هو المتلون والأكثر تحولًا وتنوعًا في الشخصيات التي يختارها، قلما تجده كرر دورًا أو شخصية، هاوٍ لكل ما هو خارج عن المألوف وغير تقليدي، لكن هذا النوع من الهوى يعتريه بعض المخاطرة، فالخروج عن المألوف قد يؤدي إلى الجنون من ناحية أو النجاح من ناحية أخرى، لكن الأمر مختلف تمامًا مع «جوني ديب»، فقد نجح للدرجة التي وصل بها إلى مرحلة التشبع، وبات في طريقه نحو الهاوية.
جوني ديب: الخروج عن المألوف والتمرد
ينحدر جوني ديب من أصول إنجليزية فرنسية، جده الأكبر «بيير ديب» هاجر من فرنسا إلى أمريكا عام 1700، وفي أثناء طفولته تنقل جوني مع أهله للعيش في أكثر من 20 منزلًا مختلفًا إلى أن انفصل والده «جون كريستوفر ديب»، الذي كان يعمل مهندسًا مدنيًّا، عن والدته «بيتي بالمر».
تعلَّم جوني عزف الغيتار في فترة مراهقته، وانضم في الثانية عشرة إلى فرقة روك تجوَّلت في أنحاء فلوريدا التي انتقل إليها بعد انفصال والديه، حينها قرر ترك المدرسة ليصبح موسيقيًّا، لكنه تراجع عن تمرده هذا بعد أسبوعين وحاول العودة إلى المدرسة.
في بداية مشواره قرر ديب تقديم أدوار مميزة فقط، ولم يجذبه سوى فيلم «Edward Scissorhands» مع «وينونا رايدر».
سرعان ما انفصلت الفرقة الموسيقية التي انضم إليها جوني ديب، فانتقل إلى لوس أنجلوس، حيث تعرف إلى الممثلة «لوري أليسون»، وتزوجها، فكانت سببًا مباشرًا في اتجاهه للفن بعد أن عرَّفته إلى «نيكولاس كيدج»، الذي رشَّحه لأحد الأدوار الصغيرة في فيلم «A Nightmare on Elm Street» عام 1984، الذي حقق نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا قرر بعده جوني احتراف التمثيل، فبدأ يتلقى دروس تمثيل بإحدى الاستوديوهات في لوس أنجلوس.
في العام التالي حصل ديب على دور أكبر في الفيلم الكوميدي «Private Resort»، بعدها اختاره المخرج «أوليفر ستون» للمشاركة في الفيلم الحربي «Platoon» الذي حصد أربع جوائز أوسكار، بعدها جاءت الخطوة الأهم في مسيرته حينها عندما اختير لبطولة المسلسل التلفزيوني «21 Jump Street».
مرة أخرى قرر جوني ديب التمرد حين رفض العروض التي انهالت عليه بعد نجاح المسلسل، والاكتفاء بالعروض التي يراها ملائمة لمشواره الفني. قرر تقديم الأدوار المميزة فقط حينئذ، ولم يجذبه سوى الدور الذي قدمه في فيلم «Edward Scissorhands» عام 1990 مع الممثلة «وينونا رايدر»، التي كانت حبيبته في ذلك الوقت، ومع صديقه الوفي وسبب نجاحه الرئيسي المخرج «تيم برتون».
مثلث الرعب: ديب وبرتون وكارتر
انضمت «هيلينا بونهام كارتر» إلى الثنائي برتون وديب، ليبدأ الثلاثي العمل معًا لمدة سبع سنوات، قدموا فيها أغرب وأبرز الشخصيات ذات الأشكال والأزياء الغريبة.
بدأ جوني ديب مرحلة جديدة تمامًا في مشواره الفني بتعاونه مع تيم برتون في أول فيلم لهما معًا، والذي دشن نجومية جوني كواحد من أغرب ممثلي هوليوود، فشخصيات برتون دومًا غريبة يغلب عليها الظلام والسوداوية، ويرجع ذلك إلى شخصيته الناتجة عن طفولة غريبة مليئة بأفلام الرعب والدراما، لذا كان من الطبيعي أن ينجذب أي ممثل لتقديم تلك الشخصيات غير المألوفة، ولا سيما جوني ديب الذي كان وقتئذ يرغب في الخروج من شخصية الضابط «الكول» الذي قدمه في مسلسل «21 Jump Street».
في 1994 قدم جوني ديب شخصية المخرج «إد وود» في فيلم بنفس الاسم مع المخرج تيم برتون مرة ثانية، ليؤكدا الشراكة التي حققت نجاحًا كبيرًا مجددًا، واستمرا بعدها في العمل معًا، فقدما «Sleepy Hollow» في 1999، ولقي نجاحًا فنيًّا وجماهيريًّا أيضًا.
وفي 2005 انضمت إلى الثنائي برتون وديب الممثلة وزوجة المخرج تيم برتون حينئذ «هيلينا بونهام كارتر»، ليبدأ الثلاثي العمل معًا لمدة سبع سنوات قدموا فيها أغرب وأبرز الشخصيات ذات الأشكال والأزياء الغريبة، ففي «Corpse Bride» كانت العلاقة الرومانسية بين المقابر وعالم الأموات، وفي «Charlie and the Chocolate Factory» برز ديب في شخصية صاحب مصنع الشوكولاتة غريب الأطوار، ثم جاء الفيلم الأنجح والأكثر شهرة على الإطلاق «Sweeney Todd: The Demon Barber of Fleet Street» عام 2007، وهو ذروة نجاح الثلاثي، ولا أعتقد أنهم استطاعوا تقديم فيلم أنجح منه طوال مسيرتهم الفنية.
استمر الثلاثي في العمل معًا حتى 2012، فقدموا «Alice in Wonderland» و«Dark Shadows»، وفي هذا الفيلم الأخير بات واضحًا أن على الثلاثي التوقف عن العمل معًا، فقد بات التركيز على الشخصيات الغريبة والأزياء غير المألوفة أكثر بكثير من القصة والتمثيل والأحداث، وقد نال فيلم «Dark Shadows» نقدًا سيئًا، ولم ينجح جماهيريًّا مثل باقي أفلامهم معًا.
تلى ذلك الجزء الثاني من «Alice: Through the Looking Glass» الذي لم يكن من إخراج برتون، لكنه كان منتجًا منفذًا له، فشل الفيلم بشكل واضح ليعلن بما لا يدعو مجالًا للشك أن على جوني ديب التفكير في ما هو أبعد من الشخصيات الغريبة بشكل حتمي، فحتى شخصية «ماد هاتر» التي أحبها الجمهور في الجزء الأول من «أليس» لم تعد لها جماهيرية.
قد يهمك أيضًا: ويس آندرسون: فن تلوين المغامرة
جوني ديب وحيد دون برتون
سيكون من الظلم القول إن شهرة جوني ديب ونجاحه اعتمدا فقط على مشاركته تيم برتون العمل، فقد نجح ديب في تقديم شخصيات ليست غريبة بحرفية ومهارة خلال الفترة من 2000 إلى 2010، مثل شخصية «رو» في فيلم «Chocolate»، وشخصية «جون ديلينغر» في فيلم «Public Enemies»، قدمها جوني ديب بشكل جيد رغم أنها شخصية ليست غريبة الأطوار، وكذلك شخصية «جيمس ماثيو بيري» في فيلم «Finding Neverland».
كذلك شخصية «جاك سبارو» رغم غرابتها التي أضافها بنفسه جوني ديب بشكل جعل الجمهور العادي يتقبلها، بل وربما باتت الغرابة سر نجاح شخصية جاك سبارو في الأساس، تلك الشخصية التي بدأها في 2003، وتعد حاليًّا الأنجح على الإطلاق لديب والأكثر استمرارية، حتى إنني أشك في قدرته على الخروج منها أو التوقف عنها، وهي الاستثمار طويل الأجل الناجح الوحيد الذي يسند مسيرته الفنية حاليًّا.
بداية الإخفاقات: تشبُّع أم تخبط؟
مرت شخصية جوني ديب في فيلم «Into the Woods» مرور الكرام بين الممثلين، الذين تألقوا حقًّا في أدوارهم.
بدايةً من 2011 بدأ جوني ديب في مسيرة من الإخفاقات والأفلام السيئة والاختيارات الفاشلة، فأذكر جيدًا كيف أني أهدرت ساعتين من حياتي في مشاهدة فيلمه غير الناجح «The Rum Diary»، الذي صدمني وصدم كثيرين من جمهور ديب عن كيف يمكن تجسيد شخصية مملة إلى هذا الحد. أذكر جيدًا كيف أنني قررت بعد هذا الفيلم مراجعة تقييم أفلامه قبل مشاهدتها، كإجراء وقائي من تكرار تلك التجربة.
لم يكن الأمر مفاجئًا، فأداء جوني ديب في العام الذي سبقه في 2010 في فيلم «The Tourist» مثلًا كان باهتًا تمامًا أمام أنجلينا جولي، وكأن نجمه خفت منذ ذلك الوقت. وفي 2013 كان فيلم «The Lone Ranger» مثالًا حيًّا على فشل جوني ديب الذريع، فمن قصة سيئة إلى تمثيل رديء وإخراج سيئ أيضًا للمخرج «جور فيربينسكي»، وكأن كل ذلك لم يكن كافيًا لتكون مدة الفيلم ساعتين ونصف، الأمر الذي دفع بالفيلم إلى الفشل تجاريًّا وفنيًّا بشكل مؤكد، ولم ينجُ إلا بترشيحين للأوسكار، أحدهما عن الماكياج، بالطبع، فهو جوني ديب في النهاية، ولا بد أن في الأمر أزياء أو ماكياجًا غير مألوف، والترشيح الآخر كان للمؤثرات البصرية، ولم يفز الفيلم بأيهما.
توالت الإخفاقات بعد ذلك، فقدم أفلامًا بعيدة عن الغرابة، لكن عنصر الفشل التجاري والفني كان العامل المشترك بينها، مثل «Transcendence» في 2014، و«Mortdecai» و«Black Mass» في 2015، والأخير حاول فيه تكرار تجربة «Blow» بتجسيد شخصية زعيم عصابة شهير «جيمس وايتي بولغر»، لكن الفيلم جاء متوسط القيمة، ولم يحظَ بالنجاح المتوقع، وكذلك فيلم «Murder on the Orient Express» الذي جاء مخيبًا للتوقعات.
وسط تلك الإخفاقات كان هناك فيلم ناجح موسيقيًّا، هو «Into the Woods»، لكن شخصية الثعلب التي قدمها جوني ديب مرت مرور الكرام بين الممثلين الذين تألقوا حقًّا في أدوارهم بالفيلم، مثل «آنا كيندريك» و«ميريل ستريب» و«إيميلي بلانت»، فلا يحق أن نذكر «Into the Woods» وسط أفلام جوني ديب الفاشلة، لكن شخصيته في الفيلم تستحق الانضمام إلى تلك الأدوار الفاشلة بكل تأكيد.
كذلك الجزء الثاني من سلسلة «أليس» بعنوان «Alice Through the Looking Glass»، الذي فشل بشكل واضح تجاريًّا وفنيًّا، رغم أن شخصية صانع القبعات المجنون كانت مميزة في الجزء الأول، لكن الفيلم بأكمله، بدءًا من القصة إلى الشخصيات والإخراج، جاءت جميع عناصره ضعيفة بشكل ملحوظ، ما يجعل من الصعب التفكير في أجزاء أخرى لمغامرات أليس.
شارك جوني ديب أيضًا في فيلم «Fantastic Beasts and Where to Find Them» بدور بسيط من المبكر الحكم عليه إلا بعد الجزء الثاني في 2018.
الغريب أنه وسط كل تلك الإخفاقات قدم جوني ديب مرة جديدة شخصية جاك سبارو في الجزء الأخير من سلسلة «قراصنة الكاريبي»، وكعادة السلسلة نجح الفيلم نجاحًا كبيرًا كالمعتاد على الأصعدة كافة، الأمر الذي يؤكد أن الأزمة في اختيار الشخصيات والأدوار التي يلعبها جوني ديب منذ 2010.
الطريق نحو الهاوية.. ربما
لا يمكن لشخص أن يحدد لحظة النهاية لممثل ما، لكن الأمر يبدأ تدريجيًّا إلى النجاح، وينتهي تدريجيًّا أيضًا، مثل كرة الثلج التي تتدحرج ومن الصعب إيقافها، لكن ربما ببعض المجهود ومحاولات الإنقاذ يمكن أن تحيد بعض الشيء لتنتهي في مكان مختلف.
جوني ديب ممثل محظوظ دون أدنى شك. حظه بدأ بفيلمه الأول الذي انطلق به «Nightmare on Elm Street»، وكذلك مع علاقته المميزة بالمخرج تيم برتون التي تتخطى مرحلة الصداقة، فكلاهما الأب الروحي لابن الآخر. حظه كان واعدًا أيضًا حين اختار شخصية جاك سبارو عام 2003، وأضاف إليها كل هذا الزخم الذي جعلها شخصية ناجحة وثرية إلى يومنا هذا، لكن حتى الحظ لا يستمر مدى الحياة، فما كان يميز جوني ديب من قبل في بحثه عن الشخصيات الغريبة بات العيب الذي يؤثر في اختياره للأدوار، وجعله فريسة سهلة لأي فيلم ذي حبكة ضعيفة وأزياء غريبة، العنصران اللذان لا يصنعان نجمًا، ولا يجعلان الفيلم ناجحًا بالتأكيد.
من ناحية أخرى، حياة جوني ديب الشخصية ارتبكت بسبب الطلاق والمشكلات المادية مع الممثلة «آمبر هيرد» وشائعات إفلاسه. كل هذه الضجة قد تؤثر كثيرًا في اختيارات الممثل ومسيرته الفنية.
تشاهد الآن جوني ديب فتشعر بأن جعبته قد فرغت. الحاوي لم يعد مبهرًا، ولم يعد لديه جديد. ربما سأنتظر الجزء الجديد من «Fantastic Beasts» و«The Invisible Man» على أمل أن أجد جوني ديب الذي عرفته من قبل، لكن الأكيد أنه حاليًّا يحتاج إلى من ينقذه قبل فوات الأوان، إلى شخص يلعب الدور الذي لعبه تيم برتون في حياة ديب من قبل، ليعينه على تقييم الأدوار التي يختارها. ربما حينها فقط يمكن السيطرة على كرة الثلج المنطلقة بقوة نحو الهاوية.