في أواخر عام 2016، يوم 29 ديسمبر تحديدًا، كنت أجلس مع ثلاثة أصدقاء في الإسكندرية، فيما يُفترض أن تكون ليلتي الأخيرة في المدينة، بعد ثلاثة أشهر قضيتها هناك جرى فيها الكثير من الذكريات.
لحظتها كنا نجلس في أحد المطاعم الهادئة، وخطر على بالي أن أسألهم عن المخرج الذي يشاركهم بعضًا من هواجسهم نحو العالم. ليس المخرج الأفضل، وليس المُفضَّل؛ بل ذلك الذي يشعرون أنه يفكر كثيرًا فيما يفكرون فيه كثيرًا.
كنت أسأل في الحقيقة كي أتحدث معهم عن «يواكيم تريه» (Joachim Trier)، وأن الشيء الذي يشغله ويشغلني هو الزمن والذكريات وسؤال «ما الذي سيبقى؟».
كان العام ينتهي، وكانت رحلتي للمدينة تنتهي، اللحظة كلها تبدو نهاية لفصل وبداية لآخر، وحديث الزمن والذكرى و«يواكيم تريه» كان مُناسبًا لكل هذا.
كل شيء سيُنسى في أوسلو
لم يُخرِج النرويجي «يواكيم تريه» إلا ثلاثة أفلام فقط حتى الآن.
المرة الأولى التي شاهدت فيها فيلمًا له كانت أواخر 2012، ذهبت لمشاهدة (Oslo, August 31st) في سينما «سيتي ستارز»، إحدى أكبر دور العرض في القاهرة، خلال فاعليَّات بانوراما الفيلم الأوروبي.
عامل الجذب الأساسي حينها كان في اقتباسه من الرواية نفسها التي أخرج منها «لوي مال» (Louis Malle) فيلمه الكلاسيكي (The Fire Within) عام 1963. ذهبت دون توقعات، وكانت مشاهدة جيدة ليس أكثر، لكن بعدها بشهرين (يناير 2013)، حين شاهدت (Oslo, August 31st) مرة ثانية في منزلي، شعرت بتماسٍّ مع كل لحظة فيه، وأن هذا الرجل، الذي عرفت اسمه حينها: «يواكيم تريه»، يعرف الكثير.
شاهدتُ افتتاحية الفيلم تحديدًا عشرات المرات في ذلك الشتاء، الافتتاحية الممتدة لدقيقتين ونصف تتداخل فيها أصوات عديدة لأشخاص حقيقيين، يحكون عن شيء ما يخص المدينة، مدينتهم أوسلو، ويبدؤون بكلمة «أتذكر...» على صورة لمواد فيلمية قديمة أو مواد مصورة على خام 16 مم؛ لترسيخ شعور «الذاكرة».
في الأغلب لم ألحظ حينها هوس «يواكيم تريه» بـ«الزمن والذكرى»، ولكن لأني مهووس بهما؛ أصبحت الافتتاحية والفيلم في قلبي تمامًا.
هناك جملة دقيقة جدًّا في فيلم (Sans Soleil)، للمخرج الفرنسي «كريس ماركر» (Chris Marker)، يقول فيها: «نحن لا نتذكر؛ بل نعيد كتابة الذكريات».
دِقَّة الجملة تحديدًا في التقاطها كيفية عمل «الذاكرة»؛ صورة الماضي في أذهاننا ليست «ما حدث» فقط، ولكنها أيضًا نتيجة لتفاعلاته مع «ما يحدث» الآن و«ما سيحدث» لاحقًا، هذا ما يشكِّل «الذكرى»، كشيء قابل للتغيُّر طَوَال الوقت، وما تتذكره الآن عن لحظة ما ليس هو نفسه ما ستتذكره بعد عام أو اثنين أو ثلاثة، مع الأماكن، مع الأشخاص، مع المواقف والأحداث.
من القاسي جدًّا أن أكثر الأشياء التي ارتبطتَ بها يومًا يمكن أن تتحول لذكرى سيئة، والعكس بالعكس أحيانًا؛ لأننا ببساطة لا «نتذكر»، لا نتعامل مع شيء جامِد حدث وانتهى، ولكن «نعيد كتابة الذكريات» التي تتغير بتغيرنا.
مثلًا، الأماكن التي شهدت الثورة: ميدان التحرير، شارع محمد محمود، الشيخ ريحان، وغيرها، نحمل عنها ذاكرة جمعية مشتركة على الأغلب، لكن لم تعد «ذِكرانا» عن أحداثها القديمة بالشكل نفسه الذي كانت عليه في 2011، صارت مُحَمَّلة بتوابع السنين والثِّقل الذي لا يُحتمل لكل ما حدث.
وفي الذاكرة الشخصية تكون الأمور أوضح، هناك مئات الذكريات المتناثرة التي «نعيد كتابتها» مع حركة الزمن للأمام.
ومن اللافت جدًّا في سياق الذاكرة والزمن أن «غابريل غارسيا ماركيز»، حين كتب سيرته الذاتية «عشت لأروي» بعد 75 عامًا صاخبة وممتلئة، افتتحها فقط بجملة «الحياة ليست ما يعيشه المرء؛ بل ما يتذكره»، كأن تلك الكلمات الثماني اختصارٌ لكل شيء.
اقرأ أيضًا: هل علينا أن نشك في ذكرياتنا؟
«يواكيم تريه» يحمل تلك الهواجس الخاصة بالزمن وحركة الذاكرة تمامًا. ومع إعادة المُشاهدات لفيلم «أوسلو»، يبدو لبُعد «الذكرى»، ضمن أبعاد كثيرة ومختلفة تحملها الشخصية/الفيلم، قدرة شديدة على إيذاء البطل، فكل حركة في شوارع المدينة تذكره بما فاته هنا، تحمل له الصور المتتابعة حِمْل السنين القديمة، وهو الآن منبوذ في طرقات لم تعد تعرفه، وحين يصحو من النوم بالحديقة، يبدو ذلك تجسيدًا لحياته في تلك اللحظة: الجميع قد غادر.. وبقي وحده.
لقد أضاع بطل الفيلم الكثير من الوقت، اتخذ العديد من الخيارات السيئة، صار يخاف كل شيء؛ حتى الأمل، صار مُحاصرًا بكل شيء؛ خصوصًا الذكريات.
ولذلك، ففي واحد من أكثر مشاهد الفيلم حزنًا، يُخبر الفتاة «ريبيكا» التي تعرَّف إليها لتوه: «ستحظين بألف ليلة أخرى مثل تلك الليلة، ولن تتذكري هذا، كل شيء سيطويه النسيان». وحين تسأل: «كل شيء؟»، يفكر لثانيةٍ ثم يقول: «كل شيء (...) إنه قانون الطبيعة».
«يواكيم تريه» يعرف أن «الذكريات» والتجارب التي مررنا بها والأيام التي عشناها والأحلام التي لم نحققها والأذى الذي آلَمَنَا والأذى الذي آلَمْنَا به العالم، كل هذا ثِقَل نسير به فوق ظهورنا ولا نستطيع الهرب منه، تمامًا كبطله «أندرش لاي»؛ الذي لم يعد راغبًا حتى في الأمل أو البدايات.
قد يعجبك أيضًا: حسين الإمام: ثِقَل لا يمكن وصفه
كل شيء بدأ في المدينة نفسها
بعدها بوقت قليل شاهدت فيلم «يواكيم تريه» الأول (Reprise) إنتاج 2006. بدا كأنه تمهيد (في القصة والأسلوب) لما سيفعله بعد ذلك، بنضج أكبر، في «أوسلو»، بل إن واحدة من شخصيتيه الرئيسيتين، «فيليب»، تظهر وكأنها مرحلة أسبق من حياة «أندرش»، والشخصيتان بأداء الممثل نفسه: «أندرش دانيلسين لاي» (Anders Danielsen Lie).
كلاهما مرتبط بالكتابة؛ في (Reprise) يكون في بدايته، وفي «أوسلو» يتحدث الجميع عن أنه كان موهوبًا قبل سنوات. كلاهما يمر بتجربة صعبة؛ صدمة ومحاولة انتحار في (Reprise)، إدمان ودمار كامل في «أوسلو». كلاهما يحاول استعادة حبيبته؛ بأمل حقيقي في (Reprise)، وبيأس المحاولة الأخيرة في «أوسلو». كلاهما يعود لمدينته بعد وقت ويجد صعوبة في التأقلم مع كل شيء حوله، حتى الأصدقاء والصُّحبة والبيوت، فكل شيء يذكره، وكلاهما يعاني مع الذكريات.
الذاكرة أعلى صوتًا من القنابل
خصوصية التعامل مع «الزمن والذكرى» تبدو أكثر وضوحًا في فيلم «تريه» الثالث «أعلى صوتًا من القنابل» (Louder Than Bombs) ذي الإنتاج الأمريكي/الفرنسي/النرويجي المشترك، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان «كان» عام 2015، ونال استقبالًا فاترًا، الأمر الذي أجَّل موعد إطلاقه في الولايات المتحدة إلى فبراير 2016، وأجَّل مشاهدتي له حتى ديسمبر من العام نفسه، حين شاهدته مرتين في ثلاث ليالٍ هادئة وحزينة.
«أعلى صوتًا من القنابل» قائم بالكامل على تفاعلات الذكريات وفوضاها. في صورته المباشرة، فإن الحدث الرئيسي الذي يدور حوله هو عائلة المصورة الفوتوغرافية الراحلة «إيزابيل»، ورغبة الأب والابن الأكبر في إخبار الابن الأصغر ذي الاثني عشر عامًا، في ذكراها الثانية، أن والدته لم تمت في حادث كما صُوِّر الأمر، لكنها في الحقيقة انتحرت.
جوهر الفيلم عن «ذكرى إيزابيل» في عقول الشخصيات الثلاث. الابن الأصغر هو المحرك الرئيسي، الفتى الذي لم يستطع حتى الآن تجاوز المساحة الفارغة من تلك التي كانت تملأ المكان هنا؛ ذكرى الأم بالنسبة له مثالية وملائكية للغاية، صورتها في خياله دائمًا باهية، «لقد علم أنها كانت تراه طَوَال الوقت، وتظاهرت أنها ليست هنا لكنها لم تبتعد كثيرًا، وهو.. كان دائمًا في عينيها».
الابن الأكبر في المُقابل يتحرك بـ«عدم تصالح مع ذكرى الأم»، لا يفهم تحديدًا كيف أن تلك المرأة القوية والناجحة والمثيرة للإعجاب قررت ببساطة أن تستسلم وتنتحر. يخجل من ذلك لدرجة العجز عن إخبار زوجته بالأمر، والشعور أنها «قد تتركه لو عرفت»، وتزداد الأمور تعقدًا حين يرى في ملفاتها القديمة صورة مع رجل غريب، فتزداد «ذكراها» ضبابًا وعدم تصالح.
وأخيرًا هناك الأب، الشخصية الأكثر تعقيدًا، والذكرى المختلطة بين الغضب؛ لأن السيدة التي أحبها طول حياته لم تستطع ترك مهنتها كمصورة حروب والبقاء في المنزل عدة أشهر إلا وشعرت باليأس وقررت الانتحار، والذنب؛ لأنه في الحقيقة مَن دفعها لقرار ترك عملها وبالتالي مسؤول، حتى لو كان في قلبه فقط، عن موتها، مع الكثير من الأسف لأن ذلك هو ما سارت إليه الأمور.
تمامًا كأسف الذكرى التي تقول له فيها: «إنك رجل محظوظ، تمتلك كل شيء»، فيرد: «كل شيء.. إلا أنتِ»، فتنظر له لثوان، ثم تهز يدها بقلة حيلة وتقول: «إلا أنا».
يتفاعل حاضر الشخصيات الثلاث مع ذكرياتهم، مع الحِمْل الذي يتحرك به كلٌّ منهم على حِدة؛ عدم التجاوز، وعدم التصالح، وخليط الذنب والغضب والأسف، ليشكل عملًا فوضويًّا تتداخل فيه المشاهد كقطع «بازل» صغيرة.
تلك الفوضى، التي ساءَت هؤلاء الذين لم يعجبهم العمل وأعطوه تقييمات منخفضة عند عرضه في مهرجان «كان» ثم أمريكا، هي ذاتها نقطة قوته بالنسبة لي.
الذاكرة ليست خَطِّيَّة ولا مرتبة ولا متتابعة، الذاكرة متداخلة ومتغيرة وفوضوية، ولا يوجد أي وسيط آخر قادر على استيعاب هذا الفيض من الذكريات وتتابعات الصور التي نحملها تجاه الغائب، مثلما تحمل السينما في فيلم «تريه» الثالث هذا.
في واحد من المشاهد العظيمة في الفيلم، يسير الابن الأصغر في السادة صباحًا مع الفتاة التي يحبها في الشارع، كمشهد «أوسلو» الأيقوني الشهير.
تكون اللحظة الأولى التي يُستخدم فيها صوت الفتاة كتعليق على الصورة، وتقول، كأنها تتحدث عن شخصين في رواية: «بعد مرور عدة سنوات يستطيع تذكر هذا المشهد بكل تفاصيله؛ تلك الشعيرات التي جمعتها خلف أذنها، الجبيرة المعلقة فوق رقبتها، رائحة المكان الرطبة، يتذكر الأنوار التي أُطفئت بعدما مرَّا من أمام منزل كيفين أندرسون».
وبعد جُملتها الأخيرة تتسع الصورة عليهما، ونشاهد، في عُمق الكادر، «نور العامود» في الشارع، وبعدها بثوانٍ نشاهد الأنوار أمام منزل «كيفين أندرسون» وهي تُطفأ فعلًا، فنشاركهما «الذكرى» كأننا جزء منها.
وتلك اللحظة، العابرة جدًّا هي في الحقيقة خُلاصة ما يُحرِّك «تريه»: ما الشيء الذي سيتذكره الناس بعد سنين وسنين من كل هذا؟ هل كل شيء سيُنسى كما يرى بطل «أوسلو» بعد أن أرهقه الزمن؟ أم أنه بعد عدة سنوات سيتذكر «كذا وكذا»، كما تقول الفتاة عن بطل «Louder Than Bombs»؟
كيف سنتذكر؟ وكيف سنعيد تدوين الذكريات؟