كيف نتغير في يوم وليلة؟ كيف يتبدل سلوكنا مثل جلود الزواحف بين عشية وضحاها لنصير مختلفين عن أنفسنا؟ عقل الإنسان يعمل في صمت، يراقب ويخطط ويصل إلى قرار في لحظة واحدة، وهو لا يدري شيئًا عن المعارك التي دارت بداخله.
أما عن المشاعر، فإنها أكثر تعقيدًا. لا ندري كيف تُخلَق المشاعر، كل ما نعرفه أنها لا تظهر فجأة: تولد وتنمو لتكبر ثم تموت. لكن كيف ننام وقلبنا مليء بالأسى، لنستيقظ بمشكلة عظيمة تستمر معنا فترة من الزمن تكفي لتدمير حياتنا؟
في الفيلم الفرنسي «Jalouse» (التي تغار) إنتاج عام 2017، مأساة لا نتمنى أن نتعرض لها أو من نحب. مأساة يمكن أن تصيب أيًّا منا للأسف، ودون سابق إنذار.
ما الذي أصاب «ناتالي» ليلة عيد الميلاد؟
يبدأ الفيلم بحفلة عيد ميلاد سرية تقيمها ناتالي، الأستاذة الجامعية، لابنتها «ماتيلد» ذات الثمانية عشرة عامًا. جميع الحضور يبدو عليهم السعادة: الأم، والابنة، وصديقها الحميم، والأب الذي انفصل عن الأم، وزوجته الشابة أيضًا. ناتالي نفسها ظلت تردد: «أنا سعيدة لأجل ماتيلد».
لم يحدث شيء واضح تلك الليلة. ما يحدث كان داخل ناتالي، التي تنظر إلى جمال ابنتها كأنها تراه لأول مرة. ترى زوجها وحبيبها السابق مغرمًا بامرأة أخرى أكثر شبابًا. ربما كانت ناتالي سعيدة لأجل ابنتها، لكن تنقصها سعادتها الخاصة.
تصارح ناتالي صديقتها في نهاية الأمسية: «أخبَروني كم كانت ابنتي جميلة ورائعة، ولم يتحدث أحد عني». ثم تعلم أن زوجها السابق قرر اصطحاب زوجته الجديدة في رحلة إلى جزر المالديف، فتقول: «هل علينا (النساء) أن نكون أغبياء لنصحبهم إلى جزر المالديف؟».
ناتالي لم تفتقد السعادة فقط، بل ترى الآخرين لا يستحقون أن يصبحوا سعداء أيضًا.
التحول
ماتيلد الجميلة رشيقة الجسد التي لا تفعل شيئًا سوى الباليه والتسكع مع صديقها، لم تدرِ ما ذنبها لتصبَّ عليها الأم غضبها بين الحين والآخر.
تنام ناتالي هذه الليلة لتستيقظ شخصية أخرى. تفرط في الشراب، وتتأخر على محاضراتها. إنها لا تدري ما بها.
عندما تذهب إلى الطبيب تخبره بأنها صارت تغضب من كل شيء. يقول لها الطبيب إن هذه المشاعر طبيعية لأنها تمر بمرحلة سن اليأس. ولأنه يريد أن يكون لكلامه وقع لطيف عليها، يردد أنها «مرحلة انتقالية». تثير الكلمة اهتمام ناتالي: «انتقالية؟ من أين؟ إلى أين؟ هذه لا يمكن أن تكون مرحلة انتقالية، إنها حياتي».
تغار ناتالي من زميلتها المدرِّسة الشابة، وتسخر منها، وترفض التعاون معها. يظهر هذا في جملتها التي تقولها لها: «لأنك في الثامنة والعشرين، لا يُمكنك فعل أي شيء تريدينه».
تظهر مشاعر ناتالي في كلماتها. تظن أنها لو عاد بها الزمن إلى الوراء لاستطاعت أن تفعل أي شيء تريده. فجأة يصير الزمن عدوًّا لها.
تقول لابنتها ماتيلد، دون سبب واضح: «أنتِ فقط فضَّلتِ الجسد على الروح».
ماتيلد الجميلة الرشيقة الجسد التي لا تفعل شيئًا سوى الباليه والتسكع مع صديقها، لم تدرِ ما ذنبها لتصبَّ عليها الأم غضبها بين الحين والآخر. ولأنها تشعر بالإحباط الذي تعانيه أمها، تصمت. أما ناتالي، فكانت تنشر جوًّا من العداء والسلبية أينما ذهبت.
الشراسة
ما يصيب ناتالي من تغيُّر يجعلها أكثر شراسة، ليس فقط مع أقربائها، بل أيضًا مع من ليسوا من أقربائها. تأتي المرحلة الأكثر تقدمًا، عندما تُفسد رحلة زوجها السابق وزوجته لتمنعهما من السفر إلى جزر المالديف كما كانا ينويان.
كان صعبًا عليها أن تتركهما يسافران وينعمان بالسعادة، بينما هي وحيدة تعاني الاكتئاب. تُفسد رحلة زوجها السابق وزوجته من دون أن يظهر عليها أي تردد أو أدنى شعور بالذنب. تفعل ذلك كأنها تدافع عن حقها المشروع.
يأتي إليها شاب وزوجته، انتقلا إلى البناية حديثًا، ويطلبان بعض الملح، فترفض إعطاءهما ما يريدان. ربما لو لم يكونا صغيرين في السن، لكانت أعطتهما الملح.
هذا الموقف يؤكد أن تلك المرأة لا تطيق أن ترى إنسانًا يحصل على ما يريد، حتى لو كان قليلًا من ملح. ما الذي أوصلها إلى هذه الدرجة؟ ما الذي ينقصها؟
فقدان السيطرة
تتأزم الأمور بعدما تطرد ناتالي صديقها «سباستيان» من منزلها خلال العشاء، لأنه ينظر إلى ماتيلد، ما يثير غضبها. تذهب إلى ابنتها قائلة: «هل يجب عليكِ أن تتبختري أمام فتاي؟».
الغيرة تعمي ناتالي عن الحقيقة لترى أشياء لا يراها غيرها.
حتى صديقتها «صوفي» لم تسلم من أذاها. فعندما تخبرها بأن زوجها سيصطحبها إلى فينيسيا، تقول لها: «أليس هذا مُبتذلًا؟»، فتنكسر فرحة صديقتها قليلًا، حتى تقول ناتالي: «لم يصطحبني أحد إلى فينيسيا». تسألها صوفي: «ألم تقولي منذ لحظة إن ذلك مبتذل؟»، فترد في أسى: «أنا أحب الأشياء المبتذلة».
النقطة الفارقة في حياة ناتالي عندما تضع التوابل في طعام ابنتها عالمةً أن لديها حساسية، فقط قبل مسابقة الباليه التي تستعد لها منذ فترة.
تقرر ناتالي أن الوقت حان لإغضاب صديقتها، فتخبرها بأنها رأت زوجها مع امرأة أخرى، وأن صوفي محظوظة لأن ابنتها قبيحة وليست مثل ماتيلد.
ضربات ناتالي الموجعة تصيب صوفي بالصدمة، فتخبرها بأنها تعلم أن زوجها في علاقة مع أخرى، لكنها لم تكن لتخبرها لو كان الوضع معكوسًا، وأنها لم تكن لتخبرها لو كانت ابنتها قبيحة أيضًا. ثم تصارح ناتالي بما تراه موطن دائها الذي لم تكن ناتالي على وعي به: «أنتِ تريدين أن تنشري ألمك».
صديقتها اللماحة تدرك أن ناتالي تتألم من الداخل إلى حد لا تستطيع احتماله. لذلك عندما تزور الطبيب للمرة الثانية تخبره بمشاعرها، وتقول إنها فقدت السيطرة على تصرفاتها، تتصرف باندفاع ثم تندم. تضيف في ما يشبه الاعتراف: «عندما لا نكون على ما يرام، تزعجنا سعادة الآخرين».
الانهيار
الحدث الأكبر الذي يمثل النقطة الفارقة في حياة ناتالي، عندما تضع زيت الجوز في طعام ابنتها، عالمةً أن لديها حساسية من التوابل، فقط قبل مسابقة الباليه التي تستعد لها منذ فترة.
لم يوضح الفيلم ما إذا فعلت ناتالي ذلك عن عمد أم لا، لكن ربما فعلها لاوعيها. صحيح أن ذلك يحدث في ليلة مهمة جدًّا بالنسبة إلى ماتيلد، وأن هذا الموقف يسبق بدقائق وقوفها أمام المرآة ممسكة بشعرها الطويل الجميل، لكن الأم لا يمكنها أن تؤذي ابنتها بهذا الأسلوب العنيف.
بعد هذا الحدث يتغير كل شيء فجأة. تسعى ناتالي إلى أن تُشفى وتعود كما كانت.
الشفاء
عدد من العوامل يساعد ناتالي في رحلة شفائها: وقوف صديقتها صوفي إلى جوارها، وعودة صديقها إليها بعد اقتناعه بأنها لم تكن على ما يرام تلك الليلة التي طردته فيها. لصديقها وصديقتها بالغ الأثر في سيطرتها على مشاعرها السلبية تجاه من حولها.
الموقف الذي يؤثر في ناتالي يحدث عندما تشتري بعض الأسطوانات القديمة لسباستيان. يخبرها البائع بأن الصوت الحقيقي هو القديم. ربما تُغير هذه الجملة شيئًا في داخلها، فليس كل قديم لا قيمة له ومصيره إلى الزوال كما كانت تظن.
بعدما تسوء حالتها ويستبعدونها من الجامعة، تجد وقتًا لممارسة اليوغا والسباحة، وتتعرف إلى سيدة مسنة تقضي معها وقتًا لطيفًا، وتتمكن من أن تفصح لها عما بداخلها. تخبرها السيدة بأنها ستولد من جديد، فاسمها يدل على هذا. «ناتالي» اسم روسي الأصل، يعني الميلاد أو الكريسماس.
هل من الممكن أن نتغير في يوم وليلة لتمتلئ قلوبنا بالحقد ونكره أن نرى غيرنا سعداء؟
تتحسن وتعود إلى العمل ويقابلها الطلاب بترحاب كبير. ورغم أن ماتيلد لم توافق على التواصل معها بعد، فإنها تدعوها إلى حضور المسابقة التي تشارك فيها. للأسف لا تُقبَل ماتيلد، لكن أمها تنتقد لجنة التحكيم علنًا، وتوبخ أعضاءها لأنهم لم يتمكنوا من رؤية كيف كانت الفتاة ترقص ببراعة.
بالرغم من الغضب الذي كان يبدو على وجه ماتيلد وهي تقول لأمها: «لقد أحرجتِني»، فإنها كانت سعيدة لأنها شعرت بحب أمها، ذلك الشعور الذي غاب عنها طويلًا.
تبدأ الأشياء في العودة إلى طبيعتها. صحيح أن سباستيان في رحلة عمل في اليابان لمدة عام، لكن ناتالي تتواصل معه عبر الإنترنت.
تعود ماتيلد إلى البيت. وعندما تجد ناتالي نفسها وحيدة، تقرر الذهاب إلى زيارة جاريها الزوجين الشابين، ومعها بعض الملح. المفاجأة أنها تجدهما غاضبين لأن الزوج غيور. تُطمئن ناتالي الزوج بأن الغيرة جزء من الحب. وعندما يسألها ماذا عنك؟ هل أنت غيورة؟ تجيبه: «أنا؟ لا، لا أعتقد».
اليقين
رحلة ناتالي من بدايتها إلى نهايتها تدعو إلى التفكير: هل من الممكن أن نتحول في يوم وليلة لتمتلئ قلوبنا بالحقد ونكره أن نرى غيرنا سعداء؟ هل تغيرنا أم إن هذه طبيعتنا التي تبدو نائمة حتى يُوقظها وجع ما؟ ماذا عن الشفاء؟ كيف لنا أن نضع إحباطاتنا وآلامنا جانبًا، ونتمنى السعادة لغيرنا، بينما نحن في أشد الحاجة إليها؟
نعلم أن مرض الابنة ماتيلد، الذي تُعد الأم سببًا مباشرًا فيه، كان بمثابة صدمة جعلت ناتالي تدرك أن غيرتها قد تُذهِب بحياة ابنتها. إذًا، قد يكون الشفاء في ما نملكه بالفعل، في النِّعم والهبات التي أعطاها الله لنا، والتي لو زالت لعرفنا معنى الحرمان.
الشباب الذي ذهب يترك مكانه للثقل والأصالة والحكمة التي يتمتع بها المرء في منتصف عمره. نغدو حقيقيين بمرور الزمن، لنا قيمة أعلى مما نظن. الحبيب الذي يمضي، يأتي غيره ليسعدنا ويُهوِّن علينا مصاعب الحياة.
كل شيء يصير أفضل بمرور الوقت وفهمنا لأنفسنا. ربما نتعلم من رحلة ناتالي القاسية أننا حقًّا نملك كثيرًا من النعم حتى إذا كانت السعادة تنقصنا.