية، وكان مرشحًا بارزًا لتولي عرش الدولة العراقية، مما اضطر بريطانيا إلى نفيه مجددًا. وفي ظل هذه العوامل المتداخلة في ما بينها ترعرع خلدون النقيب، ولا يمكن لمن يتتبع سيرته أن ينزعها من سياق حياته التي شكلت شخصيته لاحقًا، من كون هذه البدايات هي التي كونت أساسها.
عابر الأقطار
تلقى خلدون النقيب تعليمه في مرحلتي الروضة والابتدائية في مدرسة الحداد الأهلية بالبصرة، أثناء رعاية أسرته لأملاكها هناك. ولتواضع التعليم النظامي في الكويت الذي كان يخطو خطواته الأولى وقتها، انتقل إلى العاصمة بغداد لمواصلة تعليمه في المرحلتين المتوسطة والثانوية بمدرسة اليسوعية الكاثوليكية، وبدأت إرهاصات نضاله نحو الحرية وبروز شخصيته الاجتماعية في المرحلة الثانوية.
حين نُظمت مظاهرات ضد الإمبريالية البريطانية، منع ناظر المدرسة الطلبة من مغادرة المدرسة للمشاركة فيها، فخطط خلدون النقيب مع مجموعة من الطلبة لإغلاق الباب على مكتب الناظر، ثم انطلقوا بعدها للاشتراك في المظاهرة، مما تسبب في فصله، لتضطر أسرته إلى إعادته للكويت لضمان إبعاده عن النشاط السياسي الملتهب في العراق آنذاك، وضمان انشغاله في الدراسة ليستكمل تعليمه في الكويت بثانوية الشويخ الشهيرة.
بعد الثانوية، عاد خلدون النقيب مجددًا إلى العراق، وتحديدًا بغداد، للالتحاق بجامعة بغداد في تخصص علم الاجتماع، لكنه تركها بعد عام واحد، وغادر إلى مصر في عام 1963 للانتساب إلى جامعة القاهرة، وحصل على البكالوريوس في علم الاجتماع، ثم عاد إلى البلاد للعمل لفترة قصيرة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبعدها مُنح بعثة دراسية لمواصلة الدراسات العليا في لندن، لكنه اختار الذهاب إلى باريس.
محمود عودة الأستاذ بجامعة عين شمس لقَّب النقيب بـ«عابر الأقطار» بسبب معايشته للأفكار المتنوعة في مختلف البلدان، والتي أثرت بشكل مباشر على شخصيته وإسهاماته الفكرية.
لم تطل مدة إقامته في باريس، ليتركها مغادرًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية لينال الماجستير في علم النفس الاجتماعي من جامعة لويسفيل كنتاكي عام 1969. وأثناء الدراسة قرر إيقاف قيده الجامعي ليتوجه إلى أغوار الأردن بدوافع عروبية، للمشاركة في الحرب العربية ودعم المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني. وهناك لعب دور المثقِّف السياسي طيلة ستة أشهر قضاها، بحسب ما أكده لـ«منشور» صبيح سامي السلطان، الذي جمعته بالنقيب صداقة حميمة امتدت من السبعينيات وحتى رحيله.
تروي جنى ابنة خلدون النقيب لـ«منشور» أنه لم يفصح لأي أحد من العائلة عن قراره هذا، وتَنقل عن والدته أنه اختفى حينها فجأة طوال هذه الفترة، ولم يعرفوا سر غيابه سوى لاحقًا بعد عودته، مضيفة أنه «بعد وفاته رأيت في مكتبته كل حياته على الورق، ومنها كانت قصاصات ورقية دوَّن عليها تفاصيل هذه المحطة من حياته مع المقاومة الفلسطينية، وبعضها يحتوي على أسرار عسكرية غير صالحة للنشر».
في عام 1976، حصل النقيب على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس أوستن في الولايات المتحدة الأمريكية، وحملت رسالته عنوان «الأنماط المتغيرة للتدرج الاجتماعي في الشرق الأدنى: دراسة حالة مجتمع الكويت». ويروي علي الطراح، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، في جلسة حوارية حول أفكار ومفاهيم خلدون النقيب نظمها مركز مؤرخ في جامعة الكويت مارس 2018، أن محمود عودة الأستاذ بجامعة عين شمس لقَّب النقيب بـ«عابر الأقطار» بسبب معايشته للأفكار المتنوعة في مختلف البلدان، والتي أثرت بشكل مباشر على شخصيته وإسهاماته الفكرية.
تسترجع جنى واحدة من الحوارات التي دارت مع والدها خلال الزيارات المتكررة إلى الطبيب في الأسابيع التي سبقت وفاته: «سألته مرة عن عدد الدول التي زارها، وبدأنا نراجع الأسماء معًا، وأنا أدوِّن، حتى وصلنا إلى مئة دولة تقريبًا». وتستطرد: «وفي سفرنا المشترك، وعند زياراتنا إلى المطاعم، كان دائمًا يبادر بافتتاح نقاشات مع العاملين والتعرف إليهم من خلال توجيه أسئلة لهم عن جنسياتهم وبلدانهم والأسباب التي دفعتهم إلى العمل».
المثقف المشتبك
عند عودة خلدون النقيب إلى الكويت بدأ عمله مباشرة أستاذًا في جامعة الكويت، وتبوأ منصب عميد كلية الآداب على فترتين: الأولى من 1978 إلى 1981، وكان بذلك أول كويتي يتولى المنصب، والثانية من 1986 إلى 1988. وبدأ منذ السنوات الأولى لعودته ينشط كمثقف عضوي فاعل، من خلال الاشتباك مع المجتمع من جهة والسلطة من جهة أخرى، ونشر عددًا من البحوث والدراسات في أبرز المجلات العربية.
وفي عام 1985 انضم إلى جريدة «القبس» كأحد كُتابها، واستمر معها حتى أواخر التسعينيات، وتنوعت كتاباته لها ما بين مقالات الرأي حول مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والتربوية، وتحليل الانتخابات البرلمانية بمنهج أكاديمي علمي، خصوصًا في أواخر التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة التي شهدت عدة دورات برلمانية (1992-1996 و1996-1999 و1999-2003)، إذ كان يحلل مزاج الشارع ويقرأ في مخرجاته مستعينًا بأدوات التحليل العلمية والأرقام الدقيقة، وهذا ما يتلمسه كل مُطَّلع على إنتاج النقيب المعرفي، وحرصه على الموضوعية وتقديم مادة رصينة من خلال انطلاقه من قاعدة بيانات تخص مواضيعه.
تؤكد لـ«منشور» الكاتبة سعدية مفرح، التي زاملت النقيب في «القبس» لعدة سنوات، أنه «كان يحب الأرقام ويختبر أي فكرة بأدوات التحليل الاجتماعي، ليقدم قِراءة بطريقة موضوعية تمامًا». وتضيف: «كانت لديه قدرة عجيبة على قراءة التاريخ والاستخلاص منه، واستشراف المستقبل من خلال كتاباته».
في عام 1988، وأثناء استمرار تعطيل العمل بالدستور وغياب مجلس الأمة، وفي ظل الرقابة الخانقة التي فرضتها السلطة مسبقًا على الصحف وجمعيات النفع العام ومختلف مناحي الحياة، ومع منع الندوات والاجتماعات بكل أشكالها، أُلقي القبض على النقيب بعد أن نشر في «مركز دراسات الوحدة العربية» كتابه الجديد «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية: من منظور مختلف»، واتُّهم بمحاولة قلب نظام الحكم، وسُجن لمدة أربعة أيام مع منع الزيارة، ثم أُطلق سراحه بعد تقديم عريضة إلى أعلى المستويات في الدولة موقع عليها من مجموعة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف دول الوطن العربي، بالإضافة إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان والجمعية العربية لعلم الاجتماع.
يخبرنا صبيح سامي السلطان أنه «لم يطرأ بعد تجربة السجن لأيام أي تغيير على شخصية خلدون النقيب، أو حتى على نشاطه واشتغالاته، بل استمر كما كان قبلها وكأن شيئًا لم يكن».
طوال مسيرة حياة النقيب التي شهدت محطات عديدة، لم يتوانَ أن يقول آراءه عنها بصدق تام ينسجم مع ذاته، وإن كلفه ذلك ثمنًا باهضًا تعرض فيه إلى الظلم حيًا وميتًا.
وتحكي ابنته جنى عن ذكرياتها في تلك الفترة قائلة: «كانت خطوط هواتف بيتنا مراقبة، وكنا نشعر بشكل واضح بأن هناك من يتجسس على مكالماتنا، وكانت بالقرب من منزلنا سيارة سوداء غريبة استمرت تراقبه على فترات». وتضيف: «تلمَّسنا أثناء سجنه محبة الناس، إذ لم تتوقف الزيارات والاتصالات من خارج الكويت وداخلها، ومن شخصيات الحركة الوطنية، وامتلأ البيت عن آخره بعد خروجه».
في عام 1990، وطدت الحكومة انقلابها على الدستور بعد تعطيله وتعطيل الحياة السياسية وحل مجلس عام 1985 في 3 يوليو 1986، وذلك بالدعوة في أبريل 1990 إلى انتخابات المجلس الوطني وموعدها 10 يونيو من نفس العام، على أن تكون مهمة المجلس وضع دستور جديد، وتكون مدته أربع سنوات، وعدد أعضائه 75، ثلث أعضائه (25) بالتعيين والباقي (50) ينتخبهم الشعب، وصلاحياته طابعها استشاري غير ملزم.
قوبلت هذه الدعوة باستهجان شعبي شديد من مختلف القوى السياسية والمدنية، ودعت المعارضة إلى مقاطعة انتخابات المجلس الوطني، وصاغ عبد العزيز الصقر عريضة تؤكد التمسك بدستور عام 1962 ورفض المجلس الوطني والدعوة إلى مقاطعته، وكان أحد الموقعين عليها خلدون النقيب بمعية شخصيات وطنية أخرى، وقد وثق العريضة أحمد الخطيب في الجزء الثاني من مذكراته «الكويت: من الدولة إلى الإمارة». وطوال مسيرة حياة النقيب التي شهدت محطات عديدة، لم يتوانَ أن يقول آراءه عنها بصدق تام ينسجم مع ذاته، وإن كلفه ذلك ثمنًا باهضًا تعرض فيه إلى الظلم حيًا وميتًا.
مما حدث في حياته ما كان على مستوى جامعة الكويت وحرمانه من الترقية إلى أستاذ أول. وبحسب حديث سعد بن طفلة العجمي وزير الإعلام السابق لـ«منشور»، فإن «كثيرين أشاروا عليه بأن يقاضي من كانوا وراء إيقاف ترقيته، ولكنه رفض، وقال إنه لا يوجد شيء اسمه ترقية بحكم، بل الترقية تكون بالعمل، وهذه أعمالي يُفترض أن تتحدث عن نفسها».
ومما حدث بعد مماته ما عبر عنه علي الطراح في إحدى الندوات، من تقصير الجامعة والمؤسسات في حق النقيب وابتعادها عن الكتابة عنه وعن أعماله ونصوصه وعدم دراستها. لكن وإن كانت في القلب غصة من هذا الإهمال المتعمد له حتى بعد وفاته، فعزاؤنا دون شك أنه احتُفي به وما زال يلاقي التقدير الذي يستحقه في الأوساط الثقافية والعلمية على مستوى العالم، كباحث ومفكر يشار إليه بالبنان.
اقتصاد الحالة الطبيعية: الخليج ليس نفطًا
يعد كتاب خلدون النقيب «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية» أهم إنتاج فكري تناول منطقة الخليج والجزيرة العربية سوسيولوجيًا، وبُنيت عليه معظم دراسات العلوم الاجتماعية التي جاءت بعده حول هذه المنطقة، حتى درج في الأوساط الأكاديمية بين الأكاديميين تسميته «مؤسس سوسيولوجيا الخليج». وتُرجم الكتاب إلى الإنجليزية بعدها في عام 1991 عن دار نشر «روتلدغ».
وقد كان محفزه لمنجزه هذا هو اقتصار الكتابات عن الخليج والجزيرة العربية عمومًا، سواء الغربية أو العربية، على نوعين: الأول ينصبَّ على تاريخِ تعاقُب الحكام والملوك وحروبها وتحالفاتها، والثاني يتناولها بسطحية تفتقر إلى المعرفة الدقيقة بالمنطقة وأبعادها التاريخية، ويقصرها على زاوية ضيقة هي تأثير النفط على مجتمع الجزيرة واقتصادها.
يتمركز التأريخ في ثنائية ما قبل النفط وما بعده، والتي ينتقدها النقيب بشكل قاسٍ في فصول الكتاب الأولى، لينسف من خلال أطروحته هذه كل ما جاء قبله بمنهجيته التحليلية النقدية، التي تحفر بعمق في مجتمعات ودول الخليج والجزيرة العربية، عائدًا إلى القرن السادس عشر حيث ما أسماه «اقتصاد الحالة الطبيعية» ومركزية هذا المكان في العالم، الذي يمثل حلقة في داخل شبكة أوسع تربط عوالم اقتصادية عدة مبنية على تقسيم عمل دولي قبل رأسمالي، يقوم في الغالب على «تجارة المضاربة» وخطوطها الرئيسية التي تمر عبر الجزيرة العربية.
وبوصف «الطبيعية»، يقصد خلدون قدرة هذه المجتمعات على صياغة نشاطاتها وعلاقاتها في ما بينها، بما يتناسب مع درجة تطور ونضج أو تخلف قوى الإنتاج في بيئتها القاسية، ومقاومة قوى الاستعمار المختلفة على طول تاريخها الممتد. ويقدم النقيب بذلك نموذجًا تفسيريًا أقرب إلى الواقع لمحاولة فهم تاريخنا دون الوقوع في أفخاخ الاستشراق أو السطحية.
النضال حتى اليوم الأخير
ظل النقيب طوال حياته مشتغلًا في البحث والعلم حول إشكاليات وقضايا الوطن العربي، رافدًا المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات الفريدة من نوعها والمهمة أيضًا. وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية على مستوى الدول العربية والعالم، وانتُخب قبل وفاته رئيسًا للمركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات في قطر بالإجماع في أولى جلساته، بعد تأسيسه في الربع الأخير من عام 2010، وظل رئيسًا له حتى أيامه الأخيرة.
كان عائدا من أحد مؤتمرات المركز قبل وفاته بأيام، وفي اليوم الذي سبق رحيله (أو للدقة: في الساعات الأخيرة منه)، ظهر في لقاء تلفزيوني مع قناة «دريم» المصرية في برنامج «ضوء أحمر» مع الصحفي سليمان جودة، وبدت ملامحه شاحبة وصوته مرهقًا. تحدث في الحلقة عن الحياة السياسية العربية والثورات التي طافت مختلف دول المنطقة، وأسماها بالانتفاضات المباركة، وقال إنها تأخرت عن موعدها ربع قرن، محللًا سياقاتها المختلفة، ومحذرًا من أن تسرقها الثورات المضادة وحكم العسكر، وهذا ما حدث فعلًا في أكثر من تجربة عربية، لتفتقد الشعوب العربية التواقة إلى التحولات الديمقراطية قراءاته للواقع واستشرافه للمستقبل، بعد أن ألمَّت به نوبة قلبية غيبته عنا.
وما زالت معظم كتابات خلدون النقيب صالحة، ودومًا، كمدخل لفهم المشهد العربي.